“السؤال والتساؤل في فيلم “بليد رانر

رشا كمال

كتب أحد ضباط قوات الأمن الخاصة النازية الـ (إس. إس) في دفتر يومياته يشكو من أصوات الأطفال الصغار التي لطالما أقلقت مضجعه في معسكرات الاعتقال النازية، ليقرأ تلك الكلمات فيما بعد الكاتب الأمريكي فيليب كأي ديك، ويتساءل مستنكرا عن حقيقة إنسانية هؤلاء الجنود.

هذا السؤال أصبح فيما بعد، نواة التساؤل الذي طرحه حول ماهية الإنسان في قصته “هل يحلم أشباه الإنسان بخراف الكترونية؟”، وهي القصة التي اقتبس عنها في عام 1982 فيلم “عداء السيف”- Blade Runner للمخرج البريطاني ريدلي سكوت، عن إسناد مهمة التخلص من أربعة (ريبلكانتس)- وهي كيانات شبيهة بالإنسان مصممة جينيا للاستعباد في مستعمرات خارج كوكب الأرض- لعداء السيف ريك ديكارد (هاريسون فورد).

استطاع الفيلم طوال الأربعين عاما ونيف الماضية أن يحشد لنفسه طائفة من المعجبين الذين يعاودون قراءته وتحليله لما يطرحه من أسئلة فلسفية وأخلاقية. يتساءل الفيلم مثلا: “هل بطل الفيلم إنسان أم أحد الريبلكانتس؟!” وهو أحد الأسئلة التي يبني عليها الفيلم تساؤلات أخرى كثيرة. وقد أبدى العاملون في الفيلم أيضا آراءهم بخصوص ما يطرحه الفيلم، فالممثل هاريسون فورد قال إن شخصية ديكارد يمكن أن يكون (ريبلكانت)، زاعما أن المشاهدين لن يتماهوا بسهولة مع كيان غير إنساني! في حين أن المخرج أوضح بابتسامة ماكرة في الوثائقي الذي أعد عن رحلة إنتاج الفيلم أن البطل من أشباه الإنسان!

ومع تضارب التأويلات يتضح مع كل مشاهدة أن السؤال في حد ذاته أهم من الإجابة عليه، لأنه ينتهي عند العثور عليها، في حين أن التساؤل يدفع المتلقي لرحلة بحث ومشاهدة مستمرة قد يصل أو لا يصل في نهايتها، إلى الجواب.

والسؤال المطروح في الفيلم تحول بدوره إلى تساؤل فلسفي أعمق حول ماهية الإنسان، وذلك من خلال الكيفية التي طرح بها المخرج السؤال وعمق التساؤل بواسطة قراراته الإبداعية المختلفة التي تجلت في النسخة الأخيرة المطروحة عام 2007، والتي تحكم فيها المخرج بشكل مطلق.
سيناريو الفيلم يحتوي على ثلاثة خطوط درامية متشابكة، أولها إسناد مهمة التخلص من الريبلكانتس الي ديكارد.

جرت العادة أن نتعرف على البطل وعالمه في بداية الاحداث، لكن هنا لم يوفر النص أي معلومات عن خلفية البطل، فاكتنفت شخصيته هالة من الغموض.

ولفهم هذا الغموض بشكل أفضل يمكن أن نلجأ للنموذج الذي يقتدي به الكاتب بول شريدر في كتابة أعماله، وهو أن البطل يكون وحيدًا في غرفة، يرتدي قناعا يتمثل في المهنة التي يزاولها، ومهمة الحكاية هي نزع القناع عنه للكشف عن هويته الحقيقية.

وبتطبيق هذا النموذج على بطل فيلم “بليد رانر”، يكون ديكارد هو الرجل المقنّع، والقناع يتمثل في وظيفة عدّاء السيف” التي تطلب منه القضاء على الريبلكانتس المتمردين تحت مسمى (إحالتهم للتقاعد) بدلا من قتلهم. أما الغرفة فهي العالم الديستوبي لمدينة لوس أنجلوس في المستقبل، بعد أن استطاع الإنسان ابتكار آلات على درجة عالية من الذكاء، تشبهه لدرجة يتعذر معها التعرف عليهم بسهولة، وبمنح الإنسان صفة الخالق لنفسه يضع عمرا افتراضيا لهذه الآلات، ويزرع في أدمغتهم ذكريات مزيفة عن الطريق لضمان عدم تطويرهم لأي أحاسيس أو سمات بشرية.
وتحت القناع تكمن الهوية الحقيقية للبطل (إذا كان إنسانا يكتشف إنسانيته المفقودة في عالم مستقبلي مخيف، أما إن كان ريبلكانت فقد نما وعيه وقام بتطوير سمات إنسانية).

أما الخط الثاني، أي الحبكة الفرعية، فهي عن العلاقة بين شخصية (ريتشيل) والبطل، وتمثل هذه الحبكة الحافز الرئيسي وراء السؤال، لأن شخصية ريتشيل لم تكن مدركة لحقيقتها، ومن خلال تشككها وإدراكها للحقيقة، وبالتوازي مع علاقتها بالبطل يتعمق في نفسه الشك حول ماهيته، وكذلك التساؤل لدى المشاهد.

وقد يبدو أن شخصية ديكارد مسطحة بلا أبعاد تجعلها قابلة للتطور، لكنه بدأ الأحداث وهو على قناعة بأن الريبلكانتس ليسوا سوى آلات وُجدت لخدمة الإنسان، وانتهى به الحال وهو يكن المشاعر لإحداهن.

الخط الدرامي الثالث يتجسد في محاولة وصول الريبلكانتس المتمردين إلي صانعهم، ويرسخ هذا الخط -تدريجيًا- السمة الإنسانية الرئيسية وهي التعاطف – Empathy التي يتناولها الفيلم في كيفية التفرقة بين البشر والريبلكانتس. ويقربنا هذا الخط أكثر من شخصيات الريبلكانتس ومنها شخصية (روي باتي) قائد المجموعة المتمردة، فشخصيته تعتبر انعكاسا لشخصية البطل، كما أنه يمتلك وعيا وتعاطفا أكثر منه.

تتضافر الخطوط الدرامية الثلاثة معاً، لتكشف عن الوعي والمشاعر التي طورتها الريبلكانتس، مقابل التعاطف والإدراك اللذين يفتقدهما البطل، وتظهر قرارات مبنية على انفعالات انسانية اتخذتها شخصيات الريبلكانتس أكثر من شخصية البطل. ويتوج هذا التداخل في مشهد المواجهة بين البطل وروي باتي، في نهاية الفيلم، حيث تبرز واحدة من أجمل لحظات الاستنارة عند البطل فهو يدرك أخيرا وعي الآخر وتعاطفه معه.
ساهم الحوار في تدفق سيل الأسئلة المطروحة، مع عدم تقديم إجابات واضحة من جانب الشخصيات أو الأحداث. ويتدرج طرح السؤال وتعميق التساؤل مع تدرج الحدث.

هناك مثلا، السؤال الذي طرحته ريتشيل على ديكارد في أول مشهد يجمع بينهما حول ما إذا كان قد سبق له إحالة أي إنسان إلى التقاعد (أي قتله) عن طريق الخطأ؟ إجابة البطل عنه بالنفي، كانت أشبه باختبار (الفويت كامبف)- الخاص بالكشف عن هوية الريبلكانتس من خلال مدى استجابتهم لسمة التعاطف، وتستخدمه السلطات في الكشف عنهم- ليرى المشاهد مدى إظهار ديكارد تعاطفه مع الآخر، حتى وإن لم تكن هويته الحقيقية واضحة. وكذلك سؤالها له في وقت لاحق عبر الفيلم، عما إذا كان قد خضع لاختبار الكشف عن الريبلكانتس أم لا.

تساهم أجواء الديستوبيا (المدينة المستقبلية الفاسدة) وجماليات تصوير أسلوب النيو- نوار، وبعض تأثيرات التعبيرية الألمانية، في خلق حالة من الغموض حول حقيقة طرفي الصراع في الفيلم، وكذلك التشابه الكبير بين الريبلكانتس وصانعيها، فلا توجد اختلافات بارزة في طريقة تقديم هذه الشخصيات من حيث الشكل والملبس.

أما التمثيل فقد أنتج السؤال من التباين في ردود الفعل الشعورية، مع تنوع أداء الممثلين الذين قاموا بأدوار الريبلكانتس: راتجر هاور في دور (روي باتي)، شون يونج (في دور ريتشيل)، كانت استجاباتهما الانفعالية في المشاهد أعلى بكثير من أداء هاريسون فورد الذي حافظ على تقييد أدائه لطبيعة شخصيته الباردة.

فمثلا في مشهد محاولة تقصي ريتشيل عن حقيقتها من ديكارد، عكس أداء فورد طبيعة ديكارد القاسية لقناعته بأن هذه الكيانات ما هي الا مجرد آلات، فجاء رده لها مستهزًئا قاسيًا عن حقيقتها المزيفة، لنجد في المقابل مشاعر طاغية على اداء شون يونج وهي تحاول كبح دموعها عند إدراكها للحقيقة.

التباين في الأداء بين شخصين يفترض أن أحدهما إنسان، والآخر آلة، نتج عنه في ذروة المشهد بداية إظهار صفة التعاطف والانجذاب الواضح بين شخصية البطل والريبلكانت، وهو ما ظهر أيضا في مشهد مونولوج مناجاة الموت الشهير الذي ألقاه الريبلكانت روي باتي، بعد انقاذه لديكارد من موت محتم.

السطور الارتجالية التي ألقاها الممثل راتجر هاور، مع وقفاته القصيرة بين كل جملة والتي تليها، وهو يسترجع ذكرياته الخاصة الحقيقية التي يعتز بها، عكست الوعي الإنساني الذي اكتسبته هذه الآلات، مقابل التعاطف من جانب البطل أيا كانت هويته الحقيقة.

استعان المخرج ريدلي سكوت، بنمط بصري متكرر(موتيفة) في شكل انعكاسات حمراء في حدقة العين للتفرقة، بين الريبلكانتس والبشر، ميز به شخصيات الريبلكانتس، حتى جاء قرب منتصف الفيلم لنراه بصورة ضبابية (Blur – out of focus) في عيني البطل.

ساهم المونتاج في خلق الشعور بالارتباك من خلال المعنى الجديد الذي تشكل نتيجة التعديلات الجوهرية التي أجريت على النسخة النهائية للفيلم، فنتج عن حذف صوت الراوي حجب المعلومات المباشرة عن المتلقي، وأصبحت هناك تكهنات كثيرة لدى المشاهدين بسبب إضافة النهاية السعيدة المفتوحة التي اقترحها وأقحمها المنتجون.

إلا أن ترتيب اللقطات، واللقطات الدخيلة (cut-in shots) لأشكال الأوريغامي الورقية التي كان يصنعها “جيف” المسؤول عن متابعة تنفيذ ديكارد لمهامه، كانت المساهم الأكبر في توليد السؤال.

الربط بين هذه اللقطات، وبين النهاية المفتوحة، مع المعرفة المسبقة لدى المشاهد بكيفية تحكم البشر في الريبلكانتس من خلال زرع ذكريات لهم، وإمكانية اطلاع أفراد الشرطة ومنهم شخصية جيف على هذه الذكريات، أدت كلها إلى صعوبة الجزم بحقيقة البطل في النهاية.

من بين الاتهامات التي يوجهها النقاد للمخرج ريدلي سكوت هو اهتمامه بخلق تفاصيل عالم أفلامه على حساب تطوير الشخصيات، ففي فيلم “بليد رانر” تغيب تعقيدات الصراع، ولا يوجد شيء على المحك يهدد البطل أكثر من مجرد رتبته الاجتماعية في مجتمع ديستوبي تسوده التراتبية، استطاع المخرج من خلالها أن يفتح الباب أمام تساؤلات عن ماهية الإنسان.

Visited 8 times, 1 visit(s) today