الفيلم القصير .. بين الرؤية والمعالجة

تشتغل منظومات متعددة في المجتمع، عددا من الافلام القصيرة (روائيا أو وثائقيا) عبر مؤسساته المختلفة، منها الحكومية ومنها شركات الانتاج الخاص، وبعض القنوات الفضائية، وعددا ليس بالقليل من الجهات التي تهتم بهذا النوع من الإنتاج.

 ويبدو أن المتغيرات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والحضارية بشكل عام، قد حفزت كثيرا هذه الجهات على تفعيل صناعة الفيلم القصير.

وعند ملاحظة الكم المتنوع من هذه الأفلام، نجد أنها على مستويات مختلفة قد يرتقي بعضها وقد لا يستحق البعض الآخر هذا الارتقاء، ومما لا شك فيه، هناك من درس وتعلم أكاديميا واحترافيا، بمؤسسات تعليمية معروفة، كيفية الاشتغال الأفضل للفيلم وفق مناهج معرفية وتطبيقية مستوفية للشرط التعليمي المتقن، وبما يحقق وعيا ومفهوما وجدلا وثيقا بين ما يحمل المخرج من رؤية فكرية إزاء مضمون الفيلم، ومستوى المعالجات الاخراجية الماهرة، فيما بقي  البعض الآخرعلى مسافة ليست هي الأقرب من الحرفة والمعرفة، وكذلك غياب الأسس الصحيحة لإنجاز فيلم روائي قصير بمواصفات العناصر المهمة في بناء الفيلم.

فالفيلم الوثائقي مثلا، ليس مهنيا أن نعده تجميعا للقطات من هنا وهناك، فهو مركب من عناصر عدة تتفاعل مع بعضها لتنتج لغة بصرية ناطقة بالمعنى من خلال الصورة والمكان والشخصيات والحدث والوثيقة والأصوات والعلامات وغيرها.

ويعتقد البعض، ان العملية لا تتعدى ذلك أكثر من تركيب بعض اللقطات التي يمكن أخذها من مكتبات الأخبار، ليجمع منها في غرفة المونتاج  فيلما قابلا للعرض والمشاركة في المهرجانات.

ولهذا نحن لسنا الأقرب إلى من يستسهل عملية صنعة الفيلم القصير، ذلك الإنجاز الابداعي، الذي يتخذ من لغة  الصورة المتحركة وسيطا تعبيريا في تجسيد الحكاية، وبما يتطلب بناءا ذهنيا وتقنيا لبث روح الجمال والفكر فيه، فالفيلم بحاجة إلى نص، وسيناريو مختزل، والى لغة بصرية فائقة الحركة والمحملة بأجناس التعبير والتجسيد والحركات، وهناك بناء وتسلسل وتنامي الأفعال والأحداث، مع أساليب التشويق والربط المحكم والاستجابة والتوقع وكسره وباختزالات وايحاءات تعمل على تحريك منظومة التلقي في الفهم والتفسير ومسك المعنى.

والفيلم لن يستغني عن الحكاية واشتراطات بناءها، رغم تأثيرات الاتجاهات المفاهيمية الحديثة التي تخطت التقاليد والطرائق السائدة. فالحكاية هي جسد الفيلم، ولكن علينا أن نفقه في المعالجة، كيف يمكن لنا أن نظهر هذه الحكاية، وكيف تكون المعالجة بمستوى رؤية المخرج وليس دونها، وبأي شكل، وأي تجسيد، وتعبير، وما هو المعيار الحيوي الذي يمنح لهذا الفيلم شرعية هويته الفنية.

وهنا علينا أن نحسن الاشتغال بالطريقة التي نسرد بها الحكاية، ونجيد أيضا فن توزيع الأدوار والشخصيات، وان نختار الأماكن الفاعلة دراميا في الفيلم، مع تحريك الأدوات الملحقة بهذه الأماكن، وعلينا أيضا أن نتحكم بايقاع الفيلم بما يناسب نبض تدفق الأحداث، وان نحسن متى نبطئ ومتى نسرع، وما  الذي نضمره، وما الذي نحذفه، ومتى ننتقل، ولماذا نقطع، وكيف نتواصل ونحافظ على استمرارية هذا التدفق، ومن هو الأهم والرئيسي، وما حكم العلاقة بينه وبين الثانوي.

الفيلم القصير روائيا كان أم وثائقيا لن يحتمل الإطالة التي تثقل الايقاع وتجعله مترهلا، ولن يحتمل كثرة الحوارات ولا الخطب ولا الشعارات وقراءة الشعر، فهو الحركة، والتغير الضوئي، والمكاني والزمني، وهو الذي يحمل التأمل والتفكير لما يدعو به من فلسفة ورسالة، وهو الأختزال والتكثيف لعناصر متعدده فيه.

إنه ليس مقطعا من دراما تلفزيونية، ولا برنامجا تلفزيونيا، والفيلم، أن اختلت وتشوشت الرؤية الفكرية له، ستنعكس بتأثير واضح على مستوى المعالجة الاخراجية له، بمعنى أن بعض المعالجات الاخراجية، قد لا ترتقي الى ما يحمله النص من رؤية، أو ما يحمله المخرج أيضا من رؤى وأفكار.

إن الفيلم، لابد أن يحمل رؤية خاصة لفكرة سامية تحمل موضوعا ما يخاطب العقل والضمير والجمال والخيال، وتلعب فيها ايضا الشخصيات عبر أفعالها في الأحداث مجمل إنفعالاتها ومشاعرها واحاسيسها بلقطات مختلفة متنوعة محسوبة بدقة بحسب تفسير المخرج للفعل والحركة والحدث والسياق، وبلغة بصرية نافذة التأثير، تحتمل العلامة والرمز والايقونة والشفرة والأيحاء، وعلى وفق المنهج السيميائية في تشكيل التكوينات البصرية ومعماريتها، فسيطرة المخرج على تحديد رؤيته الفكرية والفلسفية لفيلمه وتمكنه من تجسيدها وتسويقها بأشكال وحركات واستخدام و توظيف عناصر اللغة السينمائية، وبمعالجات ترتقي إلى مستوى الفكر والرؤية التي يتمتع بها.

Visited 79 times, 1 visit(s) today