الفيلم الفلسطيني “شكرا لأنك تحلم معنا”

شهد مهرجان لندن السينمائي الـ68، العرض العالمي الأول لفيلم “شكرا لأنك تحلم معنا” أو حسب عنوانه الإنجليزي Thank you for Banking with Us وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة ليلى عباس.

الفيلم شجاع وطريف في موضوعه، ويتميز بنص سينمائي محكم، وشخصيات واضحة، وحبكة تتدفق في سلاسة. إنه يقدم عائلة فلسطينية في رام الله من الداخل، من دون أي محاولة لتجميل الواقع، بل على العكس، فالفيلم يبرز التناقضات والخلافات بين الزوج والزوجة، وبين الشقيقتين، وبين الأم والإبن، وبين المرأة والرجل عموما، ولكن كل هذه التناقضات تتفجر بعد أن يقع الحدث الذي سيؤدي إلى الكشف عن هشاشة العلاقات، ولكن في الوقت نفسه، إزاحة الخلافات بين الشقيقتين، وبروز التضامن الطبيعي بينهما، والسعي لتحقيق الهدف المشترك.

هذا الهدف يتمثل تحديدا في رفض التقليد الموروث الذي فرضته الشريعة الإسلامية، الذي يقضي بجعل نصيب الذكر من الميراثـ ضعف نصيب الذكر. والفيلم يحتج بوضوح على هذه التفرقة والظلم.

نحن هنا أمام فيلم لا يتحذلق ولا يفتعل الغموض أو التجريد كما نرى في الكثير من الأفلام (العربية) التي تعرض في مهرجانات السينما الأوروبية، بل لدينا قصة واضحة المعالم، وشخصيات تتحرك في سياق، ولا تحلق في الفراغ، وصراع، ثم كشف تدريجي عن ما يكمن بين ثنايا الموضوع ،من دون شعارات أو نبرة عالية، بل إن من أفضل ما يميز الفيلم أيضا حواره الذكي الذي يوصل لنا الفكرة في بلاغة واقتصاد، كما يكشف عن طبيعة الشخصيات التي نراها، من أول الشقيقتين إلى الخال والإبن، بل وحتى الأب الذي يرقد في بداية الفيلم على فراش الموت بعد أن فارق الحياة.

موت الأب هو المدخل الدرامي للفيلم. فإذا كان وجوده في الحياة لم يجمع بين الأبناء، فموته سيجمع بينهم، وهو أمر طبيعي، ولكن ليس لمجرد البكاء وتقبل العزاء بل هناك بعد آخر أهم وأكبر، هو الذي يدفع الحبكة إلى الأمام، ويجعل الفيلم ينتقل بين مفارقات الكوميديا، إلى سخونة الدراما الجادة.

هناك الشقيقتان: أولا مريم (كلارا خوري) وهي متزوجة منذ 20 سنة ولديها ولدان، ولكنها غير سعيدة مع زوجها، كما تشعر بالقلق على ابنها الأكبر “علي” الذي لا يهمل دروسه ثم ستكتشف أيضا أنه انقطع عن الذهاب إلى المدرسة. أما الشقيقة الأخرى (الكبرى) فهي “نورا” (ياسمين المصري) وهي في الأربعين من عمرها، لكنها تمردت على الزواج، وتعمل الآن في صالون لتجميل النساء.

مريم حانقة، غاضبة، مشغولة في أعمال المنزل وإعالة أسرتها، والقيام بكل الأعمال المنزلية المرهقة المطلوبة من الزوجة في المجتمع الذكوري، كما تحمل هم ابنيها وخصوصا “علي” المراهق العنيد. لذلك فقد أهملت التردد على والدها خلال فترة مرضه منذ أن أصيب بجلطة أقعدته إلى حين وفاته أخيرا.

أما نورا فقد واصلت الإقامة في منزل الأب، وهي التي رعته أثناء مر ضه. والآن يفتتح الفيلم بوفاة الأب، وتجتمع الشقيقتان أمام جثمانه. لكن بدلا من إبلاغ شقيقهما “أكرم” الذي هاجر منذ سنوات إلى أمريكا، تقترح نورا عدم إعلان خبر وفاة الأب قبل الحصول على مبلغ 165 ألف دولار الموجودة في حسابه بالبنك، واقتسامها معا، مدعية أن تلك كانت رغبة ابيها، وأنها اتفقت معه على ذلك، والهدف هو ألا يستولي شقيقهما أكرم على نصف المبلغ، طالما أنه على أي حال، سيكون من حقه الحصول على نصف ثمن المنزل.

يسلط السيناريو الضوء على شخصية مريم، التي نعرف أنها لم تكمل تعليمها ومازالت تحلم باستكمال تعليمها في الجامعة، وأنها وقعت في حب زوجها هذا وهي صغيرة، لكن هذا الحب ذبل خصوصا مع خيانته لهاـ بل واعترافه بإقامة علاقة مع فتاة تصغره كثيرا.

من هنا تبدأ المفارقات الكثيرة التي يمتليء بها الفيلم، خصوصا قيام نورا بتحرير الشيك وتوقيعه بما يماثل توقيع الأب، خصوصا وأنها صاحبة خبرة سابقة في التزوير كما تعترف، مثل الدرجات الدراسية في الماضي.

محاولات صرف المبلغ تنتهي إلى ضرورة حصول البنك على موافقة الأب، فإذا لم يكن ممكنا أن يأتي بنفسه بسبب حالتهن الصحية- كما تخبرهما نورا- يصبح مطلوبا أن يرد على الاتصال التليفوني الذي تجريه موظفة البنك، وهنا تبدأ رحلة ليلية في المدينة، للعثور على رجل يقبل القيام بدور الأب، لكي يجيب على الاتصال الذي سيأتي من البنك على هاتف الرجل المتوفي.

فكرة طريفة للغاية، ولكن الأهم هو أن ليلى عباس تعرف كيف تطورها وتدفعها إلى الأمام، مبقية على اهتمام المتفرج طوال الوقت، مع تطعيم الفيلم بشخصيات مساندة، لرجال، يتفقون جميعا على إدانة تصرف الشقيقتين اللتين تتحدان في الهدف رغم ما يكشفه الفيلم أيضا من تناقضات وخلافات مستقرة قديمة بينهما، كما يصور تصاعد رغبة مريم في الحصول على الطلاق.

من العناصر الفنية البارزة في الفيلم، التصوير الذي يظهر جمال مدينة رام الله، الشوارع والحدائق والمنازل، فالإنسان جزء من المكان، والمكان هنا أساسي، فهو جزء من فلسطين التاريخية التي يقطنها الفلسطينيون، وليست أرضا جرداء خالية.

ويتميز التصوير الليلي بلمسة واقعية من استخدام مصادر الضوء الطبيعي: مصابيح الإضاءة في الشوارع، كشافات السيارات.. وغير ذلك.

وترجع اللمسة الفنية التي تبرز بوضوح في جمال الصورة والاستخدام المحسوب للألوان، إلى مدير التصوير الألماني كونستانتين كروننج، علما بأن الفيلم من الإنتاج المشترك بين فلسطين وألمانيا وقطر، كما تلقى تمويلا ودعما من جهات عدة مثل صندوق مهرجان البحر الأحمر، ومهرجان الجونة، ومهرجان روتردام، والصندوق العربي للثقافة والفنون (بيروت).

المخرجة ليلى عباس

تستخدم ليلى عباس اللقطات القريبة للوجوه، لتقريبنا من المشاعر المختلفة كما تنعكس عليها، خصوصا الشقيقتين، وتجسيد التناقض بين مظهرهما، سواء في الملابس أو طريقة تصفيف الشعر، وتحافظ على سلاسة الانتقال بين اللقطات القريبة والمتوسطة، والانتقال إلى المناظر العامة، بحيث لا يفقد الفيلم قط، الترابط، ولا يفقد المتفرج القدرة على المتابعة، ومن دون أن يفلت الإيقاع، فالمونتاج البارع يشبع كل مشهد بعيدا عن الاستطرادات والمبالغات، ولا ينحرف الأداء إلى الميلودراما بل يبقى محكوما، فالانتقال من مشهد إلى آخر يأتي في الوقت المناسب تماما.

هناك بعض المبالغات التي لا أتصور وجودها في الواقع مثل مستوى المنزل الفسيح المنظم الرائع الذي تقيم فيه مريم مع زوجها الذي يفترض أنه مجرد “سباك” (لم أكن أعرف أن الفلسطينيين يطلقون على السباك “مواسيرجي”!)، كما أن منزل الأب يبدو كأحد قصور الأثرياء.

وهناك أيضا بعض المشاهد الزائدة في الفيلم كان من الأفضل استبعادها لعدم أهميتها في السياق، مثل المشهد الذي تعود فيه “مريم” إلى بيتها بعد نجاحها في الحصول على قيمة الشيك، وتتمدد إلى جوار زوجها وتحتضنه في شوق وتودد بتناقض تماما مع كل ما سبق من إبداء رغبتها في الانفصال عنه، ثم نراه وهو يعرض عنها بشكل فظ. والواضح أن المشهد قصد به تبرير قرار مريم الانتقال للعيش في النهاية مع ابنيها في بيت والدها الراحل، وهو تبرير لم يكن له ضرورة أصلا.

يلمس الفيلم وجود الاحتلال الإسرائيلي ولو في مشهد عابر، عندما تمر المرأتان بالسيارة ليلا على عدد من الشباب الفلسطيني الذي يشعل إطارات السيارات ويسد الطريق، اعتراضا على الحصار الذي تفرضه القوات الإسرائيلية على الانتقال من المدينة، بل إن “علي”، الابن الأكبر لمريم، سيعترف لها بأنه جزء من حركة المقاومة. ونحن نعلم بالطبع أن رام الله هي مقر السلطة الفلسطينية، لكن إسرائيل تنتهك باستمرار الاستقلال المفترض للمنطقة.

ومن طرائف الحوار أن مريم تخبر شقيقها “أكرم” في مكالمة هاتفية بعزمها على الطلاق، لكنه يستنكر ظهور هذه الرغبة بعد 20 سنة من الزواج، فتعلق هي ساخرة: وهل يجب أن أنتظر تحرير فلسطين أولا قبل أن أنال الطلاق!

والمؤكد أن ما يزيد من متعة المشاهدة، الأداء المتميز لمجموعة الممثلين جميعا، وأولهم بالطبع ياسمين المصري وكلارا خوري، اللتان يتآلف أدائهما بشكل شديد الإقناع والصدق، ويبدو قدر كبير من التفاهم والانسجام في ما بينهما، أو تلك “الكيمياء” التي تجمع بين شقيقتين رغم اختلافهما ومشاجراتهما المستمرة، وما يتبادلانه من اتهامات بينهما بسبب افتراق طريقيهما في الحياة، ثم كيف يقتربان من بعضهما البعض تدريجيا، لتظهر الصلة العميقة بينهما كشقيقتين وكامرأتين أيضا، تتمردان ضد الظلم الواقع على المرأة بسبب قانون الميراث، وتسعيان للإفلات من المأزق.

ويتميز أداء باقي الممثلين مثل أشرف برهوم في دور زوج مريم، وكامل الباشا في دور الخال، وآدم خاطر في دور علي، كلٌ في حدود الدور المرسوم في السيناريو، ولكن بعض هذه الشخصيات كان يقتضي أن يحظى بقدر أكبر من الاهتمام، فالواضح أن اهتمام السيناريو بالشقيقتين، طغى على الفيلم.

لابد أن أختتم هذا المقال، بتوجيه تحية خاصة إلى المخرجة الشابة الجميلة ليلى عباس، جميلة الروح والشخصية والحديث، التي وقفت قبل عرض الفيلم، وهي تقدم فيلمها لجمهور مهرجان لندن، فقرات بيانا مكتوبا بدقة بلغة إنجليزية سليمة وقوية ومؤثرة، أدانت فيه بكل جرأة ووضوح الفاشية الإسرائيلية، كما واستعرضت تاريخ استيلاء اليهود على كل أرض فلسطين منذ مائة سنة، وأشارت في جرأة، إلى الدور البريطاني، منذ وعد بلفور، إلى فرض الانتداب إلى تسليم فلسطين لليهود، وسرقة الأرض والتهجير والطرد الإجباري، وقالت إن تصوير الفيلم انتهى قبل أن تتداعى الأحداث الجارية في غزة والضفة، وأنها تريد أننا عندما نبتسم ونحن نتفرج ألا ننسى الأحداث الدامية التي تجري هنا، وأعلنت أنها ترفض تماما، أن يتخذ فيلمها حجة من قبل البعض في الغرب، لإدانة المجتمعات الإسلامية.

شكرا ليلى عباس.. نحن جميعا نحلم معكم باستعادة الأرض ولو طال الزمن!

Visited 38 times, 1 visit(s) today