المخرج فارس قُدْس: المحليّة والفُكاهة كلمتا سر التفوّق

في أواخر عام الوباء، 2020، تم الإعلان عن فيلم سعودي اسمه “شمس المعارف”، إنّه اسم الكتاب ذو السمعة الشيطانية في العالم العربي باعتباره كتاب للسحر والشعوذة وتسخير الجان.

عُرض الفيلم في دور السينما السعودية وكذلك على شبكة “نتفلكس”. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُعرض فيها فيلم سعودي في دور السينما، لكنّها المرة الأولى التي يُلاقي فيها فيلم سعودي هذا النجاح الساحق، لأن الأفلام السعودية لا تحقق عادةً النجاح بين المشاهدين المحليين، لأسباب كثيرة، منها عدم وجود أفلام سعودية أصلًا، وثانيًا فقدان الثقة بالإنتاج الدرامي الخليجي عمومًا، والمقصود هنا المسلسلات تحديدًا، التي لا تخرج عادةً عن مواضيع معلبة لها علاقة بحياة الترف، والخيانات الزوجية والمكائد وغيرها من القصص التي لا تُشبع حسا ولا تروق لذائقة.

بعد النجاح الذي حققه الفيلم كان لا بد من البحث عن الأسماء التي تقف خلف هذا العمل الذي لم يحقق نجاحه من فراغ، فالقصة مبتكرة، رغم أنّها ليست جديدة، والشخصيات مُصاغة باهتمامٍ، والتشويق يبدأ مع مواء القطط (أو البسس في اللهجة الجدّاوية) في المشهد الافتتاحي، وبدأت الجمهور ينتبه على اسم المخرج الشاب: فارس قُدُس.

بدأ فارس قُدُس، الذي وُلد في جدة في 1993، مثل السواد الأعظم من المخرجين في السعودية، من اليوتيوب، وكان ذلك متنفسًا للعديد من الشباب والشابات في السعودية للتعبير عن أفكارهم، ورؤاهم، ومشاركتها مع جمهور من آلاف الناس وأحيانا الملايين إن كان صاحب القناة ذكيًا ومحظوظا بما يكفي.

صحيح أنّ اليوتيوب قد يضمن جماهير عريضة وشهرة لا بأس بها، لكن تظل لشاشة السينما سحر لا يُمكن إنكاره، أو مقاومته، درس فارس قُدُس تكنولوجيا المعلومات في الجامعة، لكنّه قال في بودكاست مع المذيع صالح العوفي بأنّه لم يستفد منها كثيرًا.

إن الوصف الأهم لدى قُدُس، كما جاء على لسانه، بأنّه راوي قصص، وقد تعلّم الإخراج لأنّه الطريقة الأفضل لحكي ما يكتبه، فالكتابة والإخراج عند قُدُس لا يُمكن فصلهما عن بعضهما، وقد ذكر ذلك بنفسه في أكثر من لقاء، منها لقاء له في قناة “ثمانية” على يوتيوب.

لا يعمل فارس قُدُس منفردًا، فهناك شقيقه وشريكه الفني صهيب، والاثنان يعملان معا تحت اسم: الأخويْن قُدُس.

لم يعرف قُدُس وهو طفل معنى الإخراج السينمائي، لكنّه كان يحب مشاهدة الأفلام كثيرًا، فكان يستخدم الأبطال الذين يراهم على الشاشة، لنسج حكايات من الخيال الصغير الذي سحرته السينما مثلما فعلت مع الملايين، إنّها البداية المتوقعة لأي مخرج سينمائي، ولأنّه الابن الأصغر فقد تأثر بثقافة إخوته الأكبر سنًا، وكذلك بكتابات والده الذي وثق كثيرًا من مظاهر الحياة في الحجاز.

بدأ فارس قُدُس الاشتغال في مجال الفنون المرئية في 2013 بإنتاج فيلم “موتى يمشون بيننا” الذي عُرض على يوتيوب، وتوالت بعدها عدة أعمال حتى وصلنا إلى “شمس المعارف”.

من الصعب حصر الأشياء التي أثرت على صانع السينما، عادةً ما تكون القائمة تحتوي على أفلام، وأفكار، وأحداث، ورؤى، وجينات، وقصص أسرية، لكن إن أردنا الحديث عن عوامل خارجية واضحة فيما يخص المُخرج فارس قُدُس يمكن أن نذكر هنا مسلسل “طاش ما طاش” والـ”يوتيوب”.

الأول كان مسلسلا أنتج في التسعينات من قلب العاصمة الرياض، قام به الثنائي عبد الله السدحان وناصر القصبي، واستمر لعدّة أجزاء، وتميز بتنوع الشخصيات، والنقد الاجتماعي الذكي، والكوميديا الحقيقة النابعة من المواقف والمفارقات.

لقد ترك “طاش ما طاش” أثرًا ضخمًا لدى جيل من صناع الدراما في السعودية، والفضل يعود له في التعريف بالكثير من الثقافة السعودية بدءًا باللهجة ونهايةً بالمواهب الفذة، ولذلك كان من الطبيعي أن يتم ذكر “طاش ما طاش” في فيلم “شمس المعارف”، وأن تُقدّم له التحايا أكثر من مرة.

أما الأمر الثاني فهو قناة “اليوتيوب”، جنة السينمائيين السعوديين وغيرهم، لفترة غير قصيرة، فقد كانت المتنفس الوحيد لعرض المقاطع المصورة على جمهور يتفاعل ويبدي رأيه في ثوانٍ فيحصل صانع العمل على “فيدباك” في مدة أقصر مما يتخيل.

يقول فارس قُدُس للمذيع صالح العوفي “عشر سنوات وأنا اقرأ تعليقات الناس”، مشيرًا إلى الفائدة التي حصل عليها من معرفة الآراء التي ساعدته في عمله وهي فرصة لم تُتح لغيره من المخرجين.

إن لمدينة جدة خصوصية تختلف عما سواها، فقد أتاح لها موقعها على البحر الأحمر وكونها ميناء جدة الإسلامي الذي استقبل ملايين الحجاج من قارات العالم المختلفة، أن تتأثر خصوصيتها الثقافية والاجتماعية إيجابيًا بشكلٍ هائل، من الطرب وحتى قائمة الأطعمة، بالإضافة إلى الجنسيات العربية التي تقف في مقدمتها اليمن وبلاد الشام ومصر، هناك الشعوب الأفريقية مثل تشاد ونيجريا والسنغال، ودول شرق آسيا، والجمهوريات الإسلامية التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي مثل تركستان، وأذربيجان، وطاجكستان وغيرها، كل تلك الأعراق امتزجت وصنعت روحًا فريدة تميزّت بها جدة لعقودٍ طويلة للغاية.  

بجانب “شمس المعارف” قدم فارس قُدُس بالشراكة مع شقيقه الأكبر صهيب، عدد من الأعمال مثل “كوكب آخر” و”فلّمها” و”ومن كآبة المنظر” وغيرها، ويُمكن بسهولة شديدة ملاحظة اهتمام فارس قُدُس بالثقافة الجداوية، أشياء قد تمرّ بسرعة ودون اهتمام لمن لا يعرف هذه المدينة.

هناك على سبيل المثال، في “شمس المعارف”، مشهد تذكر فيه الأم “سوق الشرق الأوسط” “وسوق السوريين” وهما من الأسواق التي كانت شديدة الرواج والشهرة قبل أن يختفي الأول ويتغير اسم الثاني، وهناك أيضًا من نفس الفيلم مشهد لبركة السلاحف، هذه البركة التي كانت أعجوبة صغيرة بالنسبة للسكان في أوائل الثمانينيات، إذ كان المحل الوحيد في جدة الذي يحتوي على السلاحف التي تستوطن مركز تجاري هو الأكثر حداثة آنذاك، خصوصًا في ظل عدم وجود حديقة للحيوانات.

بالإضافة إلى تلك الأماكن، هناك استعراض مكونات ثقافية واجتماعية عديدة لدرجة يصعب حصرها: “الحجة” التي تبيع الحلويات والألعاب بجانب كل مدرسة، و”جراك باعشن”، وأغاني طلال مداح، وفوازير “مشقاص”، والملابس، والأسماء، والاهتمامات، والحارات الشعبية بالقرب من جدة القديمة أو “البلد” بمفرداتها، وملابس ذويها، وعلاقاتهم المتينة المختلفة عن كثير من المناطق السعودية.

كل ذلك يصبغ أعمال الأخوين قُدُس بختمٍ لا يبهت، وهو من يعطيها فرادة، وتميزًا، ونكهة مميزة عمّا سواها من الأعمال.

الكوميديا هي الطريقة الوحيدة التي يعبر بها فارس قدس عن أفكاره، وهي الكوميديا الناتجة عن المواقف والمفارقات، ومهما كان الموقف مأساويًا، لا بد للضحكة أن تهزم المشاهد.

شمس المعارف

في الفيلم القصير “ومن كآبة المنظر” الذي جاء ضمن حلقات “ستة شبابيك في الصحراء”، يحكي فارس قُدُس عن مسافرين تقع بهم الطائرة في منطقة غير معروفة، فتنشأ مواقف كثيرة بين الشخصيات المختلفة من الناجين، ويختتم الفيلم بمشهد سوداوي فُكاهي، حيث يسيطر الخوف، والخرافة، وفجوة الوقت في مشهدٍ عن احتفال أحد الأبطال بقتل المسيخ الدجال، بينما الضحية كانت شابًا قادمًا من المستقبل وبيده جهاز “موبايل”!

الكوميديا لها الكلمة الأولى في أعمال فارس قُدُس أو الأخوين قُدُس بالأصح، لكنّها تلك الكوميديا التي تمرر النقد، والتلاعب، واللكز، والغمز، دون مشاكل، كوميديا تجعلك تضحك، ثم تجعلك تفكّر.

يستعد الأخوان قُدُس لتقديم فيلمهما الجديد آخر هذا العام، بعنوان “أحلام العصر” وهو مصطلح عامي انتشر في عدة دول عربية يُطلق على الأمور الشاذة التي تسير جنبًا إلى جنب بواقعية، أو الأشياء التي كان من المستحيل وقوعها لكنّها حدثت، وليس من المتوقع أن يخرج العمل عن العناصر التي لوّنت أعمال فارس قُدُس من قبل: الكوميديا، والواقع، والثقافة الجداوية، وهي عناصر تكفي بشدة، لصنع فيلم مبهر إن كان صانعو الفيلم متمكنين، وهو ما أثبته فارس قُدُس حتى الآن بجدارة.

Visited 13 times, 1 visit(s) today