اللجوء إلى الطبيعة “أكثر من أي وقتٍ مضى”

تعددت الأفلام التي تتناول مواجهة الإنسان لأيامه الأخيرة، وتنوعت الرسائل التي تحملها تلك المعالجات بين محاولة ترك أفضل أثر على العالم، تحقيق أهم الأحلام، وقضاء أطول وقت ممكن مع الأحباء. من هذه الأفلام فيلم “أكثر من أي وقت مضى” More Than Ever، للمخرجة الألمانية ذات الأصل الإيراني، إيميلي عاطف.

تنقسم اللقطة الأولى من الفيلم إلى ثلث مظلم تمامًا وثلثين ما بين العتمة والنور، تقف فيهما البطلة بغرفتها محاولةً ارتداء ملابسها، ما لا يبدو أمرًا سهلًا كما يُفترض

 لقطة قريبة ليدها على صدرها توحي بوجود مشكلة ما هناك. يرن منبه الهاتف، تلهث وتئن وتخلع ما ارتدته وتهبط على ركبتيها، لنغوص فجأةً أسفل مياه زرقاء، نسمع صوت أنفاسها المتعثرة في خلفية هذا الغرق الافتراضي، تعلو الكاميرا فوق المياه للحظة فنرى أسرابًا من الطيور، قبل العودة أسفل الموج سريعًا. يصبح هذا المشهد المتكرر فيما بعد ـ الغوص تحت الماء مع تحليق الطيور فوقها ـ معادلًا لعجز رئتها عن التنفس وبالتالي اقتراب الموت.

تقوم ڤيكي كريبس بدور إيلين، شابة من لوكسمبورج متزوجة من ماتيو الفرنسي (جاسبار يوليل) وتعيش معه في بوردو. يصيبها مرض نادر في الرئة يسبب لها تليفًا تدريجيًا، لا علاج له ولا يتوقف إلا بالموت. لذلك تهاجمها نوبات الاختناق وتحمل معها مضخة الأكسجين دائمًا. يدل كل شيء على دعم زوجها الكامل لها؛ إصراره على إخراجها من عزلتها ولو اضطر إلى وضع ماكياجها بنفسه، وتشجيعها على انتظار متبرع مناسب لزراعة الرئة، الأمل الوحيد لها لو لم يرفض جسدها الرئة المزروعة.

 “إنهم يبذلون ما بوسعهم، هذا هو الأمر”. ذلك ما يقول ماتيو لإيلين دفاعًا عن أصدقائهما وهما يسيران وحدهما ليلًا بعد سهرة فاشلة، في شارع مظلم ومضخة الأكسجين على أنفها، إذ عاملوها بحساسية مفرطة وتبادلوا أخبارهم السعيدة بعيدًا عنها. الحقيقة أنه كان يتكلم بالقدر ذاته عن نفسه؛ هو يبذل ما بوسعه، ما يتصور أنه سيحتاجه لو كان في موضعها. المشكلة أنه ـ مثلهم جميعًا ـ ليس في موضعها، وبالتالي لا يمكنه معرفة ما تشعر به حقًا. هو يساعدها بكل قوته في اتجاهٍ خاطئ؛ يرفض الإنصات إليها ما أن تبدأ في التعبير عن اليأس أو الخوف، ويصر على وجوب تحليها بأمل لا تملكه ببساطة! الوقت الوحيد الذي تشعر فيه بالراحة هو أثناء جلوسها وحيدة في الظلام، لا ضوء هناك سوى ذلك المنبعث من شاشة حاسوبها، حيث تتابع منشورات رجل نرويجي يدعى ميستر. هذا الرجل يعاني من سرطان الأمعاء ولا يكف عن السخرية من مرضه والموت المرتقب، لكن الأهم هو أنه يتجنب تمامًا تشجيع المرضى على محاربة أسقامهم أو ما يسميه زوجها بـ “الإيجابية”.

“لا يمكن للأحياء فهم المحتضرين”

في محادثة صوتية على الانترنت بينها وبين ميستر، نسمعه يلقي بتلك الجملة المفتاحية، الموجزة، بينما نرى وجهها المتعب في لقطة قريبة يعكس الموافقة، الارتياح لوجود شخص يدرك بالضبط ما تمر به، لا يخبرها بما عليها فعله، وليست مضطرة للتظاهر أمامه أنها بخير.

تجد إيلين ما يثيرها في الصور المشرقة لموطن ميستر في النرويج، سيبو، القرية الساحلية الجبلية. تطلب إليه أن يصفها، ونراها تنظر خارج الكادر بتطلع كأنها ترى ما يتحدث عنه رأي العين، وتتشكل ابتسامة طفيفة على شفتيها.

ماتيو ليس مستعدًا للتخلي عنها بعد، ويفتقدها كأنها “رحلت بالفعل” كما يقول لصديق. بعد مشهد لمحاولتها اليائسة/ الفاشلة لممارسة الحب بشكل طبيعي نراهما في ملهى ليلي يتمايلان وظهرهما يواجه الكاميرا، الإضاءة وردية والأغنية حالمة، هو يقف خلفها حاميًا، مساندًا، تقترب الكاميرا في حركة نصف دائرية لنرى وجهيهما، هي تضع مضخة الأكسجين وهو يقبلها مبتسمًا. ببطء شديد ينسحب هو من الكادر لتصبح وحيدة، شاردة، في مركز اللقطة، وتتحول الإضاءة للون الأزرق، الأزرق الذي يذوب ليتحول إلى لون المياه.

تواجهه أخيرًا برغبتها في السفر إلى النرويج وحيدة، كأمر ضروري عليها فعله لنفسها، بدلًا من الانتظار الذي لم تعد قادرة على احتماله. ورغم اعتراضه الكامل وممانعته الشديدة تسافر. تمر لقطات السفر بالقطار كلها خلال الليل، وهو اختيار مقصود من المخرجة، حتى لقطة الغرق المألوفة كانت مظلمة، لنشعر بصدمة سطوع الضوء الأبيض المبهر على الشاشة التي تكشف تدريجيًا عن وصولها. تبدو لنا سيبو كمنشور سياحي للجنة، على امتداد البصر ليس هناك سوى زرقة البحر والسماء وخضرة الجبال، موقع مثالي لبدء الحياة أو إنهائها، لشهر عسل أو الاحتضار!

تهبط إيلين من العبارة المائية باحثةً عن ميستر، لتفاجأ برجل سبعيني (بيورن فلوبيرج) يدعى في الحقيقة بينت. يصحبها بينت إلى كوخ متقشف مجاور لمنزله. تحاول النوم هناك لساعات دون جدوى، فالشمس مشرقة طوال اليوم!

الطقس شتوي بارد، ومع ذلك تتجه للسباحة في المياه المثلجة مقابل كوخها. لا يستمر الأمر سوى ثوانٍ قبل أن تخرج مرتجفة، لكن سعيدة كطفلة نجحت في تحدٍ. مع استمرار عجزها عن النوم بسبب الضوء تقبل عرض بينت للنوم في غرفته، حيث توجد ستائر تعتيم تمنحها الظلام اللازم. تنام ل١٥ ساعة متواصلة، وينتهي الأمر ببينت نائمًا جوارها في الفراش نفسه بدعوة منها، دون أن يتوتر أحدهما أو يشعر بالحرج. ألفةٌ سهلة ساهم في صنعها مرضهما وفارق السن الكبير.

في المرة التالية التي تذهب فيها للسباحة تطيل البقاء في المياه، كأنها تجرب مقاربة الموت، ثم تذهب للمشي بين المرتفعات الخضراء الساحرة. تتوحد شيئًا فشيئًا مع العناصر المحيطة بها، يغريها نجاحها بقطع مسافات بعيدة، ولا تتحمل رئتاها كل ذاك الجهد. تتعرض لنوبة اختناق عنيفة، فتستلقي هناك تحت الأشجار منقطعة الأنفاس، ونرى السماء أعلاها من وجهة نظرها، ثم إظلام، ثم الطيور البحرية تحلق، إشارةً إلى الموت الوشيك. عن تلك اللحظة تحكي لبينت لاحقًا، أنها “لبضع ثوانٍ ـ أثناء استلقائي على الأرض ـ كنت جاهزة للرحيل، وكان ذلك لطيفًا”.

“أنت لا تدينين لأحد بنوعٍ خاص من الموت”.

يحكي بينت عن حادث تعرض له قبل ثلاثين عامًا، حين كان يعمل في منصة نفطية، ثم حدث حريق هائل مات على إثره أغلب رفاقه. يذكر سباحته في المياه الملتهبة بعيدًا عن مركز الانفجار حين اصطدم بجثة زميله طافية ووجهها لأسفل، وهو الوضع الذي رأت إيلين نفسها فيه فيما يشبه الرؤية سابقًا؛ طافية ووجهها لأسفل. مرة أخرى نسمع حكمة الفيلم على لسان بينت الذي يلقيها بلهجته المحايدة؛ فهي ليست أنانية لو اختارت أن تموت بعيدًا، دون تدخل طبي أو صحبة من أهلها. يستمر الحديث عن الموت بوصفه جزءًا من الحياة/الطبيعة في الخلفية، وهي تجلس في قارب وملامحها تشي بالسكينة والراحة، بينما تملأ المياه ـ رمز الموت ـ الكادر حولها، وهي متصالحة معها أخيرًا.

يأتي ماتيو لرؤيتها بعد أن قررت البقاء في النرويج وعدم الخضوع لعملية الزرع. تأخذه للمياه المثلجة التي اعتادتها كأنها تُعمِّده أو تختبره، ولا يصمد أكثر من ثانيتين قبل أن يخرج معتذرًا. يقاوم هو ما يسميه “استسلامها” للموت، وما تحسبه هي حماية لجسدها من التمزق والاحتضار المؤلم في المستشفيات. أكثر ما وجد صعوبة في فهمه هو رغبتها في البقاء وحيدة، أو بمعنى أدق بصحبة شيخ غريب عوضًا عنه، في آخر محطات حياتها. أما هي فتجد ذلك الشيء الأسهل والأكثر منطقية.

“حين أراك أرى كل ما كان بيننا.. وكل ما لن نكون عليه أبدًا.. عندما لا تكون هنا يصبح الأمر أسهل”. تريده أن يتقبل رحيلها وأن يبدأ فعلًا في الحياة دونها، وأن يخفف عنها عبء نظرات الخوف والألم التي تعذبها في عينيه. لا يقتنع أن ذلك ما تحتاج بالفعل إلا عندما تحاول التعجيل بموتها بتسلق المرتفعات دون اصطحاب جهاز الأكسجين. لا تموت هذه المرة، لكن رسالتها تصله. في مشهد صامت يجلسان متقابلان على مائدة طعام، الطبيعة وضوء الشمس يحتلان بانتصار المساحة بينهما خلال النافذة، تقطع شريحة تفاح وتعطيها له، فيتناولها من يدها ويأكلها، رمزًا لاستسلامه.

مشهد الوداع الختامي بينهما كان في غاية البساطة، العذوبة، الدفء، والإيلام، قام كاملًا على الأداء التمثيلي المرهف للبطلين، خاصةً ڤيكي كريبس، وضاعف من تأثيره الأغنية الرقيقة التي كتبتها وغنتها أيضًا في الخلفية ڤيكي كريبس!

نجحت إميلي عاطف في صنع فيلم جميل عن النهايات وتوديع الأحباء، لا يخلو من الشجن طبعًا، لكنه يهتم أكثر بالأفكار المجردة، كحق كل فرد في اختيار أسلوبه الأكثر راحةً لمغادرة الحياة، ويجعلك تتساءل: كيف تفضل أنت شخصيًا الرحيل؟                         

Visited 4 times, 1 visit(s) today