“الساكن” هيتشكوك يبحث عن القاتل
فصل من كتاب “كلاسيكيات السينما العالمية”
لم يكن فيلم “الساكن” The Lodger (1926) أول أفلام المخرج البريطاني الفريد هيتشكوك بل كان في الحقيقة ثالث أفلامه، وقد أخرجه في بلده، وصوره تحديدا في ستديو غاينسبرغ الشهير في شمال شرق لندن، إلا أنه كان أول أفلامه التي حققت نجاحا كبيرا في عصر السينما الصامتة، كما أنه أول فيلم من نوع أفلام الجريمة والإثارة، التي يخرجها هيتشكوك والتي ستصبغ فيما بعد، مسيرة المخرج الكبير حتى وفاته عام 1980. وقد اعتبره هو أول أفلامه في حواره مع المخرج الفرنسي فرانسوا تريفو (نشر في كتاب صدر عام 1984).
بفضل التنكولوجيا الرقمية الحديثة، تمكن معهد الفيلم البريطاني عام 2012 من إنقاذ هذا الفيلم من الضياع، واستعادته وطبع نسخة جديدة رقمية جيدة جدا منه على أسطوانات “البلو راي”، تقع في 90 دقيقة، وهو إنجاز أعاد إلى الحياة هذا الأثر التاريخي الذي لم يكن يتوفر منه سوى نسخة رديئة مليئة بالخدوش تنقص حوالي 9 دقائق عن النسخة الأصلية، تصحبها موسيقى البيانو المنفرد. أما النسخة الجديدة فأضيفت إلى بعض مقاطعها نغمات لونية: الأزرق والبني مع الأبيض والأسود بالطبع، والموسيقى الكلاسيكية التي كتبت للفيلم بشكل خاص قدمتها “أوركسترا مونت ألتو” المتخصصة في موسيقى الأفلام الصامتة والتي أنتجت حتى الآن الموسيقى لـ125 فيلما صامتا. وليس من الممكن مشاهدة الفيلم من دون الموسيقى بالطبع، فهي ترتبط بإيقاع الفيلم اللاهث، تصعد في لحظات الترقب والقلق، ثم تنساب في نعومة في المشاهد الرومانسية.
ينتمي هذا الفيلم الصامت إلى السينما “الخالصة” pure cinema التي تعتمد في وصف أجواء المكان والشخصيات والعلاقة فيما بينها، ورواية القصة، على استخدام تفاصيل الصورة والمونتاج ومصادر الإضاءة بحيث تضفي جوا خاصا على الصورة مع الإيقاع والموسيقى والتقاط كل التفاصيل الصغيرة التي تساهم في خلق “الجو النفسي” للقصة. أول هذه التفاصيل هو هذا الضباب الذي يغلف جميع المشاهد الخارجية أي تلك التي يفترض أنها تجري في شوارع مدينة لندن، خاصة وأن الفيلم يحمل عنوانا فرعيا هو “قصة شباب لندن”. فالضباب هنا جزء أصيل من الموضوع، الذي يدور حول التشكك، الجريمة الغامضة، الخوف من الغريب، سوء الفهم الذي يؤدي إلى الظلم واضطهاد الأبرياء، والغيرة المدمرة، والماضي الذي يكشف عقدة الحاضر. وكلها مفردات ستتكرر في أفلام هيتشكوك التالية.
الفيلم مقتبس بتصرف، عن رواية ماري بيلوك لوندرز (1868- 1947) المستلهمة من جرائم سفاح النساء اللندني الشهير الذي أشاع الرعب في شرق المدينة في ثمانينات القرن التاسع عشر وعرف باسم “جاك ذا ريبر” Jack the Ripper
ورغم الأصل الأدبي للفيلم إلا أن هيتشكوك يستخدم المادة الأدبية، ويحولها إلى لغة سينمائية خالصة. فالمشهد الأول مثلا، يتكون من عدة لقطات منفصلة، معظمها لقطات قريبة للوجوه، تعكس حالة الفزع والخوف بعد وقوع جريمة القتل، مما يدفع المارة إلى التجمع حول جثة امرأة شابة شقراء تتمدد وسط الطريق، ثم نرى وجه امرأة تصرخ في فزع، شرطي يدون في كراسة صغيرة، صحفي يكتب في مفكرته، امرأة تشير للشرطي إلى الجثة، الشرطي يميل ليفحص الجثة، يعثر على ورقة ملقاة فوقها عليها رسم مثلث وكلمة “المنتقم”. يبتعد الحشد. يتجه البعض الى حانة ومعهم الشرطي الذي يناول المرأة التي شاهدت وقوع الجريمة كوبا من الماء بعد أن كاد يغمى عليها. أما الصحفي فنراه يملي على صحيفته عبر الهاتف الموجود في الحانة، من تفاصيل الحادث التي دونها في مفكرته. المرأة تصف للشرطي والساقي أنها رأت القاتل وهو شاب طويل كان يلف وجهه. ينتشر الخبر عبر وسائل الاتصال التي كانت متوفرة، الصحف والراديو والتليغراف. ونعرف إنها الجريمة السابعة التي يرتكبها القاتل.
يعرض هيتشكوك في إيقاع سريع متدفق، كيف تتم صناعة الصحف، ثم تجميعها في حزم ونقلها وتوزيعها، ثم انطلاق سيارات الشرطة بحثا عن الجاني، وباعة الصحف والناس يتجمعون حولهم لشراء الصحف، وتظهر لوحة إن الجريمة تقع دائما مساء الثلاثاء. هذا جزء شبه تسجيلي، يضعنا في قلب الحدث مباشرة من خلال إيقاع لاهث. لا يوجد حوار ولا لوحات كثيرة تقطع الصور. شوارع لندن يغلفها الضباب، والصور شاحبة توحي بالبرودة والقشعريرة. والناس يهرولون، والكلمات المرسومة بأضواء النيون تصف تفاصيل وقوع الجريمة وتقول أن القاتل يختار دائما النساء الشقراوات.
شخصيات الفيلم قليلة ومحددة للغاية، 4 شخصيات، أولها “ديزي” عارضة الأزياء التي تعمل في أحد محلات الملابس. وهي تقيم مع والديها في منزل يؤجرون إحدى غرفه. وديزي “شقراء” جميلة، وبالتالي يذهب خيال المتفرج إلى أنها قد تصبح هدفا للقاتل. وديزي صديقة مفتش الشرطة “جو”. وهو ينتظرها في منزل والديها. فجأة يطرق أحدهم باب المنزل. تفتح الأم. يقف شبح وسط الضباب في لقطة تبدو من بعيد. شبح الرجل يخفي النصف الأسفل من وجهه بكوفية سوداء. الأم تتطلع إليه في فزع. أما هو فيقف كأنه قادم من عالم الأموات. لقد جاء لكي يستأجر الغرفة المعلن عنها في المنزل. هنا يستخدم هيتشكوك الإضاءة ليجعلنا نشعر أن هذا الغريب القادم من الخارج، من المجهول، أقرب ما يكون إلى “زومبي” أو جثة متحركة. فهو فاقد الحياة والحركة، يكتفي بالتطلع إلى ربة الدار في صمت. وعندما يتصاعد الضوء في مصباح الغاز المواجه له داخل ردهة المنزل، ثم ينعكس الضوء على وجهه، يجفل ويرتعد وكأنه يخشى الضوء. إنه يذكرنا بشخصيات الأفلام التعبيرية الألمانية: شحوب الوجه، الكحل الأسود حول العينين، طول القامة، البشرة الداكنة، العينون الميتة، الحركة المحسوبة البطيئة.. نظرات التشكك والقلق. هذا الطابع التعبيري سيتجسد في الفيلم فيما بعد في الديكورات المائلة، والثريا المعلقة التي تهتز في سقف غرفة المعيشة والتي تهتز لتجعلنا نشعر بحالة القلق التي تدفع “الساكن” في الغرفة العلوية، إلى السير في توتر فيطرق أرضية الغرفة. ويبتكر هيتشكوك لقطة فريدة عندما يجعل سقف غرفة المعيشة زجاجيا يمكننا أن نرى من خلاله “الساكن” الغريب وهو يسير في توتر وقلق. ويمكن اعتبار هذه اللقطة التي تتكرر أكثر من مرة، من اللقطات “السيريالية” بالطبع. وسوف تتضح في الكثير من أفلام هيتشكوك التالية، في مرحلة النضج الفني، الكثير من المؤثرات السيريالية. ويجب ألا ننسى أن هيتشكوك كان في السابعة والعشرين من عمره وهو يصور فيلم “الساكن”. وقد صُور الفيلم عام 1926 إلا أن عرضه الأول في لندن جاء في فبراير 1927.
يجب أن نشير أيضا إلى أن هيتشكوك كان في تلك الفترة متأثرا بالتعبيرية الألمانية، بعد أن قضى فترة عمل في ألمانيا، فقد كان الفيلمين السابقين اللذين أخرجهما من الإنتاج المشترك مع ألمانيا. وقد اعترف هو لفرانسوا تريفو بأنه تأثر في “الساكن” بالتعبيرية. ولكنه سيعود ليعكس تأثيرها عليه في أفلامه التالية الشهيرة مثل “إني أعترف” و”الشك” و”دوار” ( Vertigo). إنها تتبدى في “الساكن” أيضا من خلال التناقض الحاد بين الكتلة والفراغ، وبين الظل والنور داخل الكادر الواحد، وكثرة الظلال والإضاءة الخافتة والأسقف المنخفضة وتعبيرات الوجوه المبالغ فيها لشخصيات تشعر بالفزع، أو بالتهديد.
بعد وصول الرجل الغريب الشاحب الصامت (يقوم بالدور ببراعة الممثل المسرحي الشهير الذي عرف باسم “إيفور نوفيللو”- أو ديفيد إيفور ديفيز)، يظل المتفرج يتساءل طول الوقت: ما الذي يحدث؟ من يكون هذا الرجل؟ هل هو القاتل؟ لماذا يحدق هكذا في شعر ديزي الأشقر؟ لماذا يقفز هكذا ويقف ليسد باب الحجرة أمام ديزي ثم مرة ثانية أمام أمها قبل أن يفتح الباب ويسمح لها بالخروج؟ إن كان هو القاتل فمتى يقتل ديزي؟ وهل سيعثر ضابط الشرطة “جو” على ما يدينه في حقيبته التي أخفاها في درج وأغلق عليها بالمفتاح؟ ولماذا يحتفظ في حقيبته بهذا المسدس الذي يعثر عليه “جو” بعد أن قام بتفتيش الحقيبة؟ وما هذه الصورة التي يحتفظ بها لامرأة شقراء؟ هل هي ضحيته الأولى؟
يرفع هيتشكوك من وتيرة الشك عندما يجعل الغريب يذهب ليشاهد ديزي في أحد عروض الأزياء، يتأملها من بعيد شارد الذهن، وهو يدخن غليونه في صمت، دون أن تنم نظراته عن شيء. وهو يتجاهل تماما امرأة جلست بجواره تحاول لفت أنظاره إليها. ثم نراه في المساء وهو يتسلل في هدوء وحرص شديدين ليغادر المنزل. تزيد شكوك والدة ديزي فيه ربما بفضل ما يغذيه الضابط “جو” من مشاعر مناهضة للغريب بسبب شعوره بالغيرة منه بعد أن نجح في جذب اهتمام ديزي بعيدا عنه. تتسلل الأم وتصعد وتدخل غرفة الرجل. تفتش علها تعثر على شيء يكشف حقيقته. تجد درجا مغلقا تحاول فتحه دون جدوى. وبينما هي لاتزال في الحجرة يعود الغريب. يدير المفتاح في ثقب الباب، يصعد السلم الداخلي، تهرع الأم لكي تعود إلى غرفتها وتدلف إلى فراشها في اللحظة الأخيرة قبل أن يضبطها في حجرته.
في مشهد آخر نرى الرجل الغريب، الذي لا يفتقد إلى الوسامة والسحر الغامض، يتسلل في بطء نحو غرفة الاستحمام بينما تكون ديزي قد تجردت من ملابسها لتستحم. هو لا يطرق الباب، لكنه يدير مقبضه ويحاول فتحه. أما ديزي فلا تسمع شيئا لأنها مستغرقة في الغناء داخل البانيو مستمتعة بالماء الذي يغمر جسدها. الباب مقفل من الداخل. وعندما يطرق الباب أخيرا تنتبه. يسألها هو من الخارج: أرجو ألا تكوني غاضبة مني بسبب ذلك الفستان؟ والدك يرى أنك لا يجب أن تخرجي معي؟ لكن “ديزي لا تهتم”- كما تخبرنا اللوحة التي تظهر على الشاشة، بل تضحك وترفض الفكرة. كان هو قد أهداها فستانا أعاده إليه والدها في مشهد سابق، غاضبا من سلوكه. فسحب الشك تتجمع حوله، والجميع يخشون أن يكون هو القاتل السفاح.
وهكذا يُبقي هيتشكوك على المتفرج متوترا في مقعده، يتساءل عن الخطوة التالية، ولكنه يتلاعب بالحبكة، مرة ومرات، يبتعد بنا عما نتوقعه، ويدخلنا إلى منطقة جديدة تجعل الأمر يصبح أكثر غموضا.
“ديزي” تنجذب إلى الرجل الغريب الذي يعاملها برقة رومانسية، على العكس من “جو” الذي يبدو فظا غليظا، وهو ما يثير غيرة جو بالطبع، ويتصور أن هذا الغريب لابد أن يكون هو القاتل، خصوصا وأننا نتوقع أيضا أن يكون هو القاتل بحكم جميع الملابسات الغامضة التي صورها لنا هيتشكوك، فهو يغادر المنزل في المساء ولا يعود سوى ليلا بعد أن تكون جريمة قتل أخرى قد وقعت في الخارح، ثم يتسلل إلى غرفته ليخفي حقيبته الصغيرة. ومع ذلك تبدو “ديزي” منجذبة إليه أكثر فأكثر، حتى تبعد أن يهرب من الشرطة وهو مكبل اليدين، فهي موقنة ببراءته، وستعرف منه الحقيقة كاملة بعد أن تهرع خلفه وتستمع إلى قصته.
على العكس مما كان متوقعا يتضح في النهاية أنه ليس القاتل الذي تبحث عنه الشرطة، وأن لديه مأساة شخصية هي التي جعلته حزينا صامتا هكذا، بل وكان يسعى أيضا وراء ذلك القاتل المتسلسل لاعتقاده أنه هو الذي قتل شقيقته الجميلة الشقراء التي يحمل صورتها معه، كما تسبب في موت أمه المريضة من الحسرة والأسى والحزن على وفاة ابنتها. وأما قصاصات الصحف التي جمعها في حقيبته الصغيرة فكانت بدافع تعقب القاتل وجمع أخباره، وكذلك الخريطة التي توضح الأماكن التي ارتكب فيها السفاح جرائمه. ولكن براءة الغريب لا تتضح سوى في النهاية فقط، فنحن نتصور معظم الوقت أنه لابد أن يكون هو القاتل ولابد ان جريمة أخرى بشعة ستقع لديزي، ونتوقع حدوثها على غرار جريمة القتل في فيلم “سايكو”، أي في مشهد الحمام.
قد تكون نهاية غير متوقعة لكن الجمهور تقبلها وأعجب كثيرا بالفيلم، فقد جعلته يشعر بالارتياح لأن ديزي لم تُقتل، وخاب مسعى جو بعد أن اتضح أنه كان يطارد رجلا بريئا، وارتاح والدا ديزي لكون “الساكن” لم يكن “جاك السفاح”. ولكن هل كان هذا هو اختيار هيتشكوك من البداية؟
المعلومات المتوفرة حول هذه النهاية تكشف أن هيتشكوك كان قد استقر أصلا على السيناريو الذي كتبه إليوت ستانارد، والذي ينتهي بأن نعرف أن الرجل الغريب هو القاتل، إلا أنه اضطر تحت ضغط الاستديو الذي أنتج الفيلم إلى تغيير- ليس فقط نهاية الفيلم وجعلها نهاية سعيدة حتى يضمن نجاح الفيلم- بل وأيضا، إضافة الكثير من المشاهد التي تمهد أو بالأحرى- تشرح وتبرر تلك النهاية، وكلها مشاهد تدور في الماضي (فلاش باك) تصور المأساة الشخصية لهذا الرجل الغريب وما تعرض له (مقتل شقيقته مصرع أمه.. وغير ذلك). وهي مشاهد تمت كتابتها أثناء الإنتاج. وتذكر بعض المصادر أيضا أن الممثل إيفان نوفيللو الذي قام بدور الغريب، اعترض على النهاية لأنه لم يشأ القيام بدور السفاح، وأصر على تغيير نهاية الفيلم حتى لا يفقد شعبيته، وكان في ذلك الوقت نجما مشهورا في الراديو والمسرح، ومؤلفا موسيقيا مرموقا كتب أعمالا ترقى إلى مستوى الأوبرا.
أما مونتاج الفيلم الذي يقوم على الإيقاع السريع وبناء المشاهد الأولى والمشاهد الخارجية عموما من لقطات منفصلة، فهو يرجع إلى إيفور مونتاجيو أحد أشهر الشخصيات السينمائية في تاريخ السينما البريطانية. فقد عمل كمخرج ومنتج ومؤلف وكاتب سيناريو وناقد. وكان صاحب ميول يسارية ولعب دورا رئيسيا في تأسيس الثقافة السينمائية في بريطانيا، وألف بعض الكتب من أشهرها كتابه عن “أيزنشتاين في هوليوود”، وقيل إنه كان أيضا جاسوسا للاتحاد السوفيتي، فقد كان شيوعياً متحمسا رغم أصوله الأرستقراطية. والطريف أيضا أنه لعب دورا رئيسيا في تأسيس الاتحاد الدولي لتنس الطاولة، ووضع كتبا حول هذه اللعبة. وقد توفي عن 80 عاما عام 1984 بعد أربع سنوات فقط من وفاة ألفريد هيتشكوك.
الكتاب سيتوفر في معرض القاهرة الدولي للكتاب ومعارض الكتب العربية