“الغريب”.. حين يصمت كامي ويتكلم أوزون
ماهر عنجاري
عندما قرأت الغريب لألبير كامي عام 1986 كنت طالبا في كلية الأدب، قسم اللغة الفرنسية بجامعة حلب. لم أكن أدرك آنذاك أن هذا النص سيلازمني عقودا، وأنني سأعيد اكتشافه من جديد لا كقارئ شاب بل كناقد سينمائي يشاهد اقتباس فرانسوا أوزون بعد ما يقارب الأربعين عاما. وبين قراءة 1986 ومشاهدة 2025 تغيرت نظرتي الى ميرسو، كما تغيرت السينما نفسها.
في اقتباس “الغريب” يواجه أوزون أحد أكثر نصوص الأدب الفرنسي إشكالية وتعقيدا، فتحويل رواية تقوم على العبث واللامبالاة والصمت إلى لغة السينما ليس مهمة تقنية فحسب، بل هو تحد فلسفي وفني، ومع ذلك يقدم أوزون عملا يحترم بنية كامي الجافة، ولكنه يعيد قراءتها من زاوية معاصرة، حساسة وجريئة، تدخل ميرسو في قلب أسئلة الهوية والعدالة والذاكرة الاستعمارية التي تشغل زمننا الراهن.
ميرسو بين الأدب والسينما.

يجسد الممثل بنجامان فوزان شخصية ميرسو بقدر من البساطة الظاهرة والحيوية الخفية، ورغم تمسكه ببرودة الشخصية الأصلية، إلا أن أداءه يخلق مفارقة لافتة ميرسو لا يشعر بالكثير، لكن المتفرج يشعر نيابة عنه.
نظراته البعيدة صمته، ووقفاته المعلقة تتحول إلى أدوات سردية تمنح الفيلم بعدا نفسيا لا يظهر مباشرة في الرواية.
أوزن لا يشرح ميرسو، بل يصوروه وهو يتهرب من نفسه ومن العالم، فيظل حاضرا وغريبا في آن واحد.
جماليات تحول العبث الى تجربة حسية
اختيار التصوير بالأبيض والأسود ليس مجرد قرار جمالي، بل عنصر بنائي يخدم روح النص الأصلي.
منا بعكس جفاف أسلوب كامي وتقشفه ويمنح الفيلم زمنا معلقا بين الماضي والحاضر، ويبرز التناقضات والانفعالات دون تشويش لوني.
تتحول شمس الجزائر، تلك الشمس التي كانت سببا مباشرا في الجريمة
إلى شخصية قائمة بذاتها. ويعيد مشهد الشاطئ بتوتره الضوئي وحدته البصرية، يعيد صياغة العبث الكامي في صورة ملموسة تضغط على ميرسو كما تضغط على المشاهد نفسه.
السياق الاستعماري
ما كان صامتا في الرواية يجد صوته في الفيلم. يفترق أوزون عن كامي بوضوح في تعامله مع الوجود الاستعماري في الجزائر، فبينما تعمدت الرواية-عبر منظور ميرسو- إقصاء الشخصيات العربية إلى الهامش، يمنحها الفيلم حضورا إنسانيا واجتماعيا أكبر.
هذا الخيار قد يثير الجدل، لكنه يضيف طبقة سياسية ضرورية، فهو يذكر بأن الجزائر لم تكن مجرد خلفية محايدة، كما يجعل الجريمة أكثر واقعية و أقل تجريدا، ويكشف المحاكمة بوصفها مسرحاً سياسياً بقدر ما هي محاكمة وجودية.
بهذا، يصبح “الغريب” قراءة في الأخر، ونظرة المستعمر ، وفي صمت كان جزءآ من بنيته الأصلية.

وفاء بلا استنساخ
يحافظ أوزن على البناء السردي للرواية، ويستعير الكثير من جمالها، ولكنه يضيف ما لا تستطيع اللغة وحدها تقديمه، أي ثقل الأنفاس، عمق الصمت، بطء الزمن، حرارة الجسد تحت الشمس. وبينما يكتب كامي بجفاف، يصور أوزن برهافة. وهكذا يتحول العبث من فكرة فلسفية إلى تجربة حسية يعيشها الجمهور.
غير كامل لكنه صادق
قد يرى بعض المشاهدين أن الإيقاع بطئ أو أن القراءة السياسية طاغية
لكن هذه الخيارات ليست عيوباً بل مواقف جمالية واعية.

أوزون لا يبحث عن الأثارة، بل عن الصدق الفني في مواجهة نص يرفض الانفعال السهل.
وهنا تكمن قوة الفيلم.
إنه لا يشرح الغريب، بل يعيد إحياءه.
خلاصة ناقد عاش مع النص أربعة عقود
بين قراءة الطالب في 1986 ومشاهدة الناقد في 2025، تبدو الغريب عملاً لا ينتهي، يتجدد مع كل زمن ومع كل عين ترى.
اقتباس فرانسوا أوزون ليس نسخة عن كامي، بل حوارًا معه، اختلافًا واحترامًا في آن واحد.
فيلم جريء، انيق، عميق التفكير، يستحق المشاهدة سواء لمحبي كامي أو لمن يكتشفه للمرة الأولى.
