الكوميديا السوداء في الفيلم العراقي القصير “تواليت”
عباس خلف علي *
منذ ان شاهدت فيلمه “كوابيس” قبل حوالي عشر سنوات وهو أيضا كان فيلما روائيا قصيرا وتركيزه آنذاك على لغة الصورة وعلاماتها ودلالاتها وصيانة الجملة السينمائية اكثر من الاعتماد على لغة النص المقروءة، كنت أقول بأن طريقة تعبير هذا المخرج مختلفة، أسلوبا ومعالجة في تفسير الحدث، رغم اننا نعرف ان ذلك يحتاج الى دراية واسعة في ضبط ايقاع الصورة، وخصوصا بالقياس إلى وجود المؤهلات والخبرة والتجربة العالية في الساحة، ولكنه كان يتحدى –على ما اظن – تجربته في اختيار الاسلوب الأصعب ويفضله على الاسلوب السهل المتاح لغيره، وهو الاعتماد على الفكرة في تكوين سياق الجملة المشهدية واهميتها في تنفيذ مشروعه الفيلمي.
وكان آنذاك اسلوبا ملفتا في تجربة “كوابيس” ولكن في هذا الفيلم “تواليت” عمّق تلك الفكرة وأخذ يتقنن في تركيب صور الشريط (كرؤية أخراجية) بالتركيز والتكثيف والاختزال؛ لان المهم لديه ليس طول الشريط وقصره بقدر ما يتركه من أثر على المتلقي، ولذا كان حريصا في هذا الفيلم على تأثيث بناء الجملة الصورية، يعني أن العناية لم يعد في أدوات الفيلم فحسب بل في آلية اشتغال الفيلم، وهو ما يهمنا كمتلقين في معالجته الصورية، فهل حقق هذا الاشتغال غايته المنشودة في ترسيخ اسلوب مخرجه وبيان بصمته في العمل أو أنها مجرد محاولة لا غير؟
نحن نرى الامكانيات حاضرة في كل مشهد داخل الفيلم، ولاسيما نحن امام سؤال مفاده هل الفيلم القصير لديه امكانية ان يناقش قضايا كبرى، ويطرح فهما جديدا لها ؟
ربما الافلام الروائية القصيرة تؤشر ذلك وتمنحنا بعض البؤر التي من الممكن ان تتحول إلى افلام روائية طويلة، وهذا يحسب لمثل هذه الافلام التي تفتح أبعادا ذهنية في التلقي، ولكن تبقى الحدود المنطقية للشريط القصير هو الإضاءة ومدى تفعيل شعاعه، أي أن إشارته لابد وأن تضرب في جذور الأحاسيس كما هو الحال في قصة (همنكواي) المؤلفة من ست كلمات: للبيع.. حذاء طفل لم يلبس قط، فالفن والمهارة تقتضي ان تكون ضمن طبيعة الحركة معبرة ورامزة في كل لقطة ولهذا يبقى الفلم الحيوي هو من يدرك فعل التأثير واهميته في صناعة اللقطة ناهيك عن مستوى الرصد والتفاصيل الأخرى.
ومن هذا المنطلق رسم الإخراج أفق الاشتغال في فيلم – تواليت– على المتناقضات ، فكل شيء داخل الفيلم هجين مضلل ومراوغ ، فمنذ العتبة الاولى ( العنوان ) تتفاعل سلسلة الاكراهات، فعالم داعش الموبوء تَعرّف القاصي والداني على نتانته واوساخه وقذاراته البذيئة أين ما وجد ، فلا يليق غير هذا الاسم كمفتتح لقضية شاذة ارتكبت المجازر بحق الناس الابرياء ، وهو اختيار مناسب لمحتوى ينضوي بالكامل على الرجس والخيانة لتعاليم السماء السمحاء ، فـ”تواليت” انعطافة فيلمية ذكية لمواجهة هذا الفكر المنحرف.
داعش ركزت على الترهيب والتخويف وصنعت الصورة المرعبة في اذهان الناس، حرق أجساد، قطع رؤوس ووضعها على الرماح عند مفترق الطرق، اغتصاب النساء، سلب اموال، حتى المقامات والجوامع والصوامع والمواقع الاثرية لم تسلم من الدمار.
هذا السلوك العدواني العنيف الذي وظفته آلة الاعلام الداعشية خلقت منه سطوة مخيفة وهيمنة وحشية، فالمفارقة هنا، هذا الجبروت المرعب الذي اعتمد صورة الاكشن في تنفيذ مآربه ، يتعامل صانع فيلم “تواليت” الفنان أياس جهاد بروية وسعة بال وبتأنٍ ليكون رواية سينمائية قصيرة تحاكي برؤية ثاقبة زيف هذا الاعلام المؤدلج، ويواجه هذا التطرف بلغة سينمائبة متقنة وبفنية عالية تقودنا الى مشهدية كارتورية ساخرة ولاذعة في آن، إذ انفتحت الكاميرا على مكبر الصوت واللقطات البعيدة والقريبة وجلجلة التكبير تأذن بأن خطب ما سوف يحدث ، وإذا بالمنادي الداعشي يعلن تحريم التواليتات الافرنجية وهي مخالفة لعادات السلف، هذه اللقطة بحد ذاتها بطاقة دخول الى عالم مليء بالعقد النفسية والضغينة ناهيك عن عدم قبوله الآخر، وتقلب ظهر المجن كما يقال على هذا الفكر الشاذ، ويتفه طروحاته الهدامة، فهو لا يؤمن بالحوار ولا بالقيم الفكرية ولا يرى أبعد من ذلك ، كل شيء امامه مباح وقابل للقتل والانتقام، فهذه اللقطة تدفع بالمتلقي إلى الاستهجان بجبروت داعش الذي زرع الخوف في اهالي الموصل والارتياب والحذر منه.
منحنا الفيلم مشهدا ساخرا وهو يفتش عن مخالفة ترضي شهوته في الانتقام داخل البيوت عن المرحاض إن كان تواليت افرنجي أو لا، وهي علامة سيميائية دالة على عمق السوداوية التي يعيشها هذا التنظيم البربري و يريك مدى فداحة تفكيره الساذج.
على طول الشريط تألقت اللغة السينمائية في مخاطبة المتلقي/ المشاهدة، فالإخراج كان يرسم لنا عبر مشاهد مرموزة كما لو انها لوحة تفيض بجماليات تعبيرها رغم ما يكتنف الرائي بالتوجس ولكن يبقى جمالها فيما تثيره من ايحاءات قابلة للاستدعاء، وهذا ماجسدته لولبية حركة الطبيب رغم خوفه من مداهمة التنظيم لعيادته فكانت الكاميرا حافلة باحتواء كل الانعكاسات لشخصية الطبيب ليشكل منه معادل موضوعي لحكاية داعش، الطبيب والمغتصبة ، الطبيب واخفاء المشروب (الخمر) بالدورق الصحي، الطبيب واعتراف أحد أزلام داعش بأنه أمهر طبيب في الموصل، الطبيب والاعلان، الطبيب والموسيقى، وبعد خروج جماعة التنظيم من عيادته يقوم بإعادة التواليت الافرنجي إلى مكانه، كل ذلك يحدث بإيقاع لا تشعر به بالملل، كل لقطة هي محسوبة بدقة وكل مشهد يتفاعل برؤية فنية متمكنة من جمع الاضداد غباء داعش وفطنة الطبيب، السخرية من التنظيم ولا تغفل قسوته وبطشه ، صراخهم بالتكبير وهم يحطمون التواليت الغربي في الساحات العامة.
بإختصار شديد أن فيلم “ تواليت-” الدرامي القصير للمخرج الشاب أياس جهاد قدم لنا تنظيم داعش برؤية جديدة وعميقة المعنى والدلالة، لقد تغلغت الصورة الى قعر هذا التنظيم وتعرية واقعه وكشف سوءاته بمشاهد لا تخلو من السخرية اللاذعة ، فالموضوع رغم ما هو شائك ومعقد إلا أن الاخراج استطاع أن يقدمه لنا عبر المشاهد واللقطات المكثفة والمختزلة والساخرة احيانا ،وهذا يدل بلا أدنى شك من أن السينمائي الجاد قادر على توظيف الاحداث بأسلوب يجعل من السينما محاكاة لها ومؤثرة فيها ويمكن أن يمنحنا شريطا مقنعا بجمل سينمائية لا تفرط في اسئلته الجوهرية اطلاقا ، مركزا على وحدة الموضوع.
فيلم “تواليت” لم يكن فيلما عابرا في سلسلة الافلام التي تناولت قضية تنظيم الدولة اللا إسلامية وما تركه هذا التنظيم المنحرف من آثار نفسية مدمرة شلت مفاصل حياة المواطن العادي، وعطل حركة الحياة.. ولهذا بأعتقادي المتواضع، يعد هذا الفيلم من الافلام الروائية القصيرة التي تستحق الاهتمام وجدير بالمشاهدة لما يكتنزه من حرفة وتقنية واسلوبية مدروسة بعناية.
- كاتب وناقد من العراق