الفيلم المغربي”كلام الصحراء”.. الرهان على جماليات البطء
يعود الفنان الفوتوغرافي والمخرج السينمائي المغربي داوود أولاد السيد إلى المشهد الفني المغربي بثلاثة معارض استيعادية تُسَلِّطُ الضوء على تجربته الفنية الفوتوغرافية بمدينة مراكش التي ولد وقضى فيها طفولته ومراهقته، ولم تنقطع علاقته الحميمة بها طيلة حياته كما ظل يصورها منذ زمن طويل، وها هي تحتضن، اليوم، ثلاثة معارض كبرى لأعماله الفوتوغرافية بالأبيض والأسود والألوان.
إنها إبداعاتٌ تدور في مجملها حول أهم وجوه الفنون والرقصات الشعبية المغربية، وكذا حول مسقط رأسه: المدينة وضواحيها، وبعض الظواهر والموضوعات ذات الطابع الإثنوغرافي والأنثروبولوجي التي تشغل بال الفنان بمناطق مغربية أخرى.. ولربط الفوتوغرافيا بالسينما في مسار هذا المخرج، فقد انتهى من عمله السينمائي الجديد “كلام الصحراء” الذي لا ينفصل عن رؤيته الفوتوغرافية، ولا عن أسلوبه السينمائي الذي راكمه، وتَمَيَّزَ به، كواحد من أهم المخرجين المغاربة الذين ذاع صيتهم خارج بلدهم.
فضاء الصحراء
يعود المخرج إلى فضاء الصحراء، والجنوب عامة، كعادته في كل أفلامه الروائية الطويلة السالفة، إذ يبدأ الشاب اليتيم “مولود” (نور الدين سعدان) رحلة بحث تنطلق من مراكش- عن أبيه، لعله يكشف لغز إيداعه في دار للأيتام، وتخلي أسرته التي يجهل عنها كل شئ، عنه بطريقة غير مفهومة منذ الولادة. ويستند الفيلم إلى حكاية مطروقة في الحكي الأدبي والفيلمي، تتذرع برسالة عثر عليها الشاب مُودَعَةً داخل قاروة زجاجية مملوءة برمال الصحراء. هكذا، ستكون الصحراء فضاءً جامعا لمصائر ثلاث شخصيات، وستتحول الرمال إلى مطية للسرد الفيلمي. سيلتقي الشاب بالشيخ “حمَّادي” (أحمد الشحيمة) الذي يعيش رفقة زوجته على أمل عودة ابنه الوحيد، المُسَافِرٍ بعيدا، وسيتعرف على طالبة (هاجر الشرگي) تسعى من خلال بحثها الأكاديمي لتجميع التراث الشفهي (القصائد الزجلية) الى تخليد ذاكرة أبيها والمنطقة كافة.
يكرس المخرج الاشتغال على البطء كمكون أساسي في سينماه، وذلك باختياره “اللقطة- المشهد” كاستراتيجية للكشف عن نمط العيش في المناطق الصحراوية التي تسير على إيقاع مغاير، يختلف جوهريا عما يجري في المدن الكبرى. وبالعودة إلى تاريخ السينما، تسعفنا أفلام “الويسترن” الأميركية في فهم طبيعة هاته اللقطات في التعامل مع الفضاءات الشاسعة، والوقائع البطيئة، وذلك ما يجعل السينما تنفذ إلى الأعماق النفسية للشخصيات، ومنها للذات الإنسانية التي يشفيها السفر، ويسعفها في التفريج عما يعتمل بدواخلها من ذكريات مكبوتة، وهواجس ضاغطة قد لا يمكن تجاوزها دونما كشف خيوطها المجهولة أو الملغزة. وبهذا يكون فيلم “كلام الصحراء” عبارة عن متوالية بصرية تتأسس على منظومة من المَشَاهِد ذات الجاذبية البصرية الخاصة بالنظر لجمالية تأطيرها وتركيبتها المبنية على عمق المجال، والبحث في زوايا التصوير في علاقتها بالمنظور، ووضعية الشخوص وبقية العناصر المُشَكِّلَة لإطار الصورة السينمائية.
الصوت الخارجي
يمكن الانتباه في هذا الفيلم إلى تعميقِ المخرجِ البحثَ في ما يقع خارج الإطار، وخارج مجال الصورة عموما؛ وكذا في اعتماده الفني المكثف والموفق لتقنية الصوت الخارجي (Voix off) كأسلوب سردي ينبعث مما لا يراه المتفرج؛ إذ كنا أمام عدة مشاهد يخضع فيها التقطيع الفيلمي أو المشهدي لتلك التقنية، وهو ما يفسح المجال أمام الاشتغال على البعد اللامرئي في الصورة كما يحدث أكثر في التشكيل والفوتوغرافيا مما يستدعي تحفيز الجهاز الحسي للإنسان، واستدعاء خياله وعقله للتفكير في المجرد. فبالقدر الذي نعتبر فيه السينما فنا للإظهار والكشف، فالخفي واللامنكشف يصاحب فيه الظاهر والمجسد بشكل حميمي وحتمي. ويمكن النظر إلى اللامرئي في هذا الفيلم من خلال ثلاثة جوانب أو وجهات نظر تهم الشق المادي والشق النفسي والشق الروحي.
يرى الكثير من النقاد وعشاق السينما والمرتبطين بها، أن هذا الفيلم يعرف تراجعا كبيرا مقارنة مع أفلام المخرج السابق، وأعتقد أن السبب يعود إلى ترحيل الحكاية إلى الصحراء، والتفاوت المهول في طاقة الممثلين إلى درجة صار الممثل الكبير أحمد الشحيمة حاملا لثقل الفيلم على عاتقه، فقد كان مندمجا في الموضوع، ومنسجما مع روح الشخصية، وهو الأمر الذي لم نلمسه لدى الشخصيات الأخرى التي اكتفى بعضها بالأداء فقط مع الإشارة إلى الشاب ظل متجهما طيلة الفيلم، محافظا على ملامح ثابتة، وغير عاكسة تماما لحالاته النفسية، وإن كان مبرر هذا أنه يعيش شرخا نفسيا بليغا جراء قلقه الوجودي المرتبط بجهله لأصوله. ولكن، الإنسان مهما بلغت به درجة اللاطمأنينة، لابد وأن يجد بعض الأشخاص أو يصادف بعض المواقف التي تعود به إلى تلقائيته وعفويته وإنسانيته. وهنا ينجلي الوعي العميق بالشخصية التي يمكن أن يتقمصها مُمَثِّلٌ معين، وأن يعمل المخرج على إدارة إيصالها للمتلقي دون زيادة أو نقصان كي تكون أكثر صدقية.
إضافة الى هذه تتمثل مشاكل الكتابة السيناريستية في هشاشة الخيط الجامع بين الشخصيات، ونقصان المكونات الدرامية المبررة لمختلف العلاقات بينها؛ إذ لا يمكن أن تلعب الصدفة الرابط الأساسي في تطور الحدث، وإن تَمَّ ذلك فالتعويض يكون بواسطة عوامل أخرى قد تتمثل في نوايا الشخوص وانشغالاتهم أو جاذبية الإخراج، وهي أمور ظاهرة الهشاشة لم تستطع تلك القصائد المُعَبِّرَة أن تشكل الأرضية الصلبة والجامعة لها، بل بَدَت مُقْحَمَة في غالبيتها، وغير متساوقة مع الفضاء والمناخ الفيلمي العام. لكن الجهد المبذول في الإخراج، وخاصة الاشتغال الكبير على جماليات الصورة، قد شكل المُحَفز على تخيل ذلك التيه الداخلي الذي يعانيه الشاب الباحث عن الأب، والذي كان باعثا أو معادلا لما يمكن أن نسميه التيه البصري الذي سعى المخرج لتأطيره أو التلميح إلى اللامرئي منه.
حركة بديلة
ظل المخرج داوود أولاد السيد يراهن على جماليات البطء عبر الاقتصاد في حركة الكاميرا وإنتاج حركة بديلة على الشاشة، والعمل على دعم تلك المكونات بشريط صوتي غني بالصمت وجَامِعٍّ للأصوات المنسجمة مع الإيقاع الفيلمي الذي يرفع من إثارة أحاسيس المتلقي. احتفت الصورة بجمال الصحراء ورمالها وكثبانها وصفرة لونها في جو ربيعي اختاره المخرج عن قصد، وهو الذي خَبِرَ خصوصيات الضوء في الصحراء عبر مختلف فصول السنة. لذلك، لم يخلف عشاق مثل هذه السينما ومتذوقيها شغف الاستمتاع بها، والنظر ببطء للعَالَم بغية تعميق الصلة بأشكال الهشاشة التي تثيرها جمالية الصور، وما يمكن أن تفيض به النفس وتستلهمه من مشاعر تدفع نحو الحلم والاستلهام.