القتل الرحيم ومقاومة الزمن في فيلم “امرأة بمليون دولار”
تعد مسألة القتل الرحيم واحدة من أكثر الإشكاليات الفلسفية تعقيدا منذ قديم الأزل، وقد تناولتها الأفلام السينمائية من جوانب كثيرة، منها المؤيد ومنها المعارض ومنها الحيادي والذي لا يخبرنا مآل شخصياته اللاتي نفذت فعل القتل الرحيم.
وفي هذا المقال، نسلط الضوء على تلك المسألة في فيلم حديث أمريكي وهو للمخرج كلينت إيستوود “فتاة بمليون دولار” A Million dollar baby 2004 والفائز بأوسكار أحسن فيلم.
ما هو القتل الرحيم؟
بالرغم من تفوق الإنسان ذهنيا على العديد جدا من المخلوقات التي تتواجد حوله، إلا أنه ذو قدرات محدودة في تحمل الألم النفسي والبدني أقل بكثير من قدرات تلك المخلوقات.
وقد حاول بشتى الطرق المشروعة والغير مشروعة، إثبات تفوق قدراته في تحمل تلك الآلام وتجاوزها، فاخترع الأدوية المسكنة واخترع عقاقير الهلوسة والمشروبات الروحية وأشياء كثيرة تساهم في تناسي وتجاوز الألم النفسي والجسدي، حتى يستمر شعور الإنسان بالتفوق على الأقل في داخل محيطه.
وإحدى وسائل إثبات التفوق تلك، مسألة القتل الرحيم، إذ أن الشخص عندما يتأكد من عجزه التام عن التخلص من المعاناة، يتفاقم لديه شعور شديد بالدونية، لأن العجز إحدى الصفات اللاتي يحاول الإنسان أبداً التخلص منها، فيصبح ذلك الشخص العاجز عن التخلص من معاناته، طريداً لكبرياء روحه والذي يستسلم له، فيصبح عندها قرار التخلص من الحياة، هو استمرارية لفعل الإرادة وفعل الإنسانية، فيحاول الانتحار إما بنفسه إذا كان قادر على ذلك، أو بمساعدة طبيبه الخاص أو صديق مقرب جدا له.
ولكن الآخر الذي ينفذ أو يساعد في ذلك القتل/ الانتحار تراوده أفكار كثيرة عن الحرية، حيث حرية الإنسان في انتحاره والتي تحرمها العديد من القوانين الحديثة أو الديانات الابراهيمية، لأنه في ذلك التوقيت بالذات، من الصعوبة اعتبار قرار المريض بأنه رأي حر وعقلاني، لأنه رأي شخص يقف عند الحافة.
وبالطبع، الظروف النفسية القهرية في ذلك الوقت، هي ما تثير تلك الأفكار وتزيد من حدة تلك الاضطرابات التي تغرز الإنسان في منطقة بين الحياة والموت، فهو مجازيا لازال يمارس فعل الحياة بأنه يتنفس وموجود وبالتالي انتحاره او المساعدة على قتله عمل اجرامي، وحرفيا به جزء كبير ميت بسبب صعوبة تنفيذ الأفعال التي فعلها من قبل، بسبب استحالة تغلبه على عجزه الآتي من مرض عضال أو بتر بعض من أطرافه أو حتى تفوق الزمن على جسد الشخص ذلك، بأن يصل لسن كبير مع تفاقم لشعور الفشل، وانتحاره أو المساعدة على قتله بإمكانها إيقاف المعاناة حسبما يعتقد الشخص في تلك الحالة.
مسألة القتل الرحيم إذن، هي إحدى أكثر معضلات الحرية تعقيداً، فإذا كان الانسان حُرا، فإنه بالضرورة يمتلك السيطرة على قراراته ويمتلك السيطرة على جسده الذي ينفذ تلك القرارات، ولكن التوقيت في مسألة الحرية مهم جدا حتى يتسنى لنا الاعتقاد بأن الفعل الحاصل هنا هو فعل حر، ينفذه الانسان بكامل قدراته العقلية، وفي ذلك التوقيت كما ذكرنا، يصبح قرار الشخص ذلك، هو قرار شخص يقف عند الحافة، حافة الحياة والموت، حافة البقاء أو الفناء، الحافة الأكثر إلحاحا على الهرب منها.
لذا، من الصعب الإقرار بحرية ذلك الشخص بالتخلص من حياته، ومن الصعب اعتبار قرار الانتحار ذلك هو احدى ممارسات الحرية.
في فيلم “فتاة بمليون دولار” تتضح تلك التناقضات وتزداد صعوبة فهمها وفصلها لكي تتكشف.
معركة ضد الزمن
عندما ينشأ الإنسان ويترعرع في بيئة فقيرة، تكبر معه حاجاته التي لم يلبيها في صغره، وإن لم يستطع تلبية تلك الحاجات، ينشأ في داخله شعور بالندم الشديد والرغبة بالانتقام من الماضي، فيصاب بنهم تجاه تحقيق احتياجاته في الحاضر، ويهاب كثيرا من المستقبل، لأنه بمعطيات الماضي وتجاربه الحياتية السابقة، سيكون عاجزا في وقت ما عن تحقيق تلك الحاجات.
نشأت ماجي (هيلاري سوانك) في بيئة فقيرة وعائلة مفككة، نالت بعض الحب من والدها الذي توفي وهي صغيرة، ثم تركت مسقط رأسها وذهبت للعمل في أشياء كثيرة، عمقت جراح النقص لديها بسبب عدم تلبية حاجاتها المرحلية، وصعوبة أو ضآلة المردود المادي من الأعمال التي تمارسها وبالتالي من الصعب عليها أن تجد هوايتها لأن خياراتها محدودة ومقيدة بشريحة اجتماعية، فشعرت ماجي وتولد لديها جرح كبير أيقظ طفولتها ومراهقتها وشبابها التي لم تحياه كما يجب أو كما تشتهي هي على أقل تقدير.
تنقسم حياة ماجي إلى مرحلتين، المرحلة الأولى وهي الأحداث التي تسبق تدريب فرانكي (كلينت إيستوود) لها وفيها يتفوق الزمن، والمرحلة الثانية بعد تدريب فرانكي لها، وفيها تحاول أن تتفوق على الزمن.
المرحلة الأولى في حياة الفتاة الفقيرة، وهي التي نفهمها من سياق الفيلم، والذي عرضها المخرج، إما بصوت الراوي، أو بصوت ماجي نفسها، تكشف لنا مدى شغف ماجي بمحاولة التخلص من الماضي، أو في التفوق على الزمن.
النشأة الفقيرة لماجي علمتها فعل الادخار، فهو علاج مؤقت للفقر والشعور بالحاجة، وبه يتفوق الزمن عليها، حيث حاجات الحاضر أكبر من إمكانياتها المادية فتحقق حاجات الحاضر في المستقبل، فينشأ في لا وعيها ثأر ضد الزمن، تحاول أن تحققه فيما بعد مع فرانكي.
والنشأة وسط العائلة المفككة، أصابها بشغف تحقيق الوفاء، فبه نوع من التفوق على الزمن، على اعتبار أن الزمان حركة وتغيير، والحفاظ على أية قيمة في الماضي أثناء الحاضر هو الاقتطاع من الزمن أو توقف مروره عند تلك القيمة حيث ثباتها في وجه التدفق أي الزمن، لأن مرور الزمن على تلك القيمة وسط عائلتها قد أبخسها بسبب صعوبة الحفاظ عليها وسط الظروف السيئة المادية والنفسية، فجاهدت ماجي نفسها وتخلّت عن فرصتها في الذهاب مباشرة لمباراة بطولة العالم مع مدرب آخر غير فرانكي، كان سكراب (مورجن فريمان) قد قابلها به، من أجل اعتزازها الشديد ويقينها بأنها بذلك تتفوق على الزمن الذي ضاعت فيه قيمة الوفاء، وكان مثالا على ذلك علاقتها بعائلتها التي تفسخت تماما بمرور الأيام/ الزمن.
تلك القيم، في رؤية أو من زاوية أخرى، هي فعل تفوق على الزمن، من ناحية أن تتخلص من ماضيها وتتحقق من المستقبل أو الحاضر بأن تبتعد عن أساليب العيش في وسط العائلة الفقيرة، أساليب العيش تلك التي يقترن بها الانكفاء على الذات أو الأنويّة مما يؤدي لضياع الحب والذي هو أحد الحقوق الطبيعية لماجي ولآية شخص يعيش وسط عائلته، ضياعها ولّد لدى ماجي شغف أكبر وأكبر بتحقيق الحياة، أن تحيا كما تحب، ليس لأنها تصالحت مع الماضي، بل لأنها تخلصت تماما من الماضي، أو على أقل تقدير، الظروف النفسية والمادية السيئة التي تحاكي ماضيها.
فإذا كان الماضي جيد، شعرت ماجي بالزمن وقيمته الجميلة من تطور الجمال المحيط بها وتطور علاقاتها بمحيطها، ولكن الماضي بالنسبة لها كان كليا يصاحبه ألم كبير، فالتخلص من الماضي، يخلق حاضر آخر غير الحاضر المفروض أو المتسلسل على أحداث الماضي، وهنا فعل تفوق على الزمن، لأنها تجاوزت تسلسله المنطقي.
المرحلة الثانية في حياة ماجي هي مرحلة تصفية الحسابات أو مرحلة التنقل بين الطبقات الاجتماعية، وبها سوف تحيا ماجي، تمارس فعل الحياة بأن تفعل ما تحب مع من تحب وتحقق من خلال تلك العاطفة النجاح فيما تحب، لأنها حُرمت من ذلك بالرغم من يقينها بأنها حقوق طبيعية، وهو ما ساهم في تعميق الجراح التي حملتها من الماضي وفشلت في تحقيقها في المستقبل، كجرح العائلة والفشل.
تمارس ماجي الملاكمة وتختار مدربها، تنتقل إلى طبقة نفسية أكثر إنسانية، من فكرة التعايش مع الأحلام المستحيلة، إلى فكرة التعايش مع الأحلام المؤجلة التي ستحاول تحقيقها بأسرع ما يمكن، ثم تحاول أن تنتقل بعائلتها من طبقتها الاجتماعية إلى طبقة أعلى وهو ما تنجح فيه شكليا، لكنها تفشل في لم شمل عائلتها إنسانيا وزرع قيمة كانت محرومة منها، كالاهتمام بين افراد العائلة والذي ينشر الحب بينها، والتي لم تحاول تنميته ببذل أية مجهود.
فالحب بالنسبة لماجي شيء هامشي، هي تخلت عنه لأنه يبقى من الأحلام المستحيلة ولم تراه وتتعامل معه أبدا كحلم مؤجل، فهي تمارس رياضة رجالية وتلتقي بالكثير من الرجال، وبالرغم من كل ذلك، لم نجد رجلا تحبه في حياتها ابداً، والرجل الوحيد التي هي على علاقة طيبة به هو فرانكي.
وهي علاقة تستعيض بها فقدان والدها المبكر، لكي تشعر فيها بتحقيق ذاتها من خلال تحقيق وجودها وتأثيرها في نفوس الآخرين، وهي علاقة ليست بالحب، لأن علاقة الحب تفترض التجديد في طريقة التفاعل مع الآخر المحبوب، فعلاقتها بفرانكي كانت تحاكي بالنسبة لها علاقتها بوالدها، لم تستخدم أية مشاعر جديدة بل استعارت من ذاكرتها الشعورية.
ماجي حبيسة ماضيها، ماضيها المؤلم، الحقوق الطبيعية الضائعة، الأحلام المستحيلة، تفوق الزمن عليها دائما، وما يتضح داخل أحداث الفيلم، التي بدأت عند وصول ماجي لسن الثلاثين، أن ماجي بسبب فقرها، عانت الكثير بسبب عدم تحقق فعل الإرادة، فحاولت ما أن امتلكت القدرة على ممارسة ذلك الفعل، في ان تبحث عن هوايتها المؤجلة وشغفها تجاه الحياة، فمارست الملاكمة إلى أن تمكنت منها وتمكّنت الملاكمة تماما من ماجي أيضا، حتى بات من المستحيل افتراقهما.
وقفت ماجي عند الحافة أكثر من مرة، حافة الفقر والفشل مثلا ولكنها لم تقف عند حافة الحياة أبداً، فالفقر والعزلة والفشل كل تلك الأشياء تقتل مؤقتا بالطبع، لكنها لا تُنهي لا تُفني، لذا، عندما تمكّنت الإصابة من ماجي، كان رد الفعل الطبيعي منها هو محاولة الثأر من تفوق الزمن عليها مرة أخرى.
الزمن الذي حوّلها وغير طريقها كثيراً، الزمن الذي أبعدها عن تحقيق فعل الإرادة، أهم الأفعال الإنسانية، وعندما جاءت الفرصة، لكي تتفوق على الزمن، تتفوق على الماضي، تتفوق على كل سوابق الفشل، تخلّصت من حياتها بإرادتها، شعرت حينها بأنها لابد أن تموت، لا أن تفنى، حيث بترت قدمها اليسرى، وقد تبتر اليمنى وباقي أطرافها.
ماجي شاهدت اقترابها من الحافة بشجاعة شديدة، تمكنت من الابتسام وتمكنت من الإرادة وانسانيتها فلم تهرب، بل طلبت من فرانكي بأن يريحها، ليست راحة بالمعنى الطبيعي، وإنما راحة استثنائية، راحة ثقافية، راحة تكرّم ملاكمة وصلت لمباراة اللقب وخسرتها لأنها حافظت على انسانيتها ولم تتماهى مع بربرية الخصم، راحة تحافظ على روحها وما تبقى من جسدها كي لا تشاهد الفناء والخسارة في المعركة الأخيرة ضد الزمن .. ماجي كسبت المعركة بانسحابها.
والذي ساهم في تلك المعركة هو فرانكي، الطرف الآخر الذي رافق ماجي رحلتها الأخيرة، بعد تنفيذه رغبتها في الانتحار، الشخص الأقرب لها وهي الأقرب له، تخلى عن ذاته، تخلى عن ماضيه وحاضره ومستقبله، استسلم أمام الزمن، لكي تتفوق ماجي عليه.
القتل الرحيم بالنسبة لماجي هو مسألة الحفاظ على كرامة مقاتلة/ ملاكِمَة، كرامتها تلك بالنسبة لها هو تفوق على الزمن وانتصار لها في المعركة ضده، بأن تسحب من جسدها روحَه وهو شبه كامل بعد بتر طرفها الأيمن واستحالة استعادتها للسيطرة على أطرافها، لا أن يتم سحب روحها من جسدها وهو شظايا وأكثر بؤساً من ذلك الوضع.