فيلم السعفة الذهبية: “مجرد حادث بسيط” ومجرد فيلم صغير

لا شك أن السينما الإيرانية تطورت كثيرا بعد رحيل الأب الروحي عباس كياروستمي، الذي دشن الموجة الجديدة في التسعينيات، فهي بعد رحيل كياروستمي، لم تعد تلك السنيما الفقيرة، الريفية، التجريدية المبهمة، ذات البعد الأحادي، التي تدور في الجبال والقرى، القريبة من روح الفيلم التسجيلي، بل أصبح من الممكن أن نطلق عليها “سينما الدراما المعقدة المكثفة” التي تكشف في كل مشهد، عن تطور جديد في الحبكة، يدفع الموضوع إلى الأمام، يثري الشخصيات، ويزود الصورة بتفاصيل جديدة، والدراما بمواقف متأزمة معقدة، تشد المتفرج وتدفع الأحداث إلى الأمام، لا تظل تدور حول نفسها.

هذا تحديدا ما يميز كثيرا أفلام مخرجين من أمثال أصغر فرهادي ومحمد رسولوف وسعيد روستائي ومريم مقدم وبهتاش صنايحة، ومعظمهم تمكن من التخلص من تأثير كياروستمي، وأمكنه العثور على أسلوبه الخاص. غير أن المخرج جعفر بناهي (65 سنة) فقد ظل يصنع ما يعرف بالفيلم “المنياتير” ذلك العمل البسيط الصغير الذي يدور حول فكرة واحدة، يخلو من الدراما المركبة، ويميل الى التبسيط الشديد، ويظل يطرق على الفكرة، خصوصا وأنه أصبح يستخدم الهجاء السياسي كوسيلة للفت أنظار المهرجانات الأوروبية، بغض النظر على معايير الفن الرفيع، فأفلام بناهي من بعد أفلامه الأولى الجيدة وآخرها فيلم “تسلل” Offside (2006)، سقطت في المباشرة الفجة ولم تعد تتمتع بما تتمتع به مثلا، أفلام رسولوف وهي أيضا من أفلام النقد السياسي القوي.، ولكن شتان ما بين الاثنين. ويمكن أن ندرك الفرق الكبير فيما بينهما، في الأسلوب واللغة السينمائية والبراعة في نسج الدراما- إذا ما قارنا بين فيلم رسولوف البديع “بذرة التين المقدسة”، وفيلم بناهي الأحدث “كان هذا مجرد حادث بسيط” It Was Just An Accident.

جعفر بناهي في مهرجان كان

إلا أن بناهي يظل المخرج الأكثر حظا لدى مهرجانات السينما الأوروبية، لأنه نجح في الترويج لصورته كمخرج منشق معارض، سجن أكثر من مرة، ومنع من العمل رسميا” لمدة 20 سنة، ومع ذلك استمر يصنع الأفلام (بتمويل فرنسي وألماني وغير ذلك) خلال فترة “الحظر” الممتد منذ 15 سنة، وتمكن دائما من العثور على “وسيلة” لعرضها خارج إيران. وعندما منع ذات مرة من السفر لحضور عرض فيلمه “تاكسي” في مهرجان برلين، وضعوا له مقعدا خاليا في إشارة لا ذات مغزى، ونظمت مظاهرة احتجاج ضد السياسة الإيرانية أمام قصر المهرجان، فأصبح بالتالي “أيقونة” مهرجانية رغم تواضع مستواه الفني كثيرا، فأفلامه تنضح بالمباشرة والصراخ والمبالغة في الأداء، كما أنه كثيرا ما يصر على الظهور بنفسه في أفلامه رغم حضوره الثقيل كممثل، وعندما صنع عملا أطلق عليه “هذا ليس فيلما” وهو فيلم “بدائي” بكل المقاييس، كان من المدهش أن يعرض في مهرجان كان عام 2011.

يفترض- كما يقال لنا- أن يكون بناهي ممنوعا منذ 15 عاما بشكل رسمي من إخراج الأفلام في إيران، أي منذ عام 2011 فكيف تمكن رغم ذلك، من إخراج خمسة أفلام هي: “هذا ليس فيلما”، “ستار مغلق”، “تاكسي”، “لا يوجد دببة”، وأخيرا “كان هذا مجرد حادث بسيط” الذي حصل على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان الـ78؟

النظرية التي تتردد من داخل إيران- تقول إن هناك جناحا داخل السلطة يميل إلى المنع “رسميا” والسماح “عمليا” بالتصوير بل وبخروج الأفلام للعرض في المهرجانات والفوز بالجوائز، من أجل أن يبقى اسم إيران دائما مطروحا في الساحة العالمية على صعيد الفنون، ولو من خلال أعمال تعتبر غير مرغوب فيها بسبب ما توجهه من نقد. أي أن السلطات الإيرانية تعتمد سياسة “إحظر” و”تغاضى”، و”امنع” ثم “تساهل”، و”اسجن” ثم “اترك”، أي احظر الفيلم رسميا وهاجم صانعيه وأصدر عليهم أحكاما لكن أطلق سراحهم بسرعة، أو ضعهم تحت الإقامة، أو اجعلها أحكاما بالسجن مع وقف التنفيذ، وفي المحصلة: اترك الأفلام تُصنع وتخرج وتذهب وتعرض في الخارج!

كعكتي المفضلة

لقد صور ما أعتبره أكثر الأفلام الإيرانية شجاعة وجرأة في ضرب قواعد الرقابة الإيرانية وتجاوزها، أي فيلم “كعكتي المفضلة” (2024)، في إيران وخرج وعرض في مهرجان برلين العام الماضي، وعاد مخرجاه وبطلته إلى إيران، وصدر بحق المخرجين حكم بالحبس لمدة 18 شهرا مع وقف التنفيذ لمدة 5 سنوات. وهو نفس ما حدث من قبل مع بناهي نفسه.

أما فيلم بناهي الجديد فقد صور أيضا شأن باقي أفلامه كلها، داخل إيران. وليس من الممكن الحديث عن “تصوير سري” في دولة شمولية مثل إيران، حيث تنتشر عيون المخبرين في كل مكان لحماية ديكتاتورية نظام الملالي وشيوخ القرون الوسطى الذين يحكمون ويتحكمون في مصائر شعب من أعرق شعوب العالم بثقافته وأشعاره وفنونه البصرية وأدبه ولغته. كما تمكن بناهي من إرسال الفيلم إلى مهرجان كان، ثم الذهاب بنفسه إلى هناك والحديث ضد النظام، وقال إنه سيعود إلى إيران وإنه لا يخشى شيئا، ولا نعرف بعد ماذا سيقال له أو ماذا سيحدث، لكنه يظل “رسميا” ممنوعا من العمل!

إنه يستوحي فيلمه كما يقول، من تجربته الشخصية في الاعتقال وما تعرض له من تعذيب. ولكنه لم يصنع عملا مركبا، يكشف آليات القمع والتعذيب، وبدلا من ذلك يلجأ إلى ما يشبه المسرحيات الهزلية الساذجة التي يصنعها تلاميذ المدارس.

في البداية نرى رجلا يقود سيارة في الليل بصحبة زوجته التي تبدو في حالة حمل متقدم كثيرا، وابنته الصغيرة. السيارة تسير في الظلام في منطقة خالية تماما في طريق مقفر.. لا نعرف إلى أين تتجه هذه الأسرة. ليس هذا مهما فالتجريد جزء أساسي مما نشاهده في هذا العمل، كأقصر طريق لتوجيه الرسالة السياسية الغاضبة.

الرجل، ويدعى “إقبال”، يصطدم فجأة بجسد كلب نسمع صوته فقط وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن نراه قط. يقف إقبال السيارة. يهبط لكي يتخلص من جثة الكلب الميت بينما تشكو ابنته كثيرا وتستنكر الحادث، لكنه “مجرد حادث بسيط” كما تردد الأم. يُستأنف السير. لكن السيارة تتعطل بعد قليل في منطقة خالية شبه صحراوية لكن المدهش أننا سننتقل فجأة من عتمة الليل إلى ضوء النهار لنجد أنها بمحض الصدفة توقفت أمام ورشة لإصلاح سيارات. ولك أن تضرب كفا بكف طبعا!

يتوقف رجل على دراجة نارية بجوار سيارة إقبال، يخبره أن أقرب محطة إصلاحا سيارات على مسافة كيلومترين (لا نفهم لماذا إذا كانت هذه ورشة إصلاحات!!) ثم يعرض محاولة إصلاح السيارة في الورشة. داخل الورشة، في أعلى، هناك رجل آخر هو “وحيد”، من الواضح أنه صاحب الورشة. يتطلع من أعلى بعد أن استمع الى ما يجري في الأسفل، كما لفت نظره كثيرا على ما يبدو صوت طرقات قدم الرجل- الغريب (إقبال) على الأرضية.

هذه الثرثرة التي لا معنى لها ولا تفيد في بناء شيء سوى أنها توحي بأننا مقبلين على مشاهدة أحد أفلام الإثارة البوليسية، تستغرق نحو عشرين دقيقة من زمن الفيلم دون أن نعرف ما هو الموضوع.. عن أي شيء يبحث “وحيد” ذلك “الميكانيكي” البسيط الذي لا يبدو عليه أنه يمكن أن يتمتع بأي ثقافة سياسية تجعله يتخذ أصلا موقفا معارضا من النظام. لكن هذا ما يريد لنا جعفر بناهي أن نفهم.

يهبط “وحيد” ويتسلل ويقود نصف شاحنة، ويتوقف فجأة أمام رجل، غالبا سيصبح هو إقبال نفسه الذي كان يملأ خزان وقود السيارة التي تم إصلاح عطلها، ثم يختطفه ويضعه بالقوة داخل الشاحنة الصغيرة، ويقيده داخل صندوق خشبي. لقد تعرف فيه على الرجل الذي كان يعذبه في السجن، لكن صاحبنا هذا ينكر ويصر على أن وحيد مخطيء، وأنه لا شأن له بالسجون والتعذيب، وأنه رجل مسكين فقد ساقه حديثا وأصبح يستخدم ساقا اصطناعية يكشف عنها لوحيد.. إلى آخر ما يمكنك تصوره في حوار يتكرر ويعاد ويزاد ويستمر طويلا من جانب وحيد وباقي الشخصيات التي ستظهر تباعا، في اختبار حقيقي لصبر المتفرج.

يسقط في يد وحيد. هل يمكن أن يكون مخطئا؟ ولكي يتأكد يجب أن يبحث عمن يمكنه تأكيد هوية الرجل قبل أن يقتص منه، لذا فهو يذهب الى صاحب مكتبة كان معتقلا معه، لكنه يرفض أن يساعده وبدلا من ذلك يدله على معتقلة سابقة هي المصورة الفوتوغرافية “شيفا”، فيجدها مشغولة في التقاط صور لما قبل الزفاف لعروسين شابين هما “جولي” وعريسها المنتظر “علي”. وبينما تبدو شيفا أيضا مترددة بعض الشيء، يظهر فجأة شاب آخر يدعى “حميد” يصبح أكثر الجميع تطرفا ورغبة في الفتك بالرجل الأسير، فهو واثق كل الثقة من هويته، لكن الآخرين مترددون في إنزال حكم الإعدام به.

من هنا يصبح الفيلم مجرد حالة من المناقشات العاصفة، والصراخ الهستيري، والشجار، والمناقشات، والخلاف فيما بين الجميع، وفي محاولة للتأكد من هوية الرجل تذهب شيفا مع وحيد الى عنوان بيته فيجذان زوجته على وشك الوضع فينقلانها الى المستشفى حيث تضع ابنا، وفي الطريق يصور بناهي كيف أصبح التحرك في المدينة مستحيلا من دون دفع الرشوة، سواء للعاملين في المستشفى، أو حتى لرجال الأمن الذين يجعلون الأمر سهلا على “الزبائن”، فمقابل التغاضي عن تفتيش الشاحنة وبالتالي الكشف عما فيها من “مشكلة”، فهم يقبلون دفع بواسطة آلة الدفع الفوري باللمس التي يحتفظون بها معهم في الطريق!

لكن أن تتخيل بالطبع كيف يسير فيلم على هذا النحو، في بنائه وتكوينه واستخفافه بعقلية المشاهد، لكن مخرجه واثق أن فيلمه مضمون مقدما، باعتباره نتاجا لمناضل ثوري مناهض لنظام ديكتاتوري يريد الغرب التخلص منه، أي أن دعم الفيلم حتى من قبل مشاهدته وضمان ضمه الى مسابقة أكبر مهرجان سينمائي في العالم، أمر مفروغ منه ومقدر سلفا، فهذا ما يتسق مع “الصوابية السياسية” طبقا لمقاييس نقاد الغرب!

بناهي وفريق فيلمه في كان

في محاولة من جانب بناهي لمليء الفراغ الذي تعاني منه “الحبكة” إن جاز أن هناك حبكة من الأصل، ينتقل بين آونة وأخرى، لإشاعة بعض الفكاهة الغليظة، فعندما تتعطل الشاحنة الصغيرة، التي يحتجز في داخلها ذلك “الجلاد” المحتمل يهبط الجميع بما في ذلك “جيلي” في ملابس العروس لتشترك معهم في دفع السيارة. وعندما يجلس وحيد مع “شيفا” يناقشان الأمر بجوار شجرة عجفاء في الصحراء، يشير للفتاة بأن الشجرة شبيهة بالشجرة في مسرحية “في انتظار جودو”، والمشاهد لن يهتم بالطبع بالتساؤل عن علاق هذا الميكانيكي البسيط بمسرح بيكيت، لكن هذا بناهي نفسه يسعى لإرضاء “المركزية الأوربية”، ويقول للأوروبيين إنه على إطلاع بمسرح العبث، وبأن فيلمه يمكن أن يقارن أيضا بهذا النوع من المسرح!

بالطبع، أراد بناهي أن يتوقف أمام ذلك المأزق الأخلاقي، وأن يطرح بعض التساؤلات حول تعقيدات العلاقة بين المعِذب والمعَذب، أي من مارس التعذيب ومن مورس عليه التعذيب. هل يمكن أن يصبح الضحية جلادا يمارس نفس ما كان يمارسه عليه الجلاد؟ سؤال يمكنك أن تتكهن مسبقا بالإجابة عنه، والفيلم يجيب بالفعل ويكتفي بتلقين الجلاد درسا، وتلقين المشاهد درسا آخر، في احتمال مثل هذا النوع من أفلام الرسالة السياسية- الأخلاقية المباشرة الساذجة، بغض النظر عن فراغه من الإبداع، وخلوه من الطموح الفني، ومن الخيال المركب البديع الذي يضمن بقاءه في الذاكرة. فهو في رأيي- يظل عملا صغيرا سيذهب طي النسيان، رغم “السعفة الذهبية” وغيرها من السعفات والنخلات!