القصة الحقيقية وراء فيلم “عملية اللحم المفروم”
ميرا عمران– فلسطين
لا تزال الحرب العالمية الثانية مبهرة وملهمة حتى هذه اللحظة، والدليل على ذلك هو إنتاج الكتب والأفلام مستمرا بلا انقطاع، وإن الواقع المروع الذي يعيشه العالم اليوم يجعل موضوع “الحرب” أكثر أهمية من أي وقت مضى.
في البداية حظيت القصص الكبيرة أثناء الحرب العالمية الثانية بالاهتمام، مثل عمليات الإنزال في نورماندي ومعركة أرنهيم، وكلاهما في عام 1944، ومع مرور السنين تتم الآن مناقشة القصص غير المعروفة لعامة الناس، ويعد فيلم “عملية اللحم المفروم” مثالاً على ذلك، والغني عن القول الى جانب المعارك الميدانية، أن هناك صراعا موازيا يجري في المكاتب للسيطرة على المعلومات، وان تحركات القوات والإستراتيجيات العسكرية وكل خطوة جديدة يتم اتخاذها تعتمد عليه.
فيلم “عملية اللحم المفروم” Mincemeat Operation الروائي المأخوذ من كتاب “بن ماكنتر” والذي يحمل نفس الاسم، تم إنتاجه بعناية نظراً لاعتماده على النظرية الواقعية التي تروي الأحداث بطابع واقعي يستند الى حدث تاريخي حتى في اختيارهم للأبطال، وذلك من اجل توثيق القصة وتقديم إصدار دقيق للأحداث، ولا يتم سرد قصة تاريخية فحسب، بل يقدم الفيلم أيضًا لقطات عن الحياة في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية بهدف تعزيز الواقعية وتحقيق تواصل أعمق مع المشاهد، أيضا ربط عاطفي مع الجمهور وبناء جوانب إنسانية للسياق الحربي.
اتبع الفيلم البناء الارسطي الكلاسيكي فقد بدأ بتقديم الخلفية التاريخية للعملية والحدث الذي يستند اليه الفيلم بطريقة غامضة ومليئة بالتشويق، فقام بتقديم الشخصيات الرئيسية والتحضير للمغامرة التي ستكون محور الحبكة ونقطة الصراع، وهذه النقطة هي التي ستجعل اي مشاهد مهتم بالأحداث المستقبلية ويترقب تطورها.
“في اي قصة ان كانت قصة جيدة هناك ذلك المرئي وذلك المخفي، هذا حقيقي خصوصاً في قصص الحرب، هناك الحرب التي نراها مسابقة القنابل والرصاص، الشجاعة التضحية والقوة العنيفة، بينما نحسب الفائزين والخاسرون والموتى، لكن بجانب هذه الحرب حرب أخرى شنت، ساحة حرب في ظلال رمادية تحدث في المكر الاغراء وسوء النية، المشاركون غرباء هم نادراً ما يبدون عليه والقصة والواقع مشوشين، هذه الحرب غابة مرايا فيها الحقيقة محمية بواسطة الاكاذيب، هذه حربنا”
بهذه الكلمات بدأ الفيلم، مقدمة كلاسيكية بموسيقى درامية توحي الى التوتر والتي عملت على تعزيز الصراع الموجود، يتخللها صوت “جوني فلاين” السارد الشاهد على الصراع وصوت الة الطباعة القديمة التي يستخدمها، ولقطات في غرفة استخباراتية، يتواجد بها من هم مسؤولون عن عملية “اللحم المفروم” بإضاءة باهتة تعكس الجو المليء بالتوتر والخطر، ولقطات بطيئة تمر على الشخصيات الرئيسية.
في فترة الحرب العالمية الثانية وتحديداً عام 1943 كانت بريطانيا التي تنضم الى دول الحلفاء تخطط لإنزال قوات الغزو البريطانيا في صقلية، ولكن القوات الألمانية كانت تتمركز في تلك المنطقة، فيما ادركت القوات البريطانيا الحاجة لتشتيت انتباه القوات الألمانية وتضليلها بشأن موقع الهجوم، ومن هنا جاءت الحنكة في العمل، حيث يبدأ الحدث التصاعدي عند قيام ضباط المخابرات البحرية “اوين مونتاجو” و”تشارلز تشولمونديلي”، بإعداد مخطط لإرسال معلومات كاذبة إلى هتلر، وكان الهدف من ذلك هو تضليل القيادة الألمانية وجعلها تحوّل قواتها إلى اليونان، وبدون سابق إنذار، أصبح العاشر من يوليو، بوصفه يوماً من أيام الحرب العالمية الثانية كابوس الجاسوسية والاستخبارية البريطانية، هذه العملية كانت جزءًا من استراتيجية الخداع العسكري التي تم استخدامها بنجاح خلال الحرب العالمية الثانية.
وتتصاعد الأحداث عند اقتراح الضابط “تشولموندلي” خدعة تتلخص بأن يحضروا جثة على انها جثة لضابط بريطاني كان مكلفاً بإرسال رسالة للحلفاء وتضمن معلومات كاذبة عن عملية الإنزال في اليونان وتفاصيل تلك المهمة، ويتم ايصالها الى شواطئ اسبانيا والتي كانت تدعي الحياد في تلك الفترة، وأن ذلك الضابط المزيف قد غرق خلال تأديته لمهمته. برزت الفكرة للمرة الأولى في مذكرة تعود إلى عام 1939 كتبها مدير الاستخبارات البحرية البريطانية “جون جودفري”.
الى تلك النقطة في القصة يعتبر الأمر اعتيادياً بالنسبة لعمل اي جهاز مخابرات أثناء اندلاع الحروب الذي يحتمل كل الالاعيب والخدع، الا أن الأمر الأجلّ في هذه الخطة وتصاعد أحداث سرد الفيلم وانتقالها من حال الى حال، تحقق عندما بدأ الفريق المكوّن من “تشولمونديلي” ومعه الضابط “أوين مونتاجو” الممثل كولِن فيرث، والزميلتان “جين ليزلي” الممثلة كيلي ماكدونالد و”هيستر ليجيت” الممثلة بينيلوب ويلتون، بالغوص في الفكرة وتعزيز فرص نجاحها، ومن خلال اجتماعاتهم المكثفة والتي كانت تتركز في فترة المساء، اتفقو على الإعداد والإجهاز للخطة ولكن بإضافة التفاصيل التي تعطي عمق أكبر للقصة، فكانت بداية القرارات أنه لا بُد أن يكون لتلك الجثة معلومات مثله مثل أي ضابط يخدم في الجيش البريطاني، كإسم وتاريخ الميلاد وقصته الخاصة، ولا بد أن يكون لذلك الضابط عائلة وحبيبة يواعدها، ومن المفترض أن يحمل بين أغراضه الخاصة صورة لحبيبته والتي تبين لاحقا أنه تم استخدام صورة الزميلة “جين ليزلي” والتي أـطلقه عليها اسم “بام”، وهكذا يتم تثبيت الأساس في القصة والذي من خلاله يستطيعون تنفيذ خطتهم على اكمل وجه.
وبما ان الفيلم ينتمي الى الواقعية فقد قدم شخصية “تشولمونديلي” بطريقة أكثر إقناعاً مليئة بالعمق على عكس “اوين” الذي كان دائماً يرتدي سترة القائد كما لو أنها ما زالت معلقة على خزانة الملابس، في حين دور “جين” كان عبارة عن المزيج الصحيح من الواقعية والجنس الغامض عنها.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد نجح الفيلم بتقديم الدراما الإنسانية والعاطفية التي عكست تفاعل الشخصيات مع التحديات الحياتية، والتي ظهرت من خلالها الجوانب الإنسانية في ظل الصراعات والمواقف القاسية، ومن الأمثلة على ذلك كان للضابطين المسؤولين عن تنفيذ المهمة مشاعر حب لشخصية جين وأدى ذلك لخلق بعض التنافس بينهما بشكل أثر على اتخاذهما القرارات الخاصة بسير العملية، فلا يمكن للإنسان مهما بلغ من المرتبة والوظيفة أن بنجح بتنحية مشاعره بشكل مطلق عن حياته الوظيفية، أيضا برزت علاقة الحب الأخوية وكيف كادت تتأثر المهمة للضابط “اوين” بسبب شكوك الدولة بأخيه أنه جاسوس روسي ومعرفتهم أن أخاه لا يمكنه التفريط به او قبول ذلك لأنه يحبه ولا يتنازل عنه من أجل أي مصلحة مهما بلغت، و في سياق الحديث عن الحب الأخوي، فقد تطرق الفيلم لقصة أخ الضابط الآخر “تشولموندلي” والذي دائما حاول إحضار جثته المفقودة أثناء الحرب دون جدوى، ووسط كل هذه المشاعر تتقاطع مصلحة مسؤول كبير في الدولة كي يلمح “لتشولموندلي” انه باستطاعته إحضار جثة أخيه مقابل مصلحة معينة يريدها منه.
وهنا قد تتأثر العواطف بشكل كبير بالعقل اللاوعي، حيث يمكن لتلك العمليات العقلية أن تؤثر على شكل واتجاه العواطف دون وعي واضح، من خلال تصرف الشخصيات او تفاعلهم مع المواقف الصعبة، وكيف يمكن للعقل اللاوعي ان يلعب دورا في تشكيل تلك العواطف وتأثيرها على سير العملية.
فأسلوب السرد بالفيلم يتمحور على إثر هذه الحرب على حياة الأبطال اليومية، وكيف يجدون أنفسهم مشغولين بتحمل الاثار النفسية والعاطفية للصراع، في حين تبرز نلك العلاقات والقرارات الصعبة التي يتوجب على الشخصيات اتخاذها في ظل الظروف القاسية، والهدف من تلك الصراعات الانسانية هو ملامسة مشاعر الجمهور وإثارة تفكيره في القيم الإنسانية ومعاناة الشخصيات في زمن الحروب والصراعات، أيضا القاء نظرة عميقة على ما تخلفه الحروب على الأفراد لتعزيز التفاعل العاطفي لدى المشاهد.
وفي هذا الصدد يقول هاري ميلز في كتابه (فن الإقناع) “إنَّ العاطفة تتفوق على المنطق بعدة مزايا؛ أبرزها أنَّ العاطفة تؤدي إلى تغيير السلوك بشكل أسرع مما يفعل المنطق، كما أنَّ العاطفة تتطلب مجهوداً أقل مما يتطلبه المنطق لذلك فإنها في هذا الموضع ستكون أكثر تأثيراً.
هناك العديد من الميزات التي تمتع بها الفيلم مع العديد من المؤامرات ومستويات الخداع، وتم تنفيذ الكثير من التخطيط بشكل حقيقي مع تصوير التقلبات والانعطافات أثناء حدوث الخداع بدقة، في حين نجح الفيلم فنياً بتوظيف العناصر السينمائية فاعتمد على تصوير سينمائي قوي وتقنيات تصوير مبتكرة من خلال مجموعة من اللقطات والزوايا والإضاءة، لتكثيف التأثير العاطفي للسرد عندما تم نقل شوارع لندن المعتمة والحانات في تلك الحقبة الزمنية بشكل واقعي، ويبدو أن معظمها تم تصويره في جزر تشاتام الواقعة في نيوزيلندا.
عندما تكون القصة حقيقية، فلا يوجد الكثير مما يجب المساهمة به لجعلها أكثر إثارة للاهتمام، لكن من الضروري إعطاؤها إيقاعًا، وتشكيل طاقم عمل مثير للاهتمام، وبشكل عام “عملية اللحم المفروم” تفي بالمعايير في جميع هذه الجوانب، وقدرتها على إبقاء النظام الكلاسيكي في طريقه، على الرغم من رغبة المخرج في إعادة بناء القصة بأكملها بأكبر قدر ممكن من التفاصيل.