اللون والمرأة في السينما: ظلٌّ أرجوانيّ
نهى سويد
في أفلام الدستوبيا، تتجاوزُ السينما الواقع، تتجسّد كأداةٍ نقديّة تسلّط الضوء على عمق تأثير التطرف الديني حين يصبح وسيلة سياسية قمعية تسيطر على المجتمعات، لا سيما على النساء.
تتكشفُ صورة قاتمة لأنظمة دينية متشددة تُوظّف الدين لتبرير قمع المرأة، وسلبها حقّها في الحرية والهوية تحت تفسيراتٍ مشوّهة.
هذه الأفلام لا تقف عندَ حدود تصوير المعاناة، بل تغوص في تحليل الأنماط الاجتماعية والسياسية التي تنتج هذا القمع، ومن خلال شخصياتها وتصنيفاتها وألوانها، تَستثمرُ السينما اللونَ كأداة تحليلٍ وترميز لمَشاهدَ صراعات النساء في مواجهة قوى القمع. إذ تُتخذ الألوان كدلالاتٍ قوية تربط بين حالة الشخصية النفسية وسياقها الاجتماعي. وتستخدمُ لقراءة عوالم الشخصيات وما يعايشنه من صراعات، حيثُ يصبح اللون وسيلةً تعبيرية تُكثّف رؤية السينما لمعارك النساء اليومية من أجل الحرية، وتوثّق إرادتهن في مواجهة منظومات القمع، بل وتُجسّد حالاتهن النفسية بأبعادٍ رمزيّة معقّدة تعبّر عن تحدياتِهُنَّ وطاقاتِهُنَّ الكامنة، كما هو الحال في الفيلم الأمريكي “حكاية جارية” لفولكر شلوندورف The Handmaid’s Tale (1990) والمأخوذ عن رواية للكاتبة الكندية مارغريت أتوود.
استخدم مخرجُه فولكر شلوندرفVolker Schlöndorff في فيلمه هذا الألوانَ كأدواتٍ رمزية للتعبير عن طبقات المجتمع المختلفة في “جمهورية جلعاد”، ورسم عالماً ديستوبيًا مستقبليًا تتحكّم فيه سلطة ثيوقراطية متشددة، تستند إلى تفسير دينيٍّ صارم لتُحكِمَ السيطرة على المجتمع وأفراده. في هذا المجتمع، تُسلب النساءُ هويّاتِهُنَّ الفرديّة، ويُجبرْنَ على لعب أدوارٍ محدّدة تخدمُ أغراض النظام بحيث تُقسّم النساءُ إلى طبقاتٍ محكمة التصنيف، وكلُّ طبقةٍ صُبغت بلون محدد له صفاته التي تعكس دور المرأة الاجتماعي فيه، وتميّزه عن لون الطبقة الأخرى، فطبقة الخادمات يرتديّنَ اللون الأحمر، في حين ترتدي زوجات القادة اللون الأزرق، أمّا العاملات فيرتدين اللون الأخضر المائل للرمادي.
إنَّ اختيار الألوان في الفيلم لم يكن اختيارًا عشوائيا أو خيارًا بصريًّا، وإنّما رسالة نقدية حادة تعكس بنية السلطة في جلعاد، وتُسلط الضوء على كينونة المرأة وتفاعلاتها وتجاربها في المجتمعات المغلقة، فالأحمر والأزرق والأخضر هم ألوان الطيف الأساسية في علم الألوان وينتجُ عن مزجها كلّ ألوان الحياة باستثناء اللون الأسود المتعارف عليه بلون الموت والظلم والسطوة، وذلك رغم خصوصيّة كلّ لونٍ بحدّ ذاته.
وهذا ما يدلل أنَّ النساء رغم اختلاف أدوارهُنَّ وتجاربهُنَّ يتشاركْنَ في هذا التشكيل الطيفي الذي يتمازج مع بعضه، ويمثّلُ تجاربَ إنسانية تتداخل في الحياة، فتفاعل كلّ لون مع غيره ينتج لونا جديدا بدلالات جديدة تشي بتجاربهُنَّ وتضحياتهُنَّ. على الرغم من التمازج الرمزي الذي يمكن أن ينشأ من الألوان المختلفة، إلّا أنهُنَّ يشتركن في القهر، والألم، والمقاومة.
تتلاقى ألوانهُنّ دونَ أن تتوحد، ممّا يُظهر كلّ لونٍ منهُنّ كجزء من لوحة كبرى، باستثناء الأسود لون القادة في جلعاد يظلّ منفصلًا تمامًا، لا يُدلل على أي تفاعل أو حياة، الأسود هنا يبقى حاجزًا لا يمكن تجاوزه، لون للموت القابع فوق الطيف، يحافظ على هيمنة القادة ويفرض واقعًا لا يُنتِج سوى الألم والكبت.
يُعتبر اللون الأرجواني مزيجًا من الألوان الأساسية: الأحمر (الذي يرمز للعنف الجسدي)، الأزرق (الذي يمثل الزيف الاجتماعي والقيود النفسية)، والرمادي المشتق من الأخضر (الذي يعكس الاستغلال والعمل القسري). تظهر هذه الألوان بشكل متداخل في فيلم حكاية جارية ليس فقط من خلال الملابس، بل أيضًا من خلال الديكورات، الإضاءة، وحتى الزوايا التي تُستخدم لتعميق الشعور بالتوتر والضغط الذي تعيشه النساء في هذا المجتمع البائس.
يعكسُ اللون الأرجواني في الفيلم تحوّل الواقع، حيث يُظهر التداخل بين الطبقات الاجتماعية والنساء في كلّ الألوان التي يلبسنها، ويربط بين العنف الجسدي والنفسي والتشويه الاجتماعي الذي يطالهن جميعًا. إنّ المزج بين هذه الألوان لا يعكس فقط التشابك بين طبقات النساء، بل يُعبّر أيضًا عن الطريقة التي يصبح فيها الظلم والإهانة جزءًا من الهويات الاجتماعية المُفروضة عليهن، ليشكلَّ كلّ لونٍ جزءًا من الحكاية المريرة لهُنّ.
وبذلك، تُصبح الألوان في حكاية جارية أكثرَ من مجرّد تفاصيلٍ بصريّة عابرة، إنّها أدواتٌ تعبيريّة تُسهم في رسم أبعاد عميقة لتمثيل الهوية، الطبقة، والعنف الممارس على النساء، وتُسهم في بناء قصة التهميش الاجتماعي والمقاومة الخفية ضد النظام القمعي.
أوفريد (كيت سابقًا) بطلة القصة والتي قامت بدورها ناتاشا ريتشاردسون هي واحدة من “الخادمات”؛ اللواتي يرتدين الزي الأحمر، جُرّدن من إنسانيتهُنَّ وأسمائهُنَّ الحقيقية ليصبحن مجرّد أوعية للإنجاب في خدمة عائلات النخبة الحاكمة.
جلعاد التي تعاني من أزمة ديموغرافية نتيجة التلوث البيئي وانخفاض معدلات الخصوبة، تُحوِّل أجساد النساء إلى ساحة معركة جديدة، إذ تفرض عليهن هويات مستعارة تُدمجهُنّ ضمن ملكية القادة الذكور ويصبحُ اسمها ذاته ختمًا لمحو كيانها الفردي. اللون الأحمر يحفلُ بدلالات قويّة للعنف والشّهوة.
لكن في سياق الفيلم، يصبح هذا اللون رمزًا للعنف الجسدي القاسي. إنّه مكونٌ أولي في تكوين اللون الأرجواني، حيثُ يُجسد الاستغلالَ الجسدي لهُنَّ. ومن خلال هذا، يصبح الأحمر علامة على الضغط اليومي الذي يُمارس على أجسادهن في النظام الاجتماعي الظالم.
تواجهُ البطلة خضوعًا قسريًا وواقعًا يُصادر إرادتَها وهويتها، عبر سعيها للتمسك بذاتها، تشرعُ في استعادة أجزائها المفقودة، متحديةً قسوة النظام الذي جرّدها من كلّ حقوقها.
تبدأ محاولاتها الاحتفاظ بذكريات حياتها الماضية، تذكر أسماء أحبائها، زوجها وابنتها التي فُصلت عنهما قسرًا، يتطور هذا الصراع الداخلي إلى تمردٍ صامت، حيث تتخذُ خطواتٍ محفوفة بالخطر، مثل قراءة الكلمات المحظورة والاحتفاظ ببعض الأسرار، مما يعيد لها طيف الحرية في عالم لا يعترف بإنسانيتها.
عبر علاقتها مع القائد تتجاوز أوفريد الدور المسند لها، تكشف البطلة محدوديّة هذا النظام الهشّ، مستغلة تواطؤ القائد لرؤية عالمٍ مختلف، عالم يشهد لها على كذبة النظام الأخلاقية. هنا تلتقي بشخصيات تماثلها في الأسى والرغبة في التحرر، مثل العاملات والخدم، الذين يتشاركون معها الرغبة في الثورة.
يظهرُ الأرجواني في حياة البطلة وحالتها النفسية كرمز ثقيل بالدلالات، يُجسد خليطاً من القهر والرغبة في التحرر، بما يحمله من تناقض بين الألم والأمل، وهو لونٌ يرمز عادةً إلى التمرد المختلط بالندوب.
وعندما تنخرط في المقاومة السرية، يحضرُ الأرجواني كدافع خفي خلف قراراتها الخطيرة والمحرّمة في عالم جلعاد، كاشفًا شوقًا دفينًا لإعادة الحياة التي سُلبت منها، تلك الحياة التي تحمل معنى الحرية والكرامة، حتى وإن كان الوصول إليها يتطلب تضحياتٍ موجعة.
يكتسب اللون الأزرق دلالات معقدة في (حكاية جارية) فعلى الرغم من كونه رمزًا تقليديًا للسلام والاستقرار، يُستخدم هنا ليعكس قسوة الزيف الاجتماعي. يَظهرُ اللون الأزرق في زيّ زوجات القادة اللواتي يتمتعن بمكانةٍ اجتماعيّة عالية، لكنهن غالبًا عاجزات عن الإنجاب، ما يجعلُهُنَّ يعتمدْنَ على الجواري في هذه المهمة. ورغم مظهر الاستقرار والطمأنينة الذي يمنحُهُ اللون، فإنّه هنا يكشف عمقَ التوتر والقمع المتخفّي تحت قناع من العادات التي تَفرضُ على الزوجات دورًا قسريًا يوهمُهُنَّ بالأمان.
عندما يلتقي الأزرق بالأحمر، ينتجُ عنه اللون الأرجواني، الذي يوحي بتشظي الروح والصراع الداخلي، تُظهِرُ الزوجات مزيجًا من الوقار والهدوء المصطنع، بينما تتآكل أعماقهُنّ تحت وطأة أدوارهُنَّ الاجتماعية. سيرينا جوي، التي تجسّد دورها Faye Dunaway، تعيشُ هذه التناقضات، حيثُ يتذبذب أداؤها بين الحزن والقسوة. فهي زوجةُ القائد التي تفتقر إلى الأمومة ويراها النظام غير مؤهلةٍ كامرأة، ممّا يدفعها لسلوكٍ استبدادي يَكشفُ عن ألمها الداخلي.
إنَّ مشهد حضورها لطقس اغتصاب زوجها لأوفريد، هو من أكثر اللحظات القاسية والمؤلمة، ويُعبّرُ عن مدى التوتر العميق والانكسار الداخلي في شخصية سيرينا، فاللون الأرجواني حاضرٌ بقوة في هذا المشهد ويعكس حالةً من الاضطراب بين الهدوء الظاهري للأزرق والغضب الكامن المتمثل في اللون الأحمر، ليُعبّر عن التشظي الروحي والانفعال الداخلي لدى سيرينا. الأرجواني هنا يُظهر حالةَ الصراع بين واجبها الاجتماعي كزوجة وبين قهرها العميق من مشاهدة اغتصاب زوجها لجسد امرأةٍ أخرى، حيث يتسرب “العنف الساكن” من قناع الطمأنينة الذي تجبرُ نفسَها على ارتدائه.
يرمزُ اللون الأخضر المائل للرمادي والذي ترتديه (المارثا) أو العاملات إلى الهدوء، بعيدًا عن التفاعل العاطفي العميق. اللون الأخضر الذي يحمل دلالات النمو والتجدد هنا يبدو خامدًا، بلا حياة، وكأنه يعكس حالةً من الجمود، إنّه لونٌ باهت يعبّر عن الطاعة والعمل المضني الذي يُفرض عليهن ضمن نظامٍ قاسٍ، واستخدامه هنا يُشير للاستغلال المستمر وللقيود التي تحيط بهُنَّ، حيثُ يُطلب منهُنَّ أداءُ وظائفَ محددة دون أيّ إمكانية للخروج عن هذا الدور.
فالأخضر المائل للرمادي جزءٌ من التركيب اللوني للأرجواني، ويعبّر عن الطاعة المفرطة الناشئة عن عجزهُنَّ التام. هذا العجز لا يتعلق فقط بغياب القدرة على المقاومة، بل يعكس قيدًا اجتماعيًا ونفسيًا يجبرهُنَّ على القبول بالواقع كما هو، دون أمل حقيقي في التغيير.
الفيلم يعتمد بشكل مُلاحَظ على ظلال الألوان كأداة سينمائية تكشف عن عمق الصراع الداخلي والخارجي للنساء في ظل النظام الاستبدادي. الظلال الأرجوانيّة، بتدرّجاتها المعقّدة، تصبح رمزًا للعنف والظلم الاجتماعي، مُعبّرة عن التوتر بين الألم المكبوت والتحول العاطفي الذي يعصف بالشخصيات.
هذا اللون، المشبع بالغموض، يتسلل عبر المشاهد ليُظهِر لحظات من القهر والهشاشة الداخلية، معززًا الصراع النفسي الذي يعيشه الأبطال، إضافة للألوان يَستخدمُ فولكر الفضاءات الداخلية كرمز لعزل الشخصيات في وحدات متفرقة ومغلقة ما يعكس حالة العزلة التي تعيشها النساء سواء في حياتهن الداخلية أو في الأماكن العامة، كما يستعمل الزوايا الواسعة في بعض المشاهد لتأكيد فكرة القمع النظامي الذي يجعل النساء مجرّد أدواتٍ في مجتمع جلعاد.
سواء نجح الفيلم في إيصال روح الرواية أم لا، فقد قدّم قراءةً بصريّة لونيّة متعمّقة لمعاناة النساء.
وفي النهاية نجدُ أنَّ اللونَ الأرجوانيّ يعكسُ عبورَ جميع النساء عبرَ بوابة القمع المتبادل، حيثُ كلّ فئةٍ منهُنَّ تحمل نواحي معينة من العنف، سواء أكان هذا العنف جسديًا أو نفسيًا.
إنّه اللونُ الذي يربط بين العنف والهيمنة، بين الهيكل الاجتماعي القاسي الذي يقيّد كلّ امرأة، سواء كانت خادمة، زوجة، أو عاملة، حيثُ يمثّل الحالة الموحدة للانتهاك التي تتعرض لها النساء في الفيلم، بغض النظر عن مكانتهُنَّ في المجتمع أو تنوّع لباسهُنَّ وألوانهُنَّ، فجميعهُنَّ تحت سطوة نظامٍ واحدٍ يفرض عليهُنَّ الاستسلام للظروف القاسية.