“المليونير”.. الفقير يصلح حياة الغني
ما زال فيلم “المليونير” الذي أخرجه حلمي رفلة، وأنتج وعرض في العام 1950، من أظرف أفلام الكوميديا الغنائية المصرية، وعندما نشرت منذ سنوات قائمة بأفضل أفلام الكوميديا المصرية في القرن العشرين، لم أتردد في أن يكون هذا الفيلم ضمن القائمة، بل لعله أيضا من أفضل أفلام صنّاعه، وخصوصا المخرج حلمي رفلة، الذي بدأ ماكييرا، ثم صار مخرجا ومنتجا، وكانت أفلامه في زمن الأبيض والأسود، ومنها فيلم “المليونير”، أفضل كثيرا من أفلامه بالألوان الكاملة.
أول ما يلفت النظر في فيلم “المليونير” أنه ثمرة تعاون أسماء كبيرة، فكاتب قصة الفيلم هو الشاعر الكبير مأمون الشناوي، صاحب الأغنيات الشهيرة لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش، من “انسى الدنيا” لعبد الوهاب و”الربيع” لفريد الى “ودارت الأيام” و” أنساك” لأم كلثوم و” في يوم من الأيام” لعبد الحليم حافظ. ومأمون أيضا صحفي كبير، لحقت كتاباته الأخيرة في جريدة “الجمهورية”، حيث كان يحرر بابا بعنوان “جرّاح قلب” كان يحل فيه مشكلات القراء العاطفية، وهو أيضا شقيق الكاتب الصحفي الكبير كامل الشناوي، ومأمون، مثل كامل، كان أيضا من كبار الظرفاء، تروى باسمه دعابات كثيرة، منها أنه كان يعتبر نفسه أكبر “مديونير في مصر”، لكثرة ديونه، ولعله كتب قصة “المليونير” من باب الاحتجاج على وضعه كـ”مديونير عتيد”.
أما كاتب السيناريو والمنتج فهو أنور وجدي، صاحب الصفحة الهامة في مجال الفيلم الغنائي الاستعراضي، أو ما يمكن أن نسميه ب”الميوزيكال المصرى”، حيث توليفة قصة الحب البسيطة، والكوميديا، والموسيقى والغناء والرقص، والنهاية السعيدة، وفيلمنا “المليونير” عمل نموذجي في هذا الإطار، وإن غلبت عليه الكوميديا، لأن البطل اسماعيل ياسين، وليس أنور وجدى وليلى مراد.
الحوار والأغانى
الحوار والأغانى (ولهما دور محوري في الفيلم) كتبهما أيضا أحد كبار كتاب القصة والسيناريو والحوار والأغاني في تاريخ السينما المصرية وهو أبو السعود الإبياري، الذي ارتبط أيضا بتأليف مسرحيات اسماعيل ياسين، ويمكن اعتباره توأمه الفني، مثل توأمة الريحاني مع بديع خيرى، وبالمناسبة فإن الإبياري تلميذ بديع، تعلم منه بالذات فن كتابة الحوار، وربما يحتاج الأمر الى دراسة مستقلة لتحليل بناء الحوار عند الإبياري، من حيث الإيقاع ومناسبته لكل شخصية، بالإضافة الى خفة ظله وابتكاراته المدهشة، وقد صارت جمل حواره من مأثورات الجمهور المصري والعربي، وخياله الفذ في استعراض المجانين في فيلم “المليونير” يكشف عن موهبة عظيمة ونادرة.
هناك أجزاء كاملة شديدة البراعة مثل غناء الخادمة سكرة باستخدام نفس مفردات المطبخ: “حتروح فين وتسيبنى لوحدي/ أغسل حلل البيت بدموعي/ واطبخ على نار شوقى ووجدي/ والقهوة اعملها على ضلوعي”، ومثل العبارات المسجوعة في حوار اسماعيل ياسين مع عنتر بن شداد، وهى من أعلى مناطق الخيال في الفيلم حيث يخرج عنتر بأداء سراج منير من فيلم “مغامرات عنتر وعبلة” (1948)، والذي حقق نجاحا ساحقا من إخراج صلاح ابو سيف، ليدخل فيلم “المليونير” ومعه امرأة تدعى سنية بُلط تلعب دورها وداد حمدي!
عنتر يقول مثلا: “تعرف حيحصلك إيه يابنى ظلط/ لو ما تجوزتش سنية بُلط” ، فيرد جميز بنفس القافية: “يبقى حتموتني غلط”، وهناك استخدام فن القافية المصري في سخرية جميز من اسم قصب الذي يحمله أحد الموظفين، فيسأله: “وازي الأسرة لبشة لبشة وعود عود؟”، ويضيف: “ان شالله ما تكونش صحتك مزعزعة”.
الفيلم كذلك بطولة اسماعيل ياسين، ويسبق بطولاته الأشهر في الأفلام التي تحمل اسمه، وهو هنا بطل مطلق، بل إنه يقوم بدورين، دوره كمونلوجست وكمليونير معا، جعل “المليونير” من أفضل الأفلام التي لعب اسماعيل فيها دورين، وهى حيلة تكررت في أفلام أخرى، ربما لم يجد صعوبة في أداء دور جميز المونولوجست، لأنه ببساطة يؤدى دوره كاسماعيل ياسين المونولوجست بالفعل، والذي كان يقدم نمرا ونكاتا في الملاهي، ولكن دور عاصم الاسترليني مختلف تماما عن شخصية اسماعيل ياسين، ففيه الكثير من التجهم والجدية هيئة وصوتا وحركة، بل يفترض أنه قاتل أيضا.
ورغم هذه البطولة المطلقة، إلا أن ياسين عاد بعد المليونير لأداء دور صديق البطل في أفلام كثيرة تالية، مثل “في الهوا سوا” في العام التالي مباشرة (1951) قبل أن ينطلق بعدها الى بطولات مطلقة كثيرة ومتتالية، ولاشك أن أنور وجدى من أوائل الذين تنبهوا من خلال “المليونير” الى قدرة اسماعيل ياسين على القيام ببطولة فيلم بمفرده.
الحدوتة والمعنى
الملاحظة الثانية هى أن “المليونير” يقدم “حدوتة” بسيطة بذكاء وخفة ظل، ولكنها ليست حدوتة بلا معنى، ذلك أنه يحترم أولا النوع الغنائي الكوميدي، ويقدمه بأعلى درجات الإتقان، ولأنه ثانيا يقول من خلال الحكاية أشياء هامة عن علاقة الغنى بالفقير، وعن رؤية مؤلف القصة عن هذه العلاقة.
من حيث النوع، ولنسمه “الميوزيكال المصرى” (أو الفيلم الموسيقي المصري)، كما اقترحت سابقا، فإن “الحدوتة”، أي الحكاية، لابد أن تكون بسيطة بالأساس، والشخصيات واضحة، والغناء والموسيقى عنصران أساسيان في السرد، بل إن هناك مشاهد بأكملها تكتب شعرا وغناء بدلا من سردهما كحوار درامي، من هذه المشاهد مثلا مشهد الحانة (عينى على ينّي وقهو ينّي)، ومنها هذه الكلمات الشهيرة : “حسنة يافندي/ واحد براندي”، وهى لوحة غنائية كاملة عن البارات، ومشهد محاولة اسماعيل ياسين مغادرة القصر، الذي تحول الى الدويتو الشهير “عايز أروح/ ما تروحشي”، ومثل استعراض المجانين المدهش، الذي يستدعي كل مجانين التاريخ.
الحقيقة أن العمل الموسيقى والغناء، الذي تتحول فيه خادمة الى مطربة، يضع من البداية قانونا يقترب من خيال الحكايات والحواديت البسيطة، وعلى هذا الأساس يتقبل الجمهور الفيلم، ولا ننسى أن الحواديت ما زالت تعيش في الذاكرة، سواء من حكايات الأمهات والجدات، أو في نماذج الأدب القديمة، وأمهات فن الرواية مثل مجلدات “ألف ليلة وليلة” وغيرها، ومن هنا يأتي سحر الحواديت رغم بساطتها، ومن هنا يتقبل الجمهور خيال ظهور عنتر في فيلم آخر كوميدي، ودخوله في زمرة المجانين، ويتقبل أيضا كسر الإلهام، عندما يقول جميز (اسماعيل ياسين) لأسرة عاصم التركية: “مجانين.. مخابيل.. من عيلة اسماعيل ياسين”.
هنا حكاية رجل ثرى اسمه عاصم الإسترلينى، أساء إدارة حياته تماما على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية، لجأ الى مونولوجست فقير يشبهه تماما في الشكل اسمه ليحل محله، وافق جميز، ولعله كان يمتلك (مثل الجمهور) فضولا كاسحا لكى يكون غنيا لمدة وجيزة، لكن المدهش فعلا أنه نجح في اعادة إصلاح حياة عاصم الاسترلينى، وكانت مكافأته أن يعثر في القصر على الحب، من خلال ابنة طبقته الخادمة سكرة، والتي أيضا ستكون شريكة فنه في الملهى الذي يعمل فيه.
ضربة طائشة
بساطة الحكاية لا تخفي دلالات كثيرة مقصودة أو غير مقصودة، فالثروة تبدو كما لو كانت ضربة طائشة، فرغم أن جميز نسخة شكلية من عاصم، ورغم أنه أظرف وأذكى منه، إلا أن الثروة وصلت عشوائيا الى عاصم الغبي المتهور، الذي لا يتردد في القتل لمجرد أنه رأى زوجته تقابل شخصا آخر.
وعاصم الفقير الذي يربح عشرين قرشا في الشهر، هو ما يعادل دولارا فقط بمعيار هذه الأيام، ينبهر في البداية بفكرة الثراء، وبأنه سيكون بديلا لمليونير، ولا يتردد في أن يذهب ليشرب مع سائقه ومعه العربة الفارهة، ولكنه سيكتشف في القصر أنه سجين ومطارد، وأنه تورط في حياة لا تشبهه ولا يحبها، بل إنه أيضا، والتزاما بالاتفاق، رجل أمين، لا يريد أن يلمس زوجة عاصم الاسترليني، حتى لو كانت بجمال وإغواء كاميليا.
ينحاز الفيلم إذن الى الفقراء، ولكنه لا يتجاوز الحدود أبدا، فالمقامات محفوظة، وجميز الذي يغنى للعز وعيشة العز، سرعان ما يكره القيود، فيغنى مع الخادمة سكرة ” فين الفول فين الطعمية/ فين الفجل فين الكرات/ لو كان كدة شرط البهوية/ يحيا العدس عشر مرات”، وهو لا يجد نفسه، ولا تتحرك مشاعره إلا في المطبخ مع سكرة، فيطلب منها قبلة، ولكن الخادمة ترفض، وهو عكس المشهد الذي جرى في حجرة النوم، حيث تطلب زوجة عاصم القبلة، ويرفض جميز، لأنه لا يمكن أن يقبل شيئا لا يستطيع أن يرده.
بعض الأفلام التي أنتجها أنور وجدي وقام ببطولتها مثل ” بنت الأكابر” و”ياسمين” كانت تجعل الحب وسيلة لزواج الفقير من بنت الباشا، وكسر الفوارق الطبقية، ولكن “المليونير” يحدد مهمته بدقة، فلا يتجاوز جميز مهمته أبدأ، بل إن عليه أن يصلح ما أفسده عاصم بغبائه، سواء في موقفه من عشيق زوجته الوهمي، أو حتى فيما يتعلق بأسهم البورصة، والتي يحلها جميز بمكالمة سوء تفاهم، وكأن الأرباح في البورصة ايضا مجرد ضربة حظ، بدليل أن المونولوجست، لا يعرف معنى البورصة، كسب أرباحا للمليونير الأصلى.
أسرة عاصم نفسها ليست أقل رعونة منه، ويصلون في النهاية الى اتهام جميز بالجنون، وادخاله المستشفى، ثم يظهر الأقارب الأتراك، في صورة أقرب الى الجنون الكامل، والغباء المطلق، استمرارا لصورة الأتراك في مسرحيات كثيرة سابقة مثل “العشرة الطيبة” و” شهر زاد”، نعرف بالضبط سر شراسة عاصم، فالطبقة بأكملها مضطربة، في مقابل ذكاء وحكمة الفقراء، ورغم ذلك ينجح جميز في مهمته.
الغنى والفقير
“المليونير” في جوهره لعبة لاكتشاف معدن الفقير والغني، خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بالصدفة، ثم يفترقان بعد أداء المهمة. يبدو الثراء من لوازم الأغبياء، ويبدو الفقر من لوازم الأذكياء. عالم مجنون يحكمه الغش والنفاق والكذب. كل فئة تعود الى موضعها، الزوجة تسامح زوجها عاصم، حتى لو كان قد انتوى في لحظة جنون أن يقتل شقيقها، وجميز يخرج من القصر بخادمة مثيرة، وبمطربة خفيقة الظل، مكافأة عاصم في أن يخرج من مشكلاته وهو بعيد عنها، وكأن داء التنبلة مستمر، ومكافأة جميز أن يعثر على حبيبة، وأن يتزوج، وأن يقنع أيضا بحياته، بعد أن رأى حياة الثرياء الفالصو، المهددة بالإنهيار في أى لحظة، فلا شئ يجزم بأن عاصم، بغبائه ونزقه، سيتعلم شيئا مستقبلا من كل ماجرى,
تقول سعاد مكاوي مرددة كلمات الإبياري العجيبة: “ما تلبخشي لتضيّعنا/ خللي كلامك يبقاله معنى”، فيرد اسماعيل ياسين بمنتهى العبث: “محشى كرنب عليكي اللعنة/ يعنى غلطنا في البخاري”، كانا يريدان تضليل الأتراك الأغبياء في الملهى بارتجال كلمات مضحكة.
ولكن “المليونير” لا يعبث ولا يسلي ولا يضحك فحسب، ولكنه يحكي حدوتة بمهارة وبساطة، ويحتفل بالحياة بالضبط مثل حواديت ألف ليلة وليلة وقصة مغارة على بابا.
وعندما يقول البطل “جزر” يظهر الشبيه المخالف فورا، ليقول “شبيك لبيك”، وليشهد وجود عاصم الغبي الثري، وشبيهه جميز الفقير الذكي، شهادة ضمنية على عبثية الحظوظ والحياة، وعلى أن الشكل واحد، ولكن الحظ والمال والعقل ليس واحدا أبدا.