“الشيطان والأب أمورث” وطرد الأرواح الشريرة
ليس من الممكن مناقشة الفيلم التسجيلي “الشيطان والأب أمورث” The Devil and Father Amorth (68 دقيقة) دون أن نفهم ماذا يعني “طرد الأرواح الشريرة” أو تلبس الروح الشريرة جسد إنسان ما والسيطرة عليه.
منذ القرون السحيقة كان الإنسان يرجع الإصابة بالكثير من الأمراض المستعصية إلى “الأرواح الشريرة” أو “الشياطين” وقد تبنت الأديان أيضا فكرة وسوسة الشيطان وسيطرته على عقل الإنسان “الضعيف الإيمان”، إلا أن المسيحية (واليهودية بدرجة أقل) تؤمن بفكرة تخليص الانسان من الأرواح الشريرة عن طريق الأدعية والاستعانة بقدرة المسيح لإنزال الهزيمة بالشيطان والتمكن منه واخراجه من الجسد، على أن يكون الشخص المصاب أو “الملبوس” مؤمنا بوجود الأرواح الشريرة ومؤمنا بقدرة الإله على هزيمتها. وإذا كان الإسلام قد قطع باختفاء الشياطين مع نزول القرآن، وحرم السحر بكل أنواعه، إلا أن الكثير من المسلمين يمارسون طقوس طرد الشيطان وإخراج الأرواح الشريرة، ولكن المؤسسة الدينية الرسمية تحظر ذلك وتعتبره نوعا من الدجل.
أقرت الكنيسة الكاثوليكية ممارسة طرد الأرواح الشريرة ووضعت لها تشريعات تعود الى القرن السابع عشر ثم قامت بتحديثها في تسعينات القرن الماضي، بل وأسست أيضا “الاتحاد العالمي لطاردي الأرواح الشريرة” عام 1990 الذي يضم أربعة قساوسة من روما و300 قس من باقي أنحاء العالم، وكان يرأسه منذ تأسيسه القس غابرييل أمورث الذي يعد عميد طاردي الأرواح الشريرة في العالم، وقد ظل يرأسه حتى وفاته في خريف 2016، بعد أن مارس آلاف الجلسات لطرد الأرواح الشريرة.
لكن قبل وفاة الأب أمورث بعدة أشهر كان المخرج الأميركي وليم فريدكين قد اتصل به ونجح في مقابلته في روما بل وأقنعه بتصوير عملية حقيقية من تلك التي كان يقوم بها لطرد الشيطان. وكان ما أقنع القس بمقابلة المخرج والسماح له بتصوير مثل هذه الجلسة للمرة الأولى، أنه كان قد أبدى إعجابه بالفيلم الشهير “طارد الأرواح الشريرة” The Exorcist الذي أخرجه فريدكين عام 1973. وقد كتب في كتاب له يشيد بالفيلم ويقول إنه ساعد كثيرا في الترويج للعمل الذي يقوم به.
يبدأ الفيلم بالمخرج وليم فريدكين الذي يصحبنا عبر فيلمه، يقف أمام الكاميرا، أو يسير ويخاطبنا مباشرة ويقابل الكثير من الشخصيات المختلفة، يشرح ويعلق ويروي.
في البداية نشاهد لقطة لإحدى ساحات روما التاريخية حيث يتجمع الناس ومنها إلى كنيسة تجري داخلها طقوس طرد الأرواح، ويقول لنا فريدكين بصوته إن في إيطاليا التي يتجاوز عدد سكانها 60 مليونا، نحو نصف مليون شخص ينشدون سنويا طرد الأرواح الشريرة. ثم يقدم كريستينا الايطالية البالغة من العمر 46 عاما، وتعيش في بلدة تبعد عن روما 200 ميل تقع في الجبال. كريستينا مهندسة معمارية لكنها أصبحت الآن عاجزة عن العمل بعد أن أصيبت بما تعتقد أنه “مرض روحاني”.
ومن كريستينا الى الشخصية الرئيسية في الفيلم أي الأب غابرييل أمورث الذي قضى 31 عاما في طرد الشياطين. وقد حاول مع كريستينا عبر ثماني جلسات لكنه لم ينجح، وسيحاول المحاولة التاسعة التي سيسمح لفريدكين بتصويرها.
قبل ذلك ينتقل فريدكين ليروي لنا علاقته بطرد الشيطان التي بدأت عام 1972 عندما أراد اخراج فيلمه الشهير The Exorcist وجاء الى بلدة جورج تاون لتصوير الفيلم، الذي اقتبس من رواية وليم بيتر بلاتي.
ويروي فريدكين كيف أن بلاتي اعتمد في كتابة روايته على مقال قرأه وهو طالب جامعي عام 1949 عن حادثة تتعلق بصبي في كوتيج سيتي بولاية ميريلاند تلبسته الأرواح الشريرة وتم تخليصه منها بنجاح. يظهر بلاتي في فيلمنا هذا لكي يحدثنا عن البحث الذي قام به قبل أن يكتب روايته، وكيف أنه يؤمن فعلا بوجود الأرواح الشريرة. ثم يأخذنا فريدكين الى المنزل الأصلي الذي وقعت فيه قصة الصبي، ثم ينتقل الى المنزل البديل الذي استخدمه في تصوير الفيلم، ويشرح كيف أقاموا اطارا خارجيا للمبنى لجعله يرتبط بالسلم الجانبي الذي سقط من فوقه القس ولقي حتفه في الفيلم والذي أصبح يعرف- كما يخبرنا- بـ “سلم طارد الأرواح”.
ينتقل الفيلم الى الحاضر ليشرح فريدكين كيف أتيحت له الفرصة بعد 45 عاما من تصوير فيلمه، لمقابلة الأب أمورث، ويقدم لنا شخصية القس الذي حارب في شبابه ضد النازي، ثم التحق بالكنيسة وأصبح أشهر قس يقوم بطرد الأروح الشريرة. وعندما قابله كان يوشك على اجراء عملية طرد الشيطان من جسد كريستينا. وقد وافق على التصوير بكاميرا صغيرة، دون أي اضاءة أو مساعدين.
الأسلوب الذي يتبعه فريدكين هنا ليس أسلوب السرد المتدرج زمنيا، فهو يزيد من تشوقنا وينتقل أولا ليروي قصة لقائه بامرأة إيطالية مرت بالتجربة وشفيت بالفعل. يجري معها حوارا ثم مع شقيقها الذي لمح الاضطراب الذي كانت تعانيه كريستينا وكان هو الذي اقترح أن تذهب لترى الأب أمورث.
لكن هناك أولا المقابلة التي صورها مع كريستينا نفسها، وتؤكد خلالها أنها لم تذهب الى طبيب نفسي لأنها على قناعة بأن روحا شريرة قد تلبستها، أو أن مرضها “روحاني” وهو تعبير يكرره المتدينون عموما، ويقول الفيلم على لسان فريدكين ان من الضروري لنجاح عملية طرد الأروح أن يكون المرء متدينا، يؤمن بفكرة التلبس وطرد الشر.. والغريب أن كريستينا تقول ان ما تصاب به من نوبات عصبية تأتيها عادة في المناسبات الدينية. يؤكد فريدكين أيضا أن الأب أمورث يصر قبل البدء في ممارسة عمله في طرد الأرواح الشريرة، على ضرورة استبعاد وجود أي مرض عضوي أو نفسي.
في الأول من مايو 2016، وفي حجرة صغيرة داخل كنيسة الأب أمورث، يتجمع نحو عشرين شخصا، معظمهم من أقارب كريستينا، مع خمسة من مساعدي القس، يمسكون بقوة بأطراف كريستينا، وقد لفوا شريطا من القماش حول رقبتها ينتقل ليلف حول رقبة القس أمورث، كما علقوا صليبا كبيرا في رقبتها. ويبدأ القس بتلاوة من الانجيل ثم بعض العبارات الأخرى باللاتينية يقرأها من كراسة، فتدب الانفعالات الشديدة في جسد كريستينا: تبدأ في تحريك رأسها حركات عصبية، وتظهر على وجهها علامات الألم وعندما يضع الأب أمورث يده فوق جبهتها، تشيح بوجهها ثم ترتفع صرخاتها الرهيبة، تصب اللعنات على القس تارة، وتريد أن توقفه وتحرك جسدها الى الأمام كأنها ستهجم عليه تارة أخرى، لكنهم يقيدون حركتها، وعندما يسأل: من أنت؟ تجيبه: “أنا شيطان، وكريستينا ملك لي.. لن يمكنك أبدا أن تأخذها”. وعندما يسأل كم عددكم تجيب بصوت خشن مخيف: نحن فيالق..
إننا أمام حالة واضحة من الاضطراب النفسي الشديد. هناك شيء ما دون شك داخل المخ. لكن هل هو الشيطان؟ هذا ما يدفع فريدكين في الجزء الأخير من الفيلم الى البحث عن إجابة له من خلال مقابلاته مع عدد من الأطباء النفسيين وجراحي المخ والأعصاب بعد أن يجعلهم يشاهدون الجلسة المسجلة مع الأب أمورث وكريستينا. يجمع الأطباء على أنهم لم يروا شيئا كهذا من قبل، لكنهم في الوقت نفسه يعزون الأمر إما الى مرض صرع الفص الدماغي الذي يجعل من يصابون به يهلوسون ويتحدثون بلغات لا يعرفونها أصلا، ثم ينهضون من نوبة الصرع وهم على يقين من رؤية أشياء تتعلق بالدين أو بالشيطان. لكن هناك أيضا من يقول ان الغموض الذي توحي به الحالة من الناحية المرضية ليس معناه أن هناك شيطانا، فربما أننا فقط لم نصل الى إدراك طبيعة هذه الحالة بعد، شأن الكثير من الأمراض التي لم نكن نعرف عنها شيئا في الماضي. ويقول عالم آخر إنه يرى حالة كريستينا كحالة اضطراب سلوكي فقط، لكنه لو كان قسا كاثوليكيا أو حاخاما يهوديا فربما كان لديه تفسير مختلف. هناك شيء يحدث لها لا شك. لكن ربما هي تضع فيه شيئا دينيا من داخلها يتسق مع معتقداتها الراسخة.
الطريف أنه بعد أن ينتهي القس أمورث من طرد الشيطان ونتصور ويتصور الحاضرون جميعا أنه قد نجح، وبعد أن تعود كريستينا الى حالتها الطبيعية، تبتسم وتشرب قدحا من الماء، سرعان ما تعود إليها حالة التوتر والصراخ الهستيري بمجرد أن يشرع القس في مباركة والدها، أي أن الفيلم من حيث أراد التأكيد على نجاح ما يسمى بـ “طرد الأرواح الشريرة” توصل في النهاية إلى عجزها. فقد فشلت المحاولة التاسعة لتخليص كريستينا من الشيطان!
في الجزء الأخير من الفيلم يروي فريدكين كيف أنه عاد بعد الأب أمورث وأراد تصوير مقابلة مع كريستينا ووافقت واتفقوا على اللقاء في روما لكنها غيرت رأيها ودعته مع مساعده الإيطالي لمقابلتها أمام كنيسة في بلدة أخرى تبعد عن روما بنحو مائة كيلومتر، وهناك لم يجدوها وعندما اتصل بها المساعد قالت انها في كنيسة أخرى ذهبا اليها ودخلا (من دون الكاميرا هذه المرة) ليجدا كريستينا تصرخ صرخات شيطانية، وأخذ صديقها يهددهما بأنه اذا لم يستعيد الفيلم الذي تم تصويره فسوف يقتل المخرج، وانهم يعرفون عنوانه وانه ليس من حقه عرض الفيلم أبدا. فر فريدكين ومساعده من المكان وظل الأمر لغزا كبيرا.
أما القس الأمريكي روبرت بارون أسقف لوس انجلوس الذي يقابله فريدكين فيؤكد له أنه لم يمارس قط طرد الشياطين، وأنه لا يستطيع ممارسة هذا الفعل لأنه يحتاج الى قدر كبير من الشفافية الروحانية التي لا يتمتع بها. القس البروتستانتي لا يرفض تماما فكرة الأرواح الشريرة التي تتلبس الجسد البشري، لكنه يميل أكثر الى التعامل مع الحالات المشابهة عن طريق الطب أولا أو حسب قوله “التعامل مع الطبيعي قبل اللجوء الى ما وراء الطبيعي”. أما رسالة الفيلم فهي تتلخص في أن العالم يحتوي على كل من الخير والشر، وأن علينا ألا نركز كثيرا على الشر، بل نفكر أكثر في الخير.
الواضح أن وليم فريدكين أراد أن يستثمر نجاح فيلمه القديم، فعاد وهو في الحادية والثمانين من عمره، مدفوعا بنوع من النوستالجيا وهو الذي لا يؤمن أصلا بوجود الأرواح الشريرة، للبحث في الموضوع محاولا إقناعنا بأن ما كان يرفضه في الماضي قد أصبح يقبله اليوم. لكن فيلمه يظل عملا استعراضيا لا يثبت شيئا.
ومع ذلك يجب أن نعلم أن الجزء المتقدم من العالم الذي قطع مشورا طويلا في العلم، يضم الكثير ممن يعتقدون بوجود الشيطان في جسد الانسان. والمعلومات تقول إنه في عام 2003 قُتل طفل في الثامنة من عمره مصاب بمرض التوحد، اثناء ممارسة طرد الأرواح الشريرة التي يعتقد أنها تلبسته داخل احدى الكنائس في أمريكا. وفي 2005 ماتت راهبة شابة في رومانيا بين أيدي القساوسة وهم يمارسون طرد الأرواح بعد أن ربطوها في صليب ومنعوا عنها الطعام والشراب لعدة أيام. وفي لندن قام أقارب طفل في العاشرة من عمره عام 2010 بضربه واغراقه في الماء الى أن لفظ أنفاسه وهم يحاولون طرد الأروح الشريرة من جسده!