المخرج أحمد حسونة بين الروائي والتسجيلي
مربع داير: فيلم المشهد الواحد
يدوم فيلم مربع داير نحو 12 دقيقة، ويتم تصويره بأكمله داخل شقة سكنية، حيث يتعامل المخرج احمد حسونة مع هذه البيئة المغلقة بمهارة وخبرة اكتسبها عبر مشواره السينمائى فى اخراج وكتابة الافلام منذ عام 1997 عندما قدم فيلمين أحدهما بعنوان “جريتا” ومدته 4 دقائق، عن جريتا جاربو، اشهر ممثلة سينما على مستوى العالم، تللك التى فتنت جيلها بسحرها الاسطورى، وقد استخدم احمد حسونة لقطات ارشيفية من أفلامها وصورها.
وقدم ايضا فى نفس العام فيلم “حكاية الحب والكراهية” اثناء دراسته للسينما فى نيويورك، وقد استعان فى هذا الفيلم بممثلين امريكيين ومديرة تصوير فذة، استطاعوا جميعا ان ينقلوا رؤية المخرج التى بدت سريالية (ربما مثل الفيلم السريالى كلب اندلسى).
لكن فيلم “مربع دائر” يختلف شكلا وموضوعا عن مقدمات هذا المخرج الذى يتنقل بين مدارس الاخراج فى كل فيلم يقوم باخراجه سواء كان فيلمه تسجيليا او روائيا.
فيلم “مربع دائر” ينتمى لنوعية فيلم المشهد الواحد، حيث يتم تصوير الفيلم كله فى مكان واحد وزمان متصل واحد، تماما كما لو كان احمد حسونة يتقيد بوحدات ارسطو الثلاث عن المسرحية الانموذج فى عصره وتعليقا على ابداعات ايسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس.
لكن الوحدة المكانية والزمانية عند احمد حسونة تأتى فى اطار سعى هذا المخرج نحو استكشاف عوالم الفيلم السينمائى وبيئاته المختلفة وطبيعة كل عالم وافضل طريقة لايجاد الحل السينمائى لهذ البيئات.
فى هذه البيئة الواحدة والزمان الواحد، نجد ان المخرج يستخدم اللقطات المتوسطة منذ بداية الفيلم، وهذه ليست فقط حرفية اسلوبية ولكنها ضرورة تفرضها حقيقة ان الكاميرا لا تستطيع ان تكشف المكان فى حدود اللقطة العامة لصعوبة ذلك عمليا وخاصة فى الاماكن الضيقة مثل المطبخ والحمام، لكننا لا نشعر ابدا بغياب هذه اللقطة العامة، لأن الهدف منها هو تأسيس المكان وهو ما يقوم به احمد حسونة ضمن تتابع اللقطات المتوسطة وقطعات المونتاج حيث نتعرف على اجزاء هذه الشقة تدريجيا الى نعرفها تماما.
ان اكبر لفطة فى هذا الفيلم هى اللقطة الكاملة التى تكشف الشخص من رأسه الى اقدامه، والفيلم يحتوى على القليل جدا من هذه اللقطات الكاملة التى تظهر احيانا نتيجة لامتداد باب مفتوح لاحد الغرف او فى الحمام او فى الصالة او فى البلكونة ، لكن هذه اللقطات الكاملة ايضا تحمل احساس التقيد والاقتراب من الاشخاص تماما مثلما يتحقق ذلك فى اللقطات المتوسطة باحجامها المختلفة .
فى فيلم “مربع داير” نجد أن أحمد حسونة يستخدم المفاجأة الدرامية ويبنى عليها فيلمه بصورة تبدو مُصطنعة أو متكلفة، ولولا أننا نعرف تجاربه السينمائية السابقة مثل فيلمه السريالى الأول، لظننا أننا أمام احد عشاق الفيلم الميلودرامى، لكنه لا يقدم هذه المفاجآت الدرامية فى موضوع ميلودرامى، فنحن لا نتعاطف مع شخوص فيلمه، ولكننا نراقبهم عن قرب – ليس توحدا معهم – ولكن لان المخرج ربما اراد ان يضعنا قريبا جدا من هذه الشخوص المريضة.
المُفاجأة الاولى عندما نكتشف ان الشقيقتين تآمرتا على قتل زوج الشقيقة الكبرى الذى يُحضر نفسه للسفر الى الولايات المتحدة الامريكية بعد ساعات قليلة بصحبه زوجته التى تبدو عاشقة له، وهى وليست على علم بدونية هذا الزوج الذى يتحرش جنسيا باختها.
والمُفاجأة الثانية عندما نكتشف ان هذه الزوجة رتبت هذا الموضوع مع عشيقها الذى يأتى الى الشقة بعد عملية القتل لكى يُرتب طريقة التخلص من الجثة ، ويبدأ على الفور فى استخدام السكين لتشويه وجه الزوج المقتول بهدف اخفاء ملامحه للاحتيال على اجراءات التحقيق البوليسى لاحقا.
أحمد حسونة
والمُفاجأة الثالثة عندما يقوم هذا العشيق بقتل هذه الزوجة بعد مَضاجعتها ، ثم يحاول ارضاء مشاعر الغيرة عند الشقيقة الصغرى .
والمُفاجأة الرابعة عندما نكتشف ان الشقيقة الصغرى هى حبيبة هذا المجرم وانها هى التى اتفقت معه على ترتيب كل شى لكى يفوزا بالثروة ويسافران الى الخارج .
والمُفاجأة الخامسة عندما نكتشف ان هذه الفتاه هى المدُبرة الكبيرة لهذه الجريمة الكبرى التى راح ضحيتها اختها وزوجها ، ثم تقوم هذا الشخصية باغلاق باب الشقة على العشيق ، فينتهى الفيلم على رد فعله لهذ التصرف الذى معناه تورطه فى القتل وادانته بالجريمتين .
ولعلنا نتأمل ايضا فى دلالة هذه الدراما المكثفة التى تبدو انها ذروة فيلم روائى طويل استطاع المخرج ان يختصره فى 12 دقيقة فقط ، وان نتأمل فى الفلسفة العدمية لشخوص فيلمه الثلاثة ، فثلاثتهم مجرمون ومُدانون فى عالم يعيشونه ، ذلك الذى اجتاحته الرأسمالية الاحتكارية وضيقت الخناق على البشر حتى تحولوا الى قتلة ومجرمون لكى يستطيعوا العيش فى هذا العالم المجرم.
نحن نفهم الفيلم جيدا لاننا ابناء هذا العصر وعشنا قبل ثورة 25 يناير ازمة اختناق انسانى حيث كانت الصحف ووسائل الاعلام تنقل لنا جرائم قتل اسرية وانتحارات بسبب الازمات المالية، فالفيلم يُدين هذا العصر الاحتكارى ويُعريه لنا برؤية نقدية من المخرج احمد حسونة الذى كتب السيناريو بنفسه مثل كل اعماله.
نحن لا نفتأت على هذا المخرج ولا نُلقى تهمه التصنع على فيلمه “مربع دائر”، فظل أفلامه الأخرى ماثل أمامنا مثل رائعته التسجيلية “عروس من النوبة”.
فيلم عروس من النوبة
ينفذ احمد حسونة فيلمه “عروس من النوبة” البهيج ضمن صيغة الفيلم التسجيلى المعاصر، حيث تتداخل عناصر من الفيلم الروائى – متمثلا فى راوية الفيلم – مع باقى عناصر الفيلم التسجيلى، فتللك هى العروس النوبية نجلاء التى يتكرس الفيلم لرصد احتفالية الزواج النوبية من خلالها ومن خلال طقوس زواجها على عريسها اشرف.
فقد تكونت علاقتهما من المرحلة الاعدادية عندما شاهدا بعضهما لأول مرة اثناء لقاءهما العابر فى المعدية، ثم بدأت تفاصيل العلاقة تتضح عندما أوفد اشرف اخته الى بيت نجلاء لتجس النبض، بعد ذلك جاءت والدة اشرف لطلب يد نجلاء من اسرتها فوافقت نجلاء.
ان المخرج يلتقط لحظات خاصة حميمية تم تصويرها داخل غرف داخلية على اضاءة مناسبة، حيث تقترب الكاميرا من الوجوه النوبية الطيبة وكأننا جزء من الاسرة، فلا حاجز بيننا وبين شخوص فيلمه ، فثمة رقصات للنسوة تتصدرهم نجلاء ومغنية تشدو وتردد وراءها البنات.
سنجد ايضا لقطات تفصيلية لعملية الحناء، فالكاميرا تكشف لنا تفاصيل هذه العملية فى لقطات قريبة، بينما نستمع الى صوت نجلاء تشرح تفاصيل هذه العملية وتقاليدها بينما هى نفسها موضوع هذه العملية فثمة فتاه ترسم على قدمي نجلاء ويديها رسومات الحناء المخلوطة بالصبغة، ثم نرى استكمال العملية بتعريض هذه الرسومات الى الدخان لكى تتثبت الحناء على الجلد.
فيلم “عروس من النوبة” لا ينسى أن يقدم البيئة الخارجية ضمن اصطحاب الكاميرا لنجلاء سواء عند المعدية حيث يظهر خلفها نهر النيل ، او داخل مكروباص مع بنات القرية تنشدن لها اغانى الفرح التراثية كما يحتوى الفيلم على لقطات لشوارع القرية، اثناء مرور العروس على البيوت تدعو ناسها لحضور زفافها، لكن هذه اللقطات الخارجية لا تأتى ضمن سياق مستقل مفصول، ولكن ضمن بنية فيلمية متوازنة، فثمة ترابط وتداخل بين اللقطات الداخلية واللقطات الخارجية، وهذا ملمح هام من فيلم عروس من النوبة، فاختيار صيغة الراوى الذى تقدمه نجلاء بنفسها، وفر على المخرج صعوبات جمه كان سيضطر الى معالجنها بصعوبة اذا لم يختر صيغة الراوى لتنفيذ فيلمه، لان صوت نجلاء او حديثها المباشر لنا حقق للفيلم ذلك الترابط، ولم نفقد منطقية التابع رغم التداخل المكانى بين الخارجى والداخلى.
ان عفوية احمد حسونة فى فيلم “عروس من النوبة”، لم تأت مصادفة او كضربة حظ، فالفيلم يحتوى على مشاهد تُسجل جموع المهنئين سواء فى الزفة او الفرح، فالحضور المكثف لهولاء الناس وتصوير طقسهم بلقطات من زوايا مختلفة، ليس سهلا على الاطلاق، فهؤلاء الناس ليسوا كومبارسا تم استئجارهم لتصوير هذه اللقطات ولكنهم اناس حقيقيون، لم نلحظ ابدا انهم دارون بالكاميرا التى تكون قريبة جدا منهم فى بعض اللحظات.
ولا يحتوى الفيلم على موسيقى دخيلة ولكنه يوظف الاغانى النوبية التراثية فى تسجيل مباشر من افواة المغنيين وترديدات المصاحبين كما يُسجل الفيلم رقصات تراث نوبى يتعلق بالزواج.
لم ينس احمد حسونة أن يقدم شكره الى القرية النوبية التى صور فيها فيلمهفلولا التعاون التام من اهالى قرية جزيرة الدهب فى اسوان لم يكن ليظهر هذا الفيلم بهذا القدر من الجودة والجمال .
ويمكن مشاهد الفيلمين فى قناة احمد حسونة على موقع فيميو وهى تحتوى على معظم اعماله وهو يقوم بتحديثها دوريا