“العوامة رقم 70”.. بورتريه لفنان مأزوم

لا أفضل أن تكون قراءة فيلم مثل “العوامة رقم 70” الذي عرض في العام 1982، قصة وإخراج خيري بشارة، وسيناريو وحوار فايز غالي، من زاوية تغيرات تجري في المجتمع بعد حقبة السبعينيات من القرن العشرين، ولكني أرى الفيلم دوما من زاوية شخصية أحمد الشاذلي التي لعبها أحمد زكي، ليس لأنها فقط محور الأحداث، ولكن أيضا لأن “العوامة رقم 70” ليس إلا نموذجا ممتازا لدراما بورتريه الشخصية.

الفيلم في جوهره ليس إلا دراسة لشخصية مأزومة، ترى أن حياتها خاوية، ولم تحقق شيئا، تبدو أفضل من غيرها، إذ أن أحمد الشاذلي مخرج أفلام تسجيلية، ولكن عندما نقترب أكثر نراه شخصا وحيدا، لا يستطيع أن يتزوج، وعوامته القديمة المتأرجحة على النيل، ليست إلا ترجمة لحياة مضطربة ومشوشة.

كل ما نراه من أحداث يستهدف رسم ملامح بورتريه لهذه الشخصية، والتي لا يمكن أن نفصلها عن جيلها، وهو أيضا جيل المخرج خيري بشارة نفسه، الذي عاش هزيمة يونيو، وانتصار أكتوبر، والذي شاهد مرحلة تحول من الإقتصاد الموجه الى الإقتصاد المفتوح، ووسط هذه التحولات، كان على هذا الجيل أن يدير أموره وظروفه، وأن يختار بالضبط طريقا محددا بين أكثر من طريق.

 شاهدت “العوامة رقم 70” لأول مرة عندما عرضه التليفزيون المصري بعد عرضه السينمائي، كان بالنسبة لي اكتشافا مختلفا، كنت تقريبا في السادسة عشرة عاما من عمري، أتابع كل ما يعرضه التليفزيون من أفلام مصرية وأجنبية، وأحرص على مشاهدة برنامجي “نادي السينما” و”أوسكار”، ولذلك كان إدراكي لاختلاف الفيلم قويا للغاية: هذا فيلم فيه جريمة قتل، ولكنه ليس فيلما بوليسيا تقليديا، وفيه قصة حب بين أحمد الشاذلي وخطيبته وداد، ولكنها أيضا حكاية حب خاصة ومختلفة، أما النهاية فهي ليست نهاية، ولكنها بداية جديدة، وإرهاص بمولد جديد لأحمد الشاذلي خروجا من العوامة.

بورتريه الشخصية

اليوم عندما شاهدت “العوامة رقم 70” أدركت جماليات اللعبة وتفردها، لقد اختار خيري بشارة أن يقدم بورتريه أحمد الشاذلي من خلال تغيرات المجتمع وتحولاته، وليس العكس، ودراما بورتريه الشخصية من أصعب ما يمكن، لأن الأحداث تصبح وسلية لإضاءة الشخصية، وليست هدفا في حد ذاته، مرايا عاكسة لكي نرى البطل  من خلالها، ولأن الشخصية نفسها تبدو مأزومة طوال الوقت، وصراعها الأساسي يكون داخليا وليس خارجيا،  مما يحتاج الى مهارة خاصة في ترجمة ما يدور داخل الشخصية نفسها، ولذلك لابد من الإشادة بشكل خاص بالسيناريست فايز غالي، الذي نجح في تحقيق التوازن بين الأحداث الخارجية، والمشاعر الداخلية، منح الشخصية أن تقول وتعبر عن أزمتها، بنفس الدرجة الذي منح الشخصيات  الأخرى فرصة إضاءة شخصية البطل، والتعبير أيضا عن تغير الأحوال والظروف.

لقطة من الفيلم

نجاح الفيلم مرتبط في الحقيقة بالطريقة التى رسمت بها شخصية أحمد الشاذلي، كمعبر عن نفسه وعن جيله أيضا، كما أن النجاح مرتبط ببناء رحلة عودته الى نفسه، وتخلصه من أقنعة المدينة، بصورة متماسكة وقوية، ومن هاتين الزاويتين فإن “العوامة رقم 70” قد حقق ما أراد بامتياز.

كل مرحلة في حياة أحمد الشاذلي ترسم هذا البورتريه بمهارة: نتعرف أولا على عوامته الصغيرة المتهالكة، لم يسكنها رغبة في الرفاهية، ولكن لأنه لايمتلك شقة، عندما يستيقظ، ويفتح شبابيك الوامة، ويطرد الظلام، نبدأ معه رحلة الخروج من الشرنقة، وهي رحلة اعتقد هو أنها روتينية، ولكنها ستقوده الى ثلاث شخصيات هامة في حياته: العم حسين (بأداء كمال الشناوي المعتبر)، وهذا العم هو نقيض شخصية أحمد على طول الخط، فقد عاش حياة ثرية، ولديه حكايات طويلة ومغامرات أكثر، وهو اختار أن يتمرد في وقت مبكر، وأن يترك القرية والأرض، لأن الأرض يجب أن تترك لمن يزرعها، وبينما يبدو أحمد عاجزا عن أي فعل يغير حياته الرتيبة، فإن العم حسين قد غير حياته بكل وعي واقتناع، حتى وإن كان الثمن هو أن يظل وحيدا مع الكأس والخمر.

الشخصية الثانية الهامة هي وداد، خطيبة أحمد، وهي أيضا إنسانة واقعية وعملية، بعكس أحمد الرومانسي الحالم، الذي لا يضع أقدامه على الأرض، وداد قوية الشخصية، وصحفية مجتهدة، وهي تحب أحمد فعلا، تواجه مشاكل أسرتها، وعلاقتها المضطربة مع أمها وأبيها، ولا تهرب من ظروفها، وهي أيضا التي ستأخذ كلام عبد العاطي عامل المحلج عن جرائم الموظفين في المكان بجدية كاملة، وعندما يقتل عبد العاطي، تلوم نفسها بشدة، لأنها لم تبادر فورا بمتابعة الموضوع، وبالذهاب مباشرة مع عبد العاطي الى قسم البوليس.

الشخصية الثالثة التي ستكشف عن جانب في شخصية أحمد، والتي ستلقي الضوء على تصرفاتها، هي العامل عبد العاطي، بمعيار الشجاعة والقدرة على المبادرة والواقعية، هو أفضل وأقوى من أحمد، هذا العامل البائس الحشاش ينتمي الى المحلج الذي عمل فيه وهو صبي، ويريد أن يكشف جرائم سرقة القطن النادر، وجرائم الحرائق المفبركة التي تغطي على جرائم السرقة، والأخطر أن السرقة ليست فردية أو محدودة، ولكنها تتم من أعلى المستويات الى أدناها، بمعنى أن إدارة المحلج تحولت الى تشكيل عصابي من المدير الى السائقين.

في لقاءات أحمد مع الشخصيات الثلاثة سنعرف أزمته، وحدود اضطرابه وعجزه: إنه يحسد عمه السكير العجوز على الحكايات، وعلى الحياة الثرية التي عاشها، ورغم حبه ل وداد، إلا أن علاقتهما لا تخلو من الشجار، هي واقعية ، وهو رومانسي، يريد أن ينتقل من تحت الى فوق في خطوة واحدة، عجزه المادي يتضح أيضا في خلافاته مع حماه ( سلامة إلياس)، وهي شخصية عانت من المسؤولية، فتركتها الى الخمر.

لكن الموقف الأوضح الذي سيكشف أزمة أحمد هو ظهور عبد العاطي في الكادر، وهو ظهور يغير الفيلم الذي يصوره أحمد، بل ويغير حياته أيضا، يتعامل أحمد مع الجريمة التي يكتشفها عبد العاطي بشكل روتيني، وكتأدية للواجب، يعرفه على وداد لكي تتعامل معه كموضوع أو كخبطة صحفية، الموضوع بوليسي أو صحفي، وفيلمه عن المحلج وليس عن السرقة، صحيح أنه يخدع مدير المحلج، فلا يصور عبارات الدعاية التي يتحدث بها، وصحيح أن احمد يهتم بما تصنعه الآلة المسماة العفريتة من بتر أيادي العمال، ولكن أن يكتشف جريمة هو أمر لا يهمه، أو بمعنى أدق فوق طاقته، هو بالكاد يهتم بنفسه، ويعيش يوما بيوم.

براءة ضائعة

عندما يذهب أحمد الشاذلي الى قريته لحضور فرح أخته فاطمة، يلتقي الشخصية الثالثة الهامة وهي سعاد، إنها حلم البراءة الضائع، عرفها وأحبها أحمد في طفولته، كانت أكبر منه سنا، الآن هي وكيلة مدرسة، وترعى والدها الصامت والمريض، نلمس في القرية تغيرا واضحا، الناس تسافر، ووالد أحمد خائف على مستقبل أرضه، ويريد أن يعلم شقيق أحمد أصول الفلاحة، الجيل الجديد غير مهتم بالأرض، يريد الوظيفة، أما سعاد البريئة فلم تعد بريئة، انتقلت مع أبيها الى القاهرة، لاتمانع في علاقة جسدية مع أحمد، ولاتمانع في الزواج به، تشرب البيرة في عوامته، وتكذب عليه بالقول أنها خطبت من قبل، ولم تعرف رجلا قبله، سعاد تذكر أحمد بمعنى تلوث البراءة، براءتها وبراءته، وتذكره بما فعلته المدينة فيها، وفيه أيضا.

بناء الفيلم الفذ، في مركزه أحمد الشاذلي، وعلى أطراف الدائرة المحيطة أربع شخصيات أساسية: العم صوت الماضي البعيد، وسعاد صوت العاطفة والبراءة البعيدة، ووداد صوت العاطفة القريبة، وعبد العاطي صوت الواجب والمسؤولية، وأيضا صوت الواقع المزعج، والآن على أحمد الشاذلي، المنتمي فقط الى نفسه، والى عوامته، والى حياته اليومية، أن يتخذ قرارا إزاء كل ما يراه، هل يعود الى العوامة أم يخرج منها الى العالم الحقيقي؟

ظل معتقدا أن أفلامه التسجيلية عن الناس، وعن مشاكلهم، عن الفلاحين والغلابة، والتي يصفها الصحفي زميل وداد بأنها تشوه سمعة البلد، هذه الأفلام يمكن أن تكفي وحدها ليكون منتميا الى الواقع، ولكنه اكتفى بسينما الحقيقية، دون أن يكون جزءا من هذ الواقع الحقيقي، ظل دوما رومانتيكيا حالمأ ينتظر معجزة وليس مبادرة، حتى رحلته للعمل في أوربا لم تحقق شيئا، كانت حلما  عابرا لا إنجازا واقعيا.

خيري بشارة

مخرج سينما الحقيقة الذي أراد أن يصور ما فعلته الماكينة العفريتة في العمال، اكتشف أن هناك عفريتا أهم يطارده في الصحو والمنام، وهو عفريت العامل عبد العاطي الذي قتل أمام عوامته، والذي يخرجه هو بنفسه من الماء، الحقيقة ليست مجرد شريط سينما، ولكنها في الواقع نفسه، والواقع ليس فيه عفريت واحد، بل عدة عفاريت عليه أن يواجهها.

يأخذ الفيلم بطله من خلف الكاميرا الى الواقع المجرد الخشن، يعيش ليلة مؤلمة في قسم البوليس،هناك من يورطه في جريمة قتل عبد العاطي، وعليه أن يدافع عن نفسه، عن جسده، وعن فيلمه معا، عليه أن يدافع عن الحقيقة والبراءة في الواقع، وعلى شريط الفيلم الذي تظهر عليه صورة عبد العاطي، وعليه أن يذهب الى القرية لمطادرة شاهد الزور، وضربه، وأن يرفض أن يغير من فيلمه، وفق مقترحات منتج من منتجي الزمن الجديد.
ليس سهلا أن يتغير أحمد الشاذلي تماما، ولذلك سنرى فقط “بوادر” هذا التغير، سيقول إنه يفكر في بيع العوامة، سيلقي بالبابيون الذي أحضره له الرجل الذي يرتدي زي شابلن، وكأنه يلقي في النيل بقناع كان يواجه به الناس، قناع الحلم يحياة مرفهة لا يملك مقوماتها، وإنما يختلس وقتا منها، ثم يعود من جديد الى النظر في عين الكاميرا، وقراءة كتب عن سينما الحقيقية على طريقة دزيجا فيرتوف، ثم قول أحمد الشاذلي إن فيلمه القادم عن البلهارسيا، هناك في الريف وليس في المدينة.

 يريد أن يتحرر من مسؤولية علاقته مع وداد، إلا أنها ترفض وتتمسك به، فيلم في الريف لن يحل كل شيء بالطبع، ولكنها بداية فيها كثير من الرمز: عودة للريف، لاستعادة البراءة المفقودة، ولاكتشاف الواقع بشكل مباشر، وليس من الخارج، الآن يمتلك أحمد بعض القدرة على المبادرة، لا شيء يجزم بالنجاح، ولكن معه وداد، وأمامه حكايات العم الذي أراد فاختار ودفع الثمن، ومعه زملاء الفيلم صالح وعادل، لم يعد يهتز مع العوامة، صار الآن نسبيا فوق الأرض، واقعيا بحق، وليس واقعيا من خلال عدسة الكاميرا.

ما وراء الصورة

بديع حقا هذا المعنى الذي يصل إلينا تدريجيا، ومن خلال مواقف وحوارات محكمة ومؤثرة، خيري بشارة كما هو معروف كان مخرجا تسجيليا مرموقا، قبل أن يصبح مخرجا روائيا كبيرا، ورؤيته للواقعية هنا هامة للغاية، إذ يبدو فهم الواقع، والتفاعل معه، والتعامل الإيجابي معه، سابقا للتعبير الفني عنه، ليست المسألة مجرد فيلم يصور البشر من الخارج، ولكن لابد أن تعرفهم، وأن تفهم مشاكلهم، وأن تشعر أيضا بأنك مسؤول معهم وعنهم، ومن خلال كل ذلك يكون التعبير صادقا، ولذلك فإن ظهور عبد العاطي فجأة ضمن مشاهد الفيلم المصورة، ليس مجرد ظهور عابر، ولكنه في صميم معنى الفيلم.

 عبد العاطي هو ما وراء الصورة، هو الحكاية الحقيقية الجديرة بالتسجيل، هو الجهد الذي يجب بذله لاكتشاف الواقع الحقيقي، أو ما وراء الصورة الظاهرة.
يتقاطع هذا المعنى مع  فكرة فيلم “ضربة شمس” الذي أخرجه محمد خان، وكتب له السيناريو والحوار فايز غالي، حيث يكتشف شمس أن هناك أشياء أخطر وراء صور الفرح والسعادة، ووراء صورة الورقة وكلماتها المكتوبة، الواقع وراء الصور وليس في الصور فقط، ومن اللافت أن فايز غالي، السيناريست البارع، هو أيضا كاتب سيناريو “العوامة قم 70″، كما أن المخرج محمد خان يؤدي في “العوامة رقم70” دور عادل مونتير الفيلم الذي يخرجه أحمد الشاذلي.

ورغم أن “العوامة رقم70” يرسم بورتريها بالأساس لبطله أحمد الشاذلي، إلا أنه يرصد  أيضا تغيرات إجتماعية كثيرة، مثل انتشار الفساد، ونهب المال العام، ومثل حال الزرع والأرض الذي لا يسر، ومثل الهجرة والتعلق بالوظيفة، ومثل هزيمة البراءة ممثلة في سعاد، والتي تريد أن تشتري أحمد بأموالها، وتطلب منه أن يترك عمله، على أن تمول مشاريعه القادمة، وتقول له أيضا إنها ستترك عملها كوكيلة مدرسة، لكي تشتري بوتيكا، : “وهمة اللى عندهم بوتيكات أحسن مني؟!”.
يبدو لي أن شخصية العم حسين لا تجسد التمرد في حده الأقصى فحسب، ولكنها تجسد اغترابا كاملا عما يحدث في زمنه الجديد، لانراه أبدا إلا في أماكن مغلقة، ولن يعود أبدا الى القرية، ولن يظهر حتى في فرح فاطمة ابنة أخيه وشقيقة أحمد، هو فقط لا يتوقف عن الحكي، أو عن مواساة أحمد.

العم حسين بالنسبة لأحمد موضع حسد لأنه عاش حياة ثرية اختارها بنفسه، ولكن أحمد لا يريد أيضا أن يكون منعزلا مثله، في حياة أحمد ما يكفي من أسباب الإغتراب، والحل ليس في الهروب الى العوامة أو الخمارة، وإنما في العودة الى الذات، في خلع الأقنعة، وفي مواجهة المجتمع ومشاكله.

الفيلم أيضا ليس ضد الحلم أو الرومانسية، وداد هي حب أحمد وحلمه، وهي من يسانده حتى النهاية، الفيلم ضد الرومانسية الهروبية، وضد الحلم الذي يخدر صاحبه، فلا يسعى الى تحقيقه، والذي يعيش مكتفيا به.

هناك علامتان بصريتان يكررهما الفيلم أكثر من مرة: حركة أحمد ماشيا في الشوارع ليلا وخلفة حوانيت المدينة المضيئة، وهذه اللقطات المتكررة تتجاوز معناها التقريري بالذهاب الى مكان ما، إنها تعبير عن فكرة الرحلة والسعي للتخلص من أزمته، فكرة البحث عن طريق وهدف في قلب المدينة المشغولة بنفسها وبأنوارها.

العلامة البصرية الثانية هي عبد العاطي الذي يقتحم أولا شريط الصورة، ثم يظهر في أحلام أحمد الشاذلي، وهو أيضا ليس مجرد شخصية، وإنما لحظة تنوير لأحمد الشاذلي، هو العفريت الذي لايمكن الهرب منه، عفريت الواقع والمسؤولية، وهو أخطر من الماكينة المسماة العفريتة، يمكن القول إن الفيلم هو رحلة أحمد من الهروب من عفاريت حياته، الى مواجهتها، ولذلك فإن شخصية عبد العاطي، التي تورط أحمد في واقعه، من أهم شخصيات الفيلم، رغم مشاهدها المحدودة.

قدم خيري بشارة في الفيلم حسا روائيا مدهشا، ولمسات تسجيلية ممتزجة بالدراما، قدرته على اختيار وإدارة ممثليه ممتازة، ومشاهد المحلج تبدو مثل فيلم تسجيلي قصير، الإحساس بالمكان وتفاصيله مميز وخاص، محمود عبد السميع، المصور الكبير القادم أيضا من السينما التسجيلية، يثبت بقوة تميزه في مشاهد كثيرة، لفت نظري مثلا ظهور عبد العاطي خلف الماكينات وكأنه فوق كادرات شريط سينما، تمهيدا لظهوره فعلا بعد ذلك على الشريط السينمائي، مشاهد العوامة، ومساحات النور والظلام، جعلتها حقا كأنها عالم آخر مستقل عن عالم الواقع، مشهد ظهور عبد العاطي في حلم أحمد جعل العامل الشجاع مثل شبح حقيقي، مخيف ومؤرق، عند خيري بشارة سيتكرر معنى الخروج من الشرنقة في فيلمه الهام “آيس كريم في جليم”، فكأن الكشك الذي يعيش فيه عمرو دياب، يذكرنا بمعنى من المعاني بعوامة أحمد الشاذلي، عالم خاص مغلق ومنفصل، ولا سبيل الى اكتشاف الواقع إلا بالتفكير في مغادرته.


موسيقى جهاد داوود كانت كذلك من علامات تفوق الفيلم: نقرات تثير التوتر، ونغمات حزينة ترثي القرية وأهلها، وجمل نشيطة فرحة تواكب تمرد أحمد ورغبته في تغيير حياته الرتيبة، أما التشخيص فقد كان في مستوى الكتابة الرفيعة: أحمد زكي في دور صعب، صراعاته داخلية بالأساس، لا يجب أن يبدو كئيبا، ولا يجب أيضا أن يبدو عاديا ومرحا، مأزوم يتألم في صمت، لا يظهر ما بداخله إلا في نوبات ثورته سواء على وداد أو على الشرطة أو على نفسه، وحتى هذه الثورات يجب ألا تنزلق الى المبالغة أو الصوت العالي، يجب أن يبدو شخصا عاديا يمثل الكثيرين، وقد كان أحمد ذكي دائما نموذجا للشخص المصري العادي، الذي يبهرنا بأدائه غير العادي.

ماجدة الخطيب في أحد أفضل أدوارها، شخصية تعيش بقناعين، ريفية ومن البندر، مستعدة أن تتخلى عن حياتها القديمة، ولكن دون فضيحة، ودون أن يعرف أحد، الشخصية رغم جانبها العملي مثيرة للرثاء، ظروفها صعبة وصادمة، وحياتها فارغة، عبرت ماجدة الخطيب ببراعة عن كل جوانبا لشخصية المعقدة.
تيسير فهمي جسدت نموذج الفتاة العملية قوية الشخصية، ولكنها عاطفية أيضا، لا أعرف لماذا لم تقدم الموهوبة تيسير فهمي  أدوارا كثيرة في السينما تتناسب مع حضورها واجتهادها وشكلها المصري المألوف؟

أحمد بدير لفت ألأنظار بقوة كذلك في دور عبد العاطي، الدور يحتاج الى ممثل له حضور، لأنه شخصية هامة يجب أن تبقى في الذاكرة، حتى عندما يتركه أحمد ليسافر الى قريته، يجب أن يشغلنا بما فعل، عبد العاطي أيضا مدمن ولكنه شجاع وجسور، نموذج إنساني ليس سهلا، ولكن أحمد بدير قدمه ببراعة وبوعي.

ويبقى كمال الشناوي في شخصية العم حسين، لقد منحها ثقلا كبيرا، تفهم منطقها، وقدم أداء صعبا بين الصحو والغياب، بين الماضي والحاضر، مشاهد قليلة ولكن مؤثرة للغاية، كان مهما للغاية أن يلعب الدور ممثل كبير، حتى يظل أداؤه دائما في الذاكرة.

“العوامة رقم 70” يضع مثقفا وفنانا في قلب الواقع مباشرة، وفي قلب حياة تغيرت، جيل يحاول أن يجد نفسه في الحياة، وأن يجد نفسه أيضا على شريط سينما، رؤية قوية ثاقبة ومؤثرة، كتبت بذكاء وبصدق، فظلت عنوانا على زمن وجيل.

لن يتوقف خيري بشارة في أفلام تالية على الإلحاح على فكرة مواجهة الواقع، والخروج من العوامات والأكشاك، مهما تغيرت طرق معالجته للواقع، بعد أن صار أكثر تعقيدا وإثارة للدهشة، مما واجهه أحمد الشاذلي فى محلج القطن العجيب.

Visited 146 times, 1 visit(s) today