السرد التقليدي يطغى على أفلام مهرجان فينيسيا
مازال جميع الحاضرين من النقاد وهواة السينما الرفيعة في الدورة الـ 73 لمهرجان فينيسيا السينمائي، في انتظار ظهور “التحفة” السينمائية التي تلقى الإجماع وهو ما يحدث عادة في فينيسيا، غير أن “الأسد الذهبي”، أي الجائزة الأرفع شأنا من بين جوائز المهرجان، تظل مسألة أخرى، فقد لا تذهب بالضرورة إلى الفيلم “الأفضل” من وجهة نظر النقاد وخبراء السينما، بل تخضع عادة لحسابات أخرى، وتأتي في النهاية لكي تعكس محصلة صراع آراء تسعة أشخاص هم أعضاء لجنة التحكيم الدولية التي تمنح الجوائز.
المسابقة الرئيسية للمهرجان التي تشمل 20 فيلما طويلا من بينها فيلمان تسجيليان، تتضمن عددا من أفلام المخرجين المرموقين مثل فيم فيندرز وتيرنس ماليك وأمير كوستوريتشا وأندريه كونتشالوفسكي وبابلو لارين وفرنسوا أوزون ولاف دياز. وقد شاهدنا حتى الآن فيلم فيم فيندرز “الأيام الجميلة لأرانجويه”، وفيلم فرنسوا أوزون “فرانتز”.
المسرح المصور
فيندرز صاحب الرؤية السينمائية التي تجنح نحو التأمل في المصير الإنساني (أشهر أفلامه “باريس- تكساس”)، يبدو أنه قد أصبح يميل إلى حالة “السكون السينمائي”،التي تنتاب الكثير من المخرجين بعد أن يكونوا قر أفرغوا كل ما عندهم، وأصبحوا يميلون بعد أن يتقدم بهم العمر، لمعالجة مواضيع مجردة من خلال أشكال تجريدية تعتمد على الحوار، فهو يقتبس فيلمه الجديد “الأيام الجميلة لأرانجويه” من مسرحية الكاتب الألماني بيترهانديكه، تدور في الزمن الطبيعي، أي أكثر قليلا من ساعة ونصف السعة، في مشهد واحد، حيث يجلس رجل وامرأة تجاوزا منتصف العمر، على مقعدين بحديقة منزل في أحد أيام الصيف، يسترجعان معا عن طريق الحوار، والحوار فقط، ذكرياتهما عن الحب، دون أن يتبادلا حتى النظرات، فهما لا يواجهان بعضهما البعض بل يتطلعان إلى الأفق في شكل أقرب إلى “المونولوج” الطويل الممتد بطول الفيلم، دون أن يحاول فيندرز الخروج بالكاميرا من الفضاء المحدود للمشهد- الفيلم.
فيندرز الذي تجاوز السبعين، يبدو أنه يشعر بوطأة السنين، فيركن إلى “التأمل” راغبا في استرجاع الماضي، ويجد نفسه فنيا، أقرب إلى لغة المسرح المصور، الذي يعتمد بالكامل على الحوار، والأداء التمثيلي، وهي نفس الحالة التي “أصابت” من قبل المخرج الفرنسي الراحل آلان رينيه في سنواته الأخيرة، فأصبح يخرج أفلاما أقرب إلى المسرح رغم كونه المخرج الذي أشعل شعلى السينما الجديدة في العالم عندما قدم في أوائل الستينات السينما الأكثر طليعية و”سينمائية” في عالم “الموجة الجديدة” الفرنسية وهو فيلم “العام الماضي في مارينباد”.
يعتمد فيندرز هنا على أداء الممثل الجزائري الأصل رضا كاتب، والممثلة الفرنسية صوفي سيمين، لكي يقول لنا عبر أكثر من 90 دقيقة إن الحب لا يخلو من الألم، بل إن كله ألم، وأن الفراق يحدث لا محالة مهما حاول المرء أن يمنعه، ولكن طعم الحب يبقى عالقا في القلب وفي الذاكرة.
بعد حوار متصل لا ينقطع تحلق طائرة هليكوبتر في الجو دون أن نعرف بالضبط دورها لكنها تقطع تدفق حديثي الرجل والمرأة، وتجعل المرأة تهتف ربما على سبيل السخرية أو المجاز الساخر: كله حوار.. ولا حركة!
ردم الماضي
المخرج الفرنسي فرنسوا أوزون يعود إلى زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى (التي انتهت عام 1918) ليعيد (مع بعض التصرف) رواية قصة سبق أن قدمها المخرج الأميركي إرنست لوبيتش عام 1932 في فيلم بعنوان “التهويدة المكسورة” (عن مسرحية “الرجل الذي قتلته” للكاتب الفرنسي موريس روستان)، بطلها شاب فرنسي يدعى في الفيلم الجديد “أدريان”، يذهب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة إلى بلدة ألمانية (أي يسير إلى “الأعداء”) لكي ليضع الزهور على قبر شاب ألماني يدعى فرانتز، لقي مصرعه في إحدى المعارك بين الجيشين الفرنسي والألماني، وهناك تلمحه خطيبة الجندي الألماني القتيل “أنا”، التي أصبحت تقيم منذ تلقي خبر وفاته، مع والدي خطيبها الراحل “فرانتز” للتسرية عنهما.
أدريان، متردد خجول، نحيل، زائغ النظرات، ناعم كالماء، مرهف كصبية بريئة، يخفي شيئا لا يريد أن يبوح به. وعندما يطرق باب منزل أسرة فرانتز ويعرف الأب أنه فرنسي، يرفض استقباله ويطرده، فهو يعتبر الفرنسيين جميعا مسؤولين عن قتل ابنه، لكنه بعد أن يسمع من أنا أن الشاب الفرنسي جاء لتقديم العزاء وأنه كان صديقا حميما لفرانتز أثناء دراسته في باريس قبل الحرب، يقتنع بالاستماع إلى قصته، ويقص أدريان على الأسرة كيف كان يتجول مع فرانتز ف يمتحف اللوفر ويتوقفان بوجه خاص أمام إحدى لوحات الفنان إدوار مانيه، وكيف كان يقوم بتعليم فرانتز العزف على الكمان.
أدريان المتردد الخجول الذي يبدو انطوائيا، لا يقبل ما تبديه “أنا” الجميلة نحوه من مشاعر، بل يبدو منسحبا مبتعدا عنها بما يوحي لكل من يشاه النصف الأول من الفيلم بأنه “مثلي الجنس”، وربما يكون أيضا يهوديا بحكم منظر وجهه وتكوينه وأنفه (الممثل الذي يقوم بالدور “ببير نيني” يهودي فرنسي)، وتوحي تصرفاته وتردده في الاعتراف لأنا بالحقيقة، أنه ربما كان على علاقة حب بخطيبها الراحل فرانتز، أي أن فرانتز نفسه كان “مثليا”.
وربما لو سار الفيلم في هذا الاتجاه لأصبحنا أمام عمل ذي أبعادا كبيرة ودراما أكثر عمقا، خاصة وأن الأحداث تدور في معظمها في ألمانيا وقت بدايات تصاعد المشاعر الوطنية الألمانية، والفيلم يصور بالفعل هذه الأجواء. إلا أنه ليس من الممكن بالطبع افتراض ما لا يوجد بالفيلم نفسه بل يجب أن يتركز تحليلنا له بما يحتويه فعلا، فما سيحدث هو أننا سنعرف أن أدريان كذب على أسرة فرانتز، وأنه لم يكن صديقا له ولم يتردد معه على اللوفر، بل كان في الحقيقة- كما يعترف لأنا- هو الجندي الذي قتله عندما تواجها داخل خندق أثناء الحرب، وأنه يشعر بالذنب ويريد التكفير عن ذنبه، وهي قصة ليس من الممكن ابتلاعها بالطبع لأنها مصنوعة صنعا للتباكي على ما يتورط فيه الشباب البرئ من أعمال عنف وقتل في سياق سينمائي مليئ بالاستطرادات والمواقف الميلودرامية من خلال سرد تقليدي.
“أنا” لا تخبر أسرة فرانتز بالحقيق التي أطلعها عليها أدريان، بل تدعهم يعتقدون أن أدريان كان صديقا مخلصا لفرانتز وكان يشاركه دراسة الموسيقى والعزف على الكمان في باريس، ولكنها في الوقت نفسه تجد نفسها مشدودة عاطفيا الى أدريان الذي يصبح بديلا لها في الحب كما أصبح ابنا بديلا لأسرة فرانتز، بل إ‘نها ستذهب الى باريس للبحث عنه، لتجد أنه مرتبط بفتاة هي قريبة له وأنه سيتزوجها، وما يتبع هذا من شعور بالغيرة والاحباط، في حين يبدو أدريان نفسه لا مباليا، لا بأنا ولا بالفتاة الأخرى الفرنسية!
الفيلم يكرر نفس الرسالة القديمة المستهلكة المناهضة للحرب والداعية للسلام بين الشعوب الأوروبية (بل بين فرنسا وألمانيا تحديدا)، والتأكيد على أن لا أحد ينتصر في الحرب بل يتساوى الجميع في الخسارة، وكما فقد الألمان أبناءهم في الحرب، فقد الفرنسيون أيضا الكثير من أبنائهم. ولعل الاكتشاف الحقيقي في الفيلم هو ذلك الأداء المبهر للممثلة الألمانية الشابة “بولا بير” (21 سنة) التي ستصبح دون شك، إحدى نجمات المستقبل في السينما الأوروبية.
هناك بعض المشاهد التي يعود فيها المخرج الى الماضي، حينما نشاهد لقاءات فرانتز بأدريان الخيالية في باريس، ولكن الفيلم يسير كما أشرت في سياق تقليدي في السرد، مع لمحات بارزة في التصوير بالأبيض ةالسود مع الانتقال أحيانا إلى الألوان في مشاهد الماضي المتخيلة، أو للتعبير عن مشاعر “أنا” العاطفية التي تكتمها. ورغم الأسلوبية المتميزة في الفيلم كعادة افلام أوزون إلا أنه ليس من المتوقع أن يترك الفيلم تأثيرا على الجمهور العريض بسبب تكرار الرسالة، وتقليدية القصة، وسخف الكثير من تداعياتها.
السرد التقليدي
الأسلوب التقليدي في البناء والسرد يسيطر على معظم ما شاهدناه حتى الآن من أفلام، بل ويعتمد كثير منها على أصول أدبية (مسرح أو رواية)، أو “على قصة حقيقية”. كان الطابع التقليدي في السرد واضحا على سبيل المثال في فيلم “ضوء بين المحيطات” للمخرج الأميركي ديريك سيانفرانس، وهو من الإنتاج الاسترالي الأميركي النيوزيلندي، ومثله مثل الفيلم السابق، مأخوذ أيضا عن رواية أدبية تدور في الفترة اللاحقة للحرب العالمية الأولى.
بطل الفيلم شاب يدعى “توم” (يقوم بالدور ببراعة مايكل فاسبندر) استرالي، خدم بلاده في الحرب العالمية الأولى وشهد الكثير من القتلى، وقد عاد إلى بلاده حيث تم تكريمه كبطل من أبطال الحرب، ثم حصل على وظيفة حارس في منارة بحرية في جزيرة “جانوس”، بنا ءعلى رغبته في اعتزال العالم. هل نحن أمام قصة شبيهة بقصة الفيلم المصري “زوجتي والكلب” لسعيد مرزوق؟ ليس تماما.
هناك ملامح مشتركة تتعلق بالوحدة، بالرغبة في اعتزال الدنيا والبشر، والتأمل وحيدا داخل تلك الصومعة التي تشرف على الأفق المفتوح على المحيط. ولكن الوقت لا يطول قبل أن يجد توم نفسه متعلقا بفتاة جميلة مرحة، تبدو أكثر منه قدرة على التعبير عن مشاعرها، هي “إيزابيل” (تقوم بالدور ببراعتها المعتادة السويدية ذات الملامح الشرقية أليسيا فيكاندر).
يتزوج توم إيزابيل ابنة العائلة المحترمة التي تنتقل للعيش معه في منزل ريفي بسيط حيث تعمل وتتحمل المشاق من أجل أن تجعله سعيدا، ثم تحمل منه ولكنها تفقد الجنين بالإجهاض، ومرة ثانية تحمل ثم تتعرض ثم تفقد الجنين. وذات يوم يلمح توم من موقعه في المنارة مركبا يتهادى نحو الشاطئ فيهرع إليه ليجد بداخله شاب ميت وطفلة رضيعة يحملها كأنها هدية السماء أرسلها الرب إلى زوجته التي تتطلع بلهفة للإنجاب.
يقوم توم بدفن جثة الشاب الميت على مرأى من إيزابيل، ثم يتبنى الاثنان الطفلة ويطلقان عليها “لوسي” التي تصبح ابنة لهما. وتمر الأيام، ليكتشف توم أن هناك سيدة حزينة هي “هانا” (راشيل وايتز) ابنة رجل شديد الثراء هو الذي كان قد أنفق من ماله على إنشاء المنارة، وأن هانا فقدت زوجها الألماني الذي تزوجته على غير رغبة أسرتها، بعد أن تعرض لاضطهاد عنصري من جانب شباب البلدة القريبة بسبب كزنه ألمانياً، واضطر للفرار مع ابنته الوليدة لكنه اختفى منذ ذلك الحين. ويدرك توم على الفور أن “لوسي” ليست سوى ابنة هانا التي تتعذب بسبب فقدانها.
منذ تلك اللحظة يبدأ الشعور الأخلاقي (المسيحي) بالذنب عند توم، الذي يرغب في التكفير عن الذنب، فهل يرد الابنة الى أمها ويتسبب بالتالي في تدمير زوجته التي أصبحت تعتبر سالي ابنتها بعد أن كبرت البنت واصبحت في الرابعة من عمرها، خاصة وأن سالي متعلقة كثيرا بايزابيل؟ أم يصمت ويتستر على ما أخفاه، ليستمر يعيش تحت وطأة تهذيب الضمير، وتستمر هانا في عذابها؟
هذا هو السؤال الأخلاقي الذي يطرحه الفيلم من خلال ميلودراما أخرى تلعب على المشاعر والتداعيات التي تترتب على هذا الصراع الداخلي، وما ينتج بعد ذلك عندما تصبح الحقيقة ظاهرة وتعود سالي إلى أمها الحقيقية (رغما عنها)، ومع تكرار رفض لوسي (واسمها الأصلي غريس) يطرح التساؤل: من الأحق والأولى بالابنة: الأم الحقيقية التي لا تشعر الطفلة تجاهها بأي مشاعر بل تجدها غريبة عنها؟ أم الأم التي تبنتها وأنقذتها من الموت هي وزوجها وتولت تربيتها حتى أصبحت طفلة جميلة تفور بالحيوية وبالجمال والذكاء؟
لاشك في جمال التصوير ونجاح المخرج في استغلال كل إمكانيات الطبيعة والمكان، مع التحكم في المونتاج بحيث جاء الفيلم على كل هذا النحو من الرونق وجمال الصورة. ويجمع الفيلم بين الميلودراما والفيلم البوليسي المشوق، ولعل من أبرز ما يمنحه قوته الأداء التمثيلي من جانب البطلين: مايكل فاسبندر الذي يلعب هنا دورا جديدا عليه، يتدرج من شاب يشعر بوطأة الحياة وقسوتها بعد أن مر بتجربة القتل الجماعي في الحرب، إلى زوج مسؤول يحب زوجته ولا يطيق أن يراها تتعذب، إلى رجل يقبع وراء القضبان في انتظار الإعدام بتهمة قتل لم يرتكبها. كما تتألق أليسيا فيكاندر في دور ايزابيل، التي تتعذب رغبة في الانجاب لكي تملأ حياتها الفارغة في تلك المنطقة المعزولة، وعندما يتحقق حلمها ولو بتلك الطريقة التي تعتبرتها هدية من السماء سرعان ما تحل اللعنة عليها وتواجه مع زوجها مصيرا مأساويا.
وفي جعبة مهرجان فينيسيا أفلام كثيرة ومفاجآت لا شك فيها.