القنبلة الجنسية التي أسقطت امبراطور فوكس نيوز

رغم عجزه وشيخوخته يريد تأكيد قوته رغم عجزه وشيخوخته يريد تأكيد قوته

من أفضل ما شاهدت من أفلام في الفترة الأخيرة الفيلم الأمريكي الجديد “القنبلة” Bombshell الذي يقوم ببطولته ثلاثة من كبار نجوم السينما الأميركية، وقد رشح لنيل ثلاثة من جوائز مسابقة الأوسكار.

ليس شرطا أن تنجح دائما الأفلام التي تعتمد على وقائع وشخصيات حقيقية في التعبير عن موضوعاتها، إلا أن فيلم “القنبلة” Bombshell للمخرج جاي روش، يثبت أن من الممكن أن ينجح هذا النوع من الأفلام إذا عرف مخرجه بالتعاون مع طاقم الفيلم، كيف يجعل من القصة الحقيقية مادة بصرية تثير اهتمام المتفرج، وأن يكون الفيلم أيضا ممتعا رغم أننا كمشاهدين ربما نعرف الكثير من تفاصيل القصة، بل ونعرف كيف انتهت.

يستند سيناريو الفيلم- الذي كتبه تشارلز راندولف- على التقارير التي نشرت في الصحف وتناولتها وسائل الإعلام الأمريكية في منتصف عام 2016.  هذه التفاصيل تتعلق بالفضيحة المدوية التي وقعت داخل شبكة فوكس نيوز التليفزيونية وتداعياتها في فترة ما قبل، ثم بعد إعلان ترشيح دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة. في البداية لم تكن الشبكة تميل كثيرا الى ترامب وكان صاحبها روبرت ميردوخ ينظر إليه بتشكك، لذلك قامت كبيرة المذيعات في الشبكة، ميجين كيلي (تشارليز ثيرون) بإجراء مقابلة مع ترامب وجهت إليه خلالها سؤالا بشأن نظرته المتدنية إلى المرأة، وهو ما أثار غضب ترامب فصب لعناته عليها من خلال “تغريداته” الشهيرة.

تشارليز ثيرون في دور ميغين كيللي

أما الموضوع فيبدأ من قرار الاستغناء عن مقدمة البرامج الشهيرة جريتشن كارلسون (نيكول كيدمان) فتلجأ لمقاضاة المدير التنفيذي للشبكة والمتحكم في مسار الأمور فيها، “روجر إيلس” بتهمة التحرش الجنسي، أو بالأحرى، الابتزاز الجنسي مقابل الصعود الوظيفي. محاموها ينصحونها بأن تكون القضية موجهة ضد إيلس نفسه ولا تشمل فوكس نيوز لكي تتفادى أن توجه الشبكة كل أسلحتها ضدها. ولكنها في هذه الحالة تصبح في حاجة الى “شهود” أو بالأحرى- “ضحايا” آخرين، يدعمون اتهاماتها.

دراما السقوط

نحن أمام دراما تدور في معظمها داخل صالة الأخبار في الشبكة الإخبارية الشهيرة، مكاتبها وردهاتها وغرفها، وأهمها بالطبع مكتب المدير روجر إيلس الذي تجاوز الخامسة والسبعين ولم يعد يستطيع المشي دون العكاز. ورغم ذلك، لا يكف عن اقتناص الموظفات الباحثات عن دور أو عن فرصة للصعود وخاصةً الظهور على الشاشة. تدريجيا ومن خلال البناء الذي يقوم على شكل أقرب إلى الدكيودراما أو الأسلوب الدرامي التسجيلي، مع الانتقال بين الحاضر والماضي، بغرض تسليط الأضواء على ما حدث بالفعل من مواقف حاسمة في حياة الشخصيات الرئيسية وأولها بالطبع غريتشن، نكتشف أن “ميغين كيلي” نفسها تعرضت من قبل لاختبار “الولاء”، وهي الكلمة التي يستخدمها إيلس في التعبير عن رغبته في نيل فريسته. والمقصود الاستسلام لرغباته الجنسية. ولكن هل يمكن أن تنضم ميجين الى زميلتها في دعواها القانونية؟

يجيد المخرج جاي روش التعبير عن أجواء الفترة من الزاوية السياسية، من خلال ما نشاهده أو نلمحه أو نسمعه عبر الشاشات الكثيرة المنتشرة داخل غرفة الأخبار، كما يكشف العلاقة بين ترامب وفوكس نيوز وكيف أصبحت الشبكة صوت اليمين في أمريكا، وكيف يتم تطويع الأخبار لخدمة أغراض سياسية، كما يمزج المخرج بين الممثلين وخاصة تشارليز ثيرون، والشخصيات الحقيقية، كما نرى عندما تحاور ثيرون ترامب باعتبارها ميغين كيلي.

هناك أيضا الشخصية الثالثة الرئيسية في الفيلم “كايلا” (مارجوت روبي) وهي موظفة مبتدئة ترغب بكل قوة في أن تصبح مذيعة تظهر على الشاشة. وإذا كانت كل من جريتشين وميجين شخصيتين حقيقيتين، فكايلا شخصية مبتكرة تعتمد على ما وقع لشخصيات نسائية عديدة داخل تلك الشبكة التي يكشف الفيلم بكل قوة عما كان يحدث في داخلها دون أن يسقط في النمطية أو المبالغات أو تبسيط الشخصيات وتقسيمها إلى شخصيات طيبة وأخرى شريرة. نحن مثلا نعرف أن “ميغين كيلي” ارتضت بالصمت طويلا على ما وقع معها، وأنها باعت جسدها من أجل الاحتفاظ بوظيفتها. أي أنها كانت متواطئة ولو بالصمت عما يحدث من تحرش واستغلال. كما أن روجر إيلس لا يظهر في الفيلم كحيوان شره شرس يقتنص ضحاياه بالقوة والاغتصاب (على غرار ما هو منسوب لهارفي وينستين مثلا)، بل كرجل رقيق ناعم، أبوي، يستخدم لغة مهذبة، ويتخفى وراء الكلمات التي تحمل أكثر من معنى، بحيث يجعل مغزاها واضحا للطرف الآخر. وهو لا يمانع من حضور زوجته التحقيقات التي تجري معه، والاطلاع على ما هو منسوب إليه من تحرشات جنسية حتى عندما يكشف الفيلم أن “غريشتين” سجلت له سرا ما كان قد أنكره بالفعل أمام المحققين. هنا يصبح سقوطه محتما.

وراء الباب

الطابق الثاني من المبنى الضخم، هو مقر روجر. والصعود من الطابق الأول يكون بالمصعد. وفي مشهد بارع من الفيلم، تلتقي النساء الثلاث مصادفة داخل المصعد. كلهن في الطريق لمقابلة روجر أو لطلب مقابلته، مع اختلاف الأسباب. ولكن مديرة مكتبه التي تقوم بدور أقرب لدور القوادة، هي التي في يدها سلطة السماح أو عدم السماح لأحد بمقابلته. أمام مكتبها تنصرف إحداهن بعد رفض طلبها مقابلة الرجل، وتتراجع أخرى بعد أن ترى أن الموظفة الجديدة الأكثر شبابا هي التي نالت الموافقة ودلفت بالفعل إلى “الداخل”، وأصبحت وراء الباب المغلق الذي يمكن أن نستنتج ما يدور خلفه وما سنكتشف لاحقا أنه تم مرارا وتكرارا دون كلل على مدار سنوات مع عشرات النساء.   

الشقراوات الثلاث: مارجون روبي ونيكول كيدمان وتشارليز ثيرون في لقطة من الفيلم

من المشاهد الأخرى الجيدة مشهد المواجهة بين المالك الحقيقي للشبكة روبرت ميردوخ (مع ولديه) وروجر إيلس. هنا يكشف الفيلم أن من يملك المال هو من يملك حسم الموقف. فالفضيحة يمكن أن تتسبب في عشرات الملايين من الخسائر للشبكة، لذلك يتعين على ميردوخ أن يتخذ قرارا فوريا لا يراعي أدنى اعتبار لكون روجر هو الذي أسس شبكة الأخبار وأدارها بكفاءة وجعلها تحقق أرباحا بالملايين عبر خمسة عشر عاما. فالرأسمالية لا ترحم أحدا عندما يتعلق الأمر بالخسارة.

إننا نشعر في لحظات كثيرة بأن غرفة الأخبار حيث يتحكم المخرج جاي روش في حركة الممثلين، بالتعاون مع مدير التصوير باري أرويد (كابتن فيليبس، ملك محظور، ديترويت) ومهندس الديكور ومنسق المناظر ومصممي الملابس والماكياج، قد أصبحت في الواقع ما يشبه “بيت دعارة”. هنا يتم التركيز على الملابس القصيرة المثيرة التي ترتديها المذيعات للكشف عن سيقاهن حسب تعليمات المدير الذي يرى أن العمل التليفزيوني “شو” أو “استعراض بصري”، وأن الجمهور يريد أن يشعر بالمذيعة كأنثى. ومن جوانب البراعة في الإخراج أن نلمح من دون الحوار، علامات التوتر والقلق والريبة والتشكك بين الجميع، سواء من يتطلعون من خلف الحواجز الزجاجية أو عبر الفواصل بين المكاتب. ويبتكر السيناريو دور “جيس كار” (كات ماكينون) منتجة برنامج التوك شو الشهير الذي يقدم في وقت الذروة، التي ترتبط بصداقة مع “كايلا”، وتوجه لها النصائح، ثم تعترف لها أنها من مؤيدي هيلاري كلينتون، وأنها تمقت جو العمل في “فوكس نيوز”، ولكن المشكلة أنها تتمتع بوظيفة جيدة في فوكس نيوز، لكن المشكلة أنها إذا تركتها فلن تجد من يقبل توظيفها في أي محطة تليفزيونية أخرى!

عن التمثيل

نحن أمام مباراة رائعة في الأداء. أربعة أو خمسة ممثلين وممثلات، يرفعن الفيلم إلى القمة. ومن دون هذا المستوى من التمثيل مدعوما بالماكياج، لما كان أصبح لدينا فيلم بكل هذه القوة والتميز والتأثير. هناك أولا تشارليز ثيرون التي تقوم بدور ميغين كيلي التي تخفي أكثر مما تظهر، ولكن عندما تُظهر فإنها تقوم كما نرى في البداية بدور العارضة التي تعرض لنا الشخصيات والأدوار داخل الشبكة في مشهد تتحرك فيه وتتحرك معها الكاميرا، وكأننا نشاهد أحد شرائط الإعلانات. أليست الأخبار أيضا سلعة. والمرأة على الشاشة سلعة. والمحتوى سلعة. ومن تبيع وتظهر وتكسب، عليها أن تدفع “فاتورة” الشهرة والنجاح والبريق، من نفسها ومن جسدها.

مالكولم ماكدويل في دور امبراطور الاعلام روبرت ميردوخ

تلقي تشارليز ثيرون هنا بكل ثقلها في دور ميغين كيلي الذي رشحت عنه لأوسكار أفضل ممثلة. وتنجح في التعبير عن التشكك والرفض والغضب المكتوم والمعاناة الصامتة إلى أن تحين لحظة الحقيقة والاعتراف بالحقيقة، يساعدها في القيام بدورها كثيرا، الماكياج الذي يغير شكل وتكوين وجهها لتصبح قريبة الشبه من ميغين كيلي الحقيقية.

نيكول كيدمان تبرع في أداء دور المذيعة الشهيرة جريشتين كارلسون ملكة جمال أميركا 1989 التي وصلت الى تقديم البرنامج الصباحي من فوكس، لكنها فقدت وظيفتها بعد أن قدمت ما لا يرضى عنه مدير الشبكة كما أصبحت متقدمة في العمر، فتبدأ المعركة التي تتضامن فيها معها عشرات العاملات في الشبكة. نيكول تؤدي بقوة وتحدٍ، أداء امرأة تشعر بأنها ضحت بأجمل سنوات شبابها والآن أصبح يتعين عليها أن تنصرف وتلعق جراحها لكنها لا تستسلم بل تصر على مواصلة المعركة.

مارجوت روبي في دور كايلا (رشحت عنه لجائزة أفضل ممثلة مساعدة)، تتميز بالأداء البسيط الناعم، الذي يعكس براءة الشخصية وحيرتها ثم اضطرابها عندما تكتشف شيئا ربما كانت تعرفه لكنها كانت تنكره. وهي تبرع بوجه خاص في المشهد الذي يختلي بها فيه روجر إيلس في مكتبه ويطلب منها رفع فستانها القصير الأسود المثير للكشف عن جسدها. ترتسم على وجهها تعبيرات هي مزيج من الحرج والنفور والتردد والرغبة في الفرار، لكنها وقعت في المصيدة. ولم تعد تستطع التخلص من الموقف لأن كلمات “الرئيس” بدت مطمئنة، صادقة، مجردة، كما أن رغبتها في الصعود قد استبدت بها. لكنها ستفيق من السقوط وتنضم الى الحملة ضد روجر إيلس.

مارجوت روبي في أداء ممتاز أمام روجر إيلس

على مستوى الممثلين الرجال لابد من الإشادة بشكل خاص بأداء الممثل الأمريكي الكبير جون ليثجو الذي قام بدور روجر إيلس (74 سنة). إنه يقدم نموذجا للأداء المحكوم تماما، الذي يبتعد عن النمطية والمبالغات ويعرف كيف يتحكم في نبرة الصوت، وكيف يستخدم الكلمات في هدوء وإصرار وقوة إقناع، بل وكيف يغضب ويثور لكرامته أيضا وكأنه قد أصبح هو الضحية ليس المذنب، خاصة في مشهد المواجهة مع ميردوخ. بل إنه يجعلك تتعاطف معه ولو قليلا في بعض الأحيان، نظرا لحالته الصحية وإعاقته المثيرة للشفقة، لكنه يبدو مدفوعا بما يقوم به من استغلال نفوذ لتأكيد سلطته على النساء، ولكي يشعر أيضا أنه يحصل على مقابل.. “نحن الذين ساعدناهم على الظهور على شاشة التليفزيون وأن يصبحن نجوما من المشاهير، ويجب أن يقدمن لنا المقابل”.. الولاء التام، أي الخضوع. 

ميردوخ يقوم بدوره الممثل البريطاني مالكولم ماكدويل بطل ثلاثية المخرج ليندساي أندرسون التي أصبحت الآن من كلاسيكيات السينما: “لو” و”الرجل المحظوظ” و”مستشفى بريطانيا” كذلك فيلم ستانلي كوبريك “البرتقالة الآلية”.  وهو ينجح في التعبير عن قوة المالك الأصلي للمؤسسة، وكيف يغلب المصلحة على الصداقة وعلى الولاء الطويل فيستغني عن خدمات روجر إيلس بكل قسوة دون أن يسمح له حتى بإبلاغ العاملين في غرفة الأخبار التي كان يتمتع فيها بنفوذ الامبراطور، فيرحل من الباب الخلفي غير مأسوف عليه.

Visited 190 times, 1 visit(s) today