“الظلام”.. العدو المجهول في حرب كوسوفو
محمد كمال
بشكل شخصي اعتبر حروب البلقان هي الأشرس على مستوى التاريخ ليس فقط من حيث قوة معاركها لكن على مستوى التأثير المتتالي على مدار أعوام طويلة، فقد كانت البداية في العقد الثاني من القرن الماضي واستمرت على فترات متباعدة، وانتقل هذا الصراع المتباين المتفرق إلى السينما فكل دولة تقدم وجهة نظرها في القضية وفق معطياتها.
ورغم اختلاف الأطروحات على الشاشة الفضية إلا أن معظمهم اتفقوا في أمر واحد وهو استخدام الظلام كحالة تعبيرية مفضلة لدى المخرجين لوصف تباعيات وآثار تلك الحروب، وكان آخر تلك التجارب الفيلم الصربي “Darkling” أو “الظلام” للمخرج دوسان ميليتش ويعد الفيلم الاختيار الرسمي لدولة صربيا ضمن المنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
وبالنظر إلى النماذج الأربعة التي قدمت مؤخرا عن آثار حروب البلقان نجد اشتراكها على مستوى أسماء الأفلام في وجود كلمة الظلام مثل الفيلم البوسني الأمريكي “في الظلام” للمخرج الأيرلندي أنتوني بيرني عام 2018، والفيلم الصربي “دارا من ياسنوفاك” للمخرج بريدراج أنتونييفيتش عام 2020 والثالث الكرواتي “تلك الليالي المظلمة” للمخرج فرانسوا أونيل الكرواتي الأصل والفرنسي الجنسية، نجد أن الأول الظلام فيه ان البطلة كفيفة ويرتكز على مذبحة سربرنيتسا التي حدثت فى البوسنة عام 1995 وشارك فى تنفيذها يوغوسلافيا وصربيا وكرواتيا و كانت أكبر ابادة جماعية فى التاريخ الحديث .
أما الفيلم الثاني فهو يحكي جرائم الإبادة من الكروات ضد الصرب تحت مظلة الحكم النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، والثالث يروي القصة بالعكس حيث يسرد جرائم صربيا ضد كرواتيا والبوسنة في التسعينيات، في كل فيلم يختلف الجاني والمظلوم في كل رواية لكن تبقى النقطة المشتركة في استخدام كلمة وتعبير الظلام سواء على مستوى العناوين أو على مستوى سرد التفاصيل.
في أحدث تلك التجارب التي سميت أيضا “الظلام” حيث تدور الأحداث بعد انتهاء حرب البلقان الثالثة في الجزء الشمالي من إقليم كوسوفو الذي كان وقتها يخضع للحماية العسكرية الدولية بعد الإبادة الجماعية التي نفذها الألبان ضد صرب كوسوفو في مارس 2004، تلك القوات الدولية التي بدأ الفيلم على أنهم من إيطاليا ثم تغيروا وجاءوا جنود من الولايات المتحدة الأمريكية يتولوا حماية ما تبقى من سكان تلك المنطقة الريفية خلال فترات النهار فقط أما في الليل فالوضع يختلف تماما.
يبدأ المخرج دوسان ميلتش فيلمه في النهار لكن الوضع في المنزل كارثي شديد الظلام والكآبة حيث تقيم أسرة تتكون من الجد وابنته وحفيدته حيث يقوم الجد ليلا بوضع الحواجز على الأبواب والشبابيك والمنزل يتم تطويقه بسرج من الأسلاك الشائكة مع حفر فخ من كماشة حديدية، ويستغنى الجد عن استخدام المرحاض لأنه في جهة على أطراف المنزل ويقوم بتوصيل فتحة المزرعة بالمنزل حتى يغلقها من الداخل وذلك لحماية بقرته بعد أن تسبب العدو في قتل البعل مما جعل مخزون الألبان من البقرة يأتي منقوصا.
تأتي الوحدة العسكرية الدولية صباح كل يوم لاصطحاب ما تبقى من أطفال إلى مدارسهم داخل الدبابات المدرعة ومن ضمنهم الحفيدة ميليكا صاحبة ال 11 عاما حيث لم يتبقى سوى عدد قليل من الأسر الصربية داخل هذا الجزء من الإقليم، ويتبقى في المدرسة خمسة طلاب فقط مع وجود اثنين منهما أسرتهما على الاستعداد للرحيل ويتبقى شقيقان يعيشا مع جدتهما التي ليس لها مكان اخر تذهب إليه والأخيرة هي ماليكا التي يرفض جدها بشدة مغادرة منزله رغم أنه ليس المنزل الأصلي لكن الجد ميلتون مرتبط بأرضه وبمزرعته وحيوانته والأهم يرفض الرحيل قبل أن يعرف موقف ابنه وصهره حيث انهما خرجا للزراعة ولم يعودا لهذا انتقلت ابنته فويسكا والحفيدة ميليكا للعيش مع الجد.
لا تشعر تلك الأسرة وخصوصا الابنة والحفيدة بالأمان إلا أثناء النهار وتحديدا مع وجود الوحدة العسكرية الإيطالية خصوصا وجود بوادر علاقة عاطفية بين الأم والضابط الإيطالي ماوريسو لدرجة أنه يعرف كلمات قليلة في اللغة الصربية، وفويسكا بدورها تتعلم اللغة الإيطالية من قاموس “صربي – إيطالي” لكن سريعا ما ينتهي وجود ماوريسيو حيث يتم استبدال الحماية الإيطالية بأخرى أمريكية، ومن بعد اختفاء ماورسيو تشعر فويسكا بالفراغ وعدم الأمان وتزداد رغبتها في مغادرة المكان.
برغم انتهاء الحرب ووضع الإقليم تحت الحماية الدولية إلا أن الوضع غير آمن لكن في نفس الوقت العدو نفسه غير واضح ولا توجد أدلة مادية على وجوده أو حدوث شئ ما فكل ما نسمعه هي أصوات صاخبة ودوي انفجارات غير محددة وطوال أحداث الفيلم يكون التساؤل الأساسي من هو العدو ؟، في أوقات نشعر بأنهم الجنود الألبان وتارة ينتاب الشعور بأنها الغابة، وفي أوقات أخرى هم الحيوانات البرية، وفي تفاصيل أخرى نسير مع فكرة أنه الطقس الشتوي السئ حبث البرد القارص والأمطار الغزيرة وأصوات الرياح المرعبة.
عبر المخرج عن هذا الظلام من خلال أمرين الأول داخل حدود هذا المنزل المتهالك والثاني خارج حدود المزرعة حيث يجنح كثيرا لاستخدام اللقطات الطويلة من خارج المزرعة ليكشف المنزل كله وذلك من أجل التعبير والتأكيد على وجود عدو يتابع ويراقب هذا المنزل من الخارج فقد تنوعت اللقاطات تارة من داخل المنزل للخارج حيث إظهار الفراغ الشاسع في الغابة ومرات أخرى من الغابة إلى المنزل، اعتمد ميلتيش على اللقات السريعة بالكاميرا المتحركة لإظهار حالة الخوف والترقب والهلع التي تحيط بالأسرة دائما بمجرد حلول الظلام خاصة وأنه عن قصد عبر بكاميرته كل جنبات المنزل حتى الفتحة الداخلية التي أقامها الجد لتكون هي المدخل الأساسي للمزرعة حيث تتواجد بقرته.
تروى الأحداث التي قال عنها في البداية أنها حقيقية على لسان الحفيدة ميليكا وذلك من خلال خطاب طلب منها في المدرسة أن تكتبه لرئيس كوسوفو حول الوضع الحالي في الإقليم لكن ميليكا فضلت أن يكون الخطاب موجه إلى والدها الغائب أيضا وهنا يريد ميليتش أن يعبر عن أن السلطة الحكومية في كوسوفو هي أيضا غائبة مثل الأب تماما ولا يوجد أي طريقة تواصل مع سكان الإقليم.
من أهم نقاط قوة الفيلم كان الأداء التمثيلي للثلاثي الممثل الصربي الكبير سلافكو شتيماك في دور الجد والممثلة الصربية دانيكا كورسيك التي تألقت العام الماضي أيضا في الفيلم الكرواتي “مورينا” وأ]ضا الحفيدة الطفلة ميونا ليلوف التي كانت هي محور أحداث الفيلم لكن يظل المخرج وكاتب السيناريو دوسان ميليتش هو البطل الأبرز في هذا الفيلم لأنه أقدم ألإضل تجربة من دولة البلقان تعبيرا واستخداما للظلام.
الظلام عند ميليتش يسير في اتجاهين الأول هو الصدى المدوي والمفزع للآثار المستمرة والباقية لحروب البلقان، والثاني القوى المظلمة التي تشكل هذا الخطر وعن قصد عبر عنها بأنها قوى غير مرئية وغير ملموسة لأنها حتى مع الفرضية على أنها كذلك لكنها في كل الأحول تركت آثارها في الماضي على أجيال ستظل تعيش على نتائجها حتى بعد انتهاء الحروب، ستبقى هذه الأجيال تعيش تحت مظلة الخطر والشعور بأنه دائم القرب منهم وأنهم دائما مهددين بالإبادة من الوجود ومجبرين على الحياة في الظلام.