الفيلم البريطانى “45 عاما”.. الماضى لا يعود لكنه مؤثر!
تعامل الفيلم البريطانى 45 years أو “45 عاما”، الذى عرض فى الدورة الثامنة لبانوراما الفيلم الأوروبى بالقاهرة، مع تفاصيل ومشاعر إنسانية معقدة، ويغزل منها حكايته، معتمدا على أداء استثنائى من بطلى الفيلم الكبيرين شارلوت رامبلنج وتوم كورتنى اللذين فازا على دوريهما فى هذا الفيلم بجائزة الدب الفضى، لأفضل ممثل وأفضل ممثلة، فى مهرجان برلين 2015.
فى أداء الاثنين خلاصة تجربتهما الإنسانية والتمثيلية الإحترافية معا، كل واحد منهما يقدم تقريبا كل أطياف المشاعر والأحاسيس ببساطة ممتنعة، بالإضافة الى مشاعر كبار السن، وأولئك الذين يخذلهم الجسد. عن الماضى والحاضر يتحدث الفيلم، ولكن أندرو هاى، مخرج الفيلم ومؤلفه، ينحاز الى الحاضر، ويؤكد أن مكان الماضى هو صندوق الذكريات، أوالذاكرة فقط.
أتصور أن مؤلف الفيلم لم يكتبه إلا وهو على يقين من وجود ممثل وممثلة من هذا الوزن الإستثنائى، يستطيعان أن يترجما مواقفه الشائكة، وأن يحققا لشخصيتى الزوج والزوج العجوزين حضورا مضاعفا. كان ظهور إحدى الشخصيات، يستدعى أمامنا الشخصية الأخرى، حتى لو لم تكن داخل الكادر، واستمر الإنسجام بين الثنائى مذهلا، وكأنهما وجهان لنفس الشخص، وهذا هو بالتحديد معنى الحكاية كلها، ذلك أن بين جيفرى وكيت ما يصمد للبقاء، رغم ذلك الخطاب القادم من ماض سحيق.
حكاية من الماضى
يقدم الفيلم كيت ميرسر (شارلوت رامبلنج) فى أول مشهد لها وهى تسير بخطوات جادة نحو منزلها الريفى مع كلبها، يقابلها أحد تلاميذها القدامى، فنعرف أنها كانت مدرّسة، وفى أول لقاء مع زوجها جيفرى ميرسر، ندخل مباشرة الى المشكلة: لقد تلقى جيفرى (توم كورتنى) خطابا من السلطات السويسرية ، تبلغه أنهم عثروا بعد كل هذه السنوات على جثمان حبيبته القديمة كاتيا، التى سقطت فى فجوة جبلية. هناك تجمدت، فبقى جسدها سليما كفتاة شابة ، فى سنة موتها ، فى العام 1962.
كيت الزوجة العجوز تعبر عن دهشتها لبقاء الجثة، إنها تعرف الاسم، وتبدو متعاطفة مع زوجها، ولكن الزوج يبدو مرتبكا تماما، لأنه سيضطر الى السفر للتعرف على الجثة، وهو لن يراها متقدمة فى السن، وإنما بحالتها القديمة، كفتاة ألمانية أحبها، وذهب معها للتزحلق على الجليد فى سويسرا، وهناك فقدها الى الأبد.
وسيلة معرفة جيفرى بالحكاية وهى الخطاب الورقى ( الذى انقرض تقريبا هذه الأيام)، وحالة الإرتباك التى سيعانى منها، وتوتر كيت التى تعد للإحتفال بعيد زواجها الخامس والأربعين من جيفرى، كل ذلك يطلق صراعا غريبا بين الماضى والحاضر. ليس من المعقول بالطبع أن تنزعج كيت من حبيبة عرفها زوجها قبل أن يعرفها هى، منذ سنوات طويلة، ولكن ما تراه كيت أمامها من انشغال جيفرى، وسرحانه الدائم، تشعرها بأن الماضى قد عاد من جديد، ليزيحها عن مكانتها، مما يجعلها تراجع من جديد حياتها الزوجية، التى ستحتفل بها.
يتلون أداء شارلوت رامبلنج من العتاب الى الغضب، وهى تشاهد زوجها العجوز، يستخدم السلم للبحث عن أوراقه وصوره المنسية مع كاتيا، ورغم أنه ما زال متحمسا للإحتفال بعيد زواجهما، ورغم أنه يرقص مع كيت فى سعادة، إلا أنه يحكى لها أيضا فى حزن عميق تفصيلات قصته مع كاتيا. تنعكس الحكاية على ملامح كيت التى يبدو أنها تسترجع الماضى أيضا، وعندما تسأل كيت زوجها العجوز:” هل كان يمكن أن تتزوج من كاتيا لو أنها ظلت على قيد الحياة؟” ، يرد عليها بالإيجاب.
خلال خمسة أيام فقط، تسبق الإحتفال بعيد زواج العجوزين كيت وجيفرى، تتحول مشاعر كيت من الدهشة الى العتاب، ومن العتاب الى الغضب. حياة الزوجين مغلقة، لا يذهبان الى المدينة إلا فى أوقات متباعدة، ولكن كيت تكتشف أن زوجها ذهب لمكتب السفريات، وأنه جاد فعلا فى السفر الى سويسرا، للتعرف على جثة كاتيا، وإن كان ذلك سيتم بالتأكيد بعد احتفاله بعيد زواجه الخامس والأربعين.
إكتشاف متأخر
تتصرف كيت وكأنها امرأة شابة، تريد أن تكتشف ماضى زوجها، تظهر لمعة الشباب فى عيون ممثلة عجوز مثل شارلوت رامبلنج، وتظهر نفس اللمعة فى عيون توم كورتنى وهو يحاول أن يستعيد علاقته الجسدية مع زوجته، ثم يتمخض اللقاء عن فشل . أقرب أصدقاء الزوجين هما الثنائى جورج ولينا لا يكفان عن الثرثرة، لا شىء يشغل الزوجين سوى الماضى العائد فى صورة كاتيا، والحاضر الماثل فى صورة الإعداد لحفل عيد الزواج.
لا تستطيع كيت أن تقاوم فضولها، تستخدم السلم للصعود الى مخزن الماضى المهمل، تستخرج صورا للثنائى جيفرى وكاتيا، تستخدم البروجيكتور لتتأمل كل لحظات السعادة المشتركة، نظرات شارلوت رامبلنج مثل فتاة شابة تتفحّص ملامح منافستها على قلب الرجل الشاب الذى تحبه. تتوقف كيت عند صورة تضع فيها كاتيا يدها على بطنها مثل امرأة حامل، يعبر وجه شارلوت وعيناها عن مزيج معقد من الصدمة والذهول والغضب الجامح.
لن تناقش كيت زوجها حول صورة كاتيا كامرأة حامل، ولكن الزوجة العجوز، ستنفجر فجأة فى زوجها، ستقول له إنها لم تكن أبدا تكفيه كزوجة. المشكلة أنها تعرف أشياء ظلت عنها غافلة لمدة 45 عاما. المشكلة أيضا فى أنها يجب أن تكون سعيدة وهما يحتفلان أمام الناس، لابد أن يستمر الإعداد للحفل، رغم حضور الماضى بثقله المزعج.
فى يوم الإحتفال، يحاول جيفرى أن يتغير، لقد تنبه أخيرا الى أن ماضيه يكاد يدمر حاضره، وأن كاتيا تكاد تأخذه من كيت، رفيقة المشوار الطويل. يبدأ جيفرى اليوم بإيقاظ كيت، ويعد لها الطعام. فى المساء، يرتديان أفخر الملابس. يحضر الجميع، يقدم جيفرى سلسلة هدية لزوجته العجوز، تعتذر له لأنها اختارت أن تهديه ساعة ثمينة ولكنها تراجعت. يقف جيفرى ليلقى خطبة الإحتفال، ما يقترب من نصف القرن يمر أمام عينيه، تجيش مشاعره وهو يتذكر قراره بالزواج من كيت. يعترف أن هذا القرار هو أصوب وأفضل قراراته، ويعترف بأنه يحبها، رغم أن حياتهما لم تكن سعيدة على الدوام. تظهر كيت تعبيرا محايدا، لانعرف بالضبط ما الذى تفكر فيه، حتى يطلبها جيفرى لكى يرقص معها على نفس الأغنية التى رافقت حفل زفافهما فى عمر الشباب.
وسط التصفيق وصيحات الإعجاب، ترقص كيت مع جيفرى، تدور معه وحوله، ويدور معها فى سعادة، يتغير تعبيرها المحايد تدريجيا، تلين قسمات وجهها، تلمع عيناها من جديد، تقترب منها الكاميرا بهدوء، عندما تفلتها يد جيفرى، تظهر لأول مرة الدموع فى عينى كيت، وكأنها تفرغ شحنة الأيام الخمسة الأخيرة، وكأنها دموع استعادة جيفرى، الذى اكتشف أخيرا أن الحاضر أبقى من الماضى.
اختار أندرو هاى المؤلف والمخرج أن يعيش الزوجان فى مكان ريفى هادىء، مما يتيح أن تكون حكايتهما معا فى بؤرة الإهتمام، بل إننا نسمع صوت جهاز البروجيكتور على كادر مظلم كتبت عليه عناوين البداية، أى أننا سنسمع صوت الحكاية القادمة من الماضى قبل أن نراها.
أجاد المخرج بناء مواقف وأيام ما قبل الإحتفال بعيد الزواج، كما أجاد اختيار توقيت تبادل القطع بين كيت وجيفرى فى حوارتهما الطويلة، عارفا بأن هذه الحوارات هى قلب الفيلم، وسر تميزه، واستفاد أيضا بهذه الكيمياء الواضحة بين شارلوت رامبلنج وتوم كورتنى. أعتقد أنهما أيضا استمتعها بالشخصيتين، وأندمجا معهما، فجاء الفيلم مثل مباراة بين طرفين متكافئين، وفاز الجمهور بعمل فريد، فيه مذاق ورائحة الأعمال الدرامية الكلاسيكية الكبرى.