“الرجل العنكبوت- بعيدًا عن الوطن” مظهر ترفيهيّ لمعنى عميق جدًّا

كثيرًا ما يخدعنا مظهر الأشياء، وكثيرًا ما ننخدع في الأفلام. وهذا نموذج واضح على الخداع. فيلم “الرجل العنكبوت، بعيدًا عن الوطن” (Spider-Man: Far From Home)  خدع الجميع -تقريبًا-؛ فالمشاهد قد دخله ليستمتع بفيلم ترفيهيّ، مليء بلحظات الكوميديا والحركة، ومُغرَق في المؤثرات البصريَّة المبهرة للعيون، والمُحبَّبة للكثيرين. وهذا ما مشى على نهجه الفيلم، ولم يخذل المشاهد في أيّ من هذه العناصر. لكنَّه -بالإضافة إلى هذه العناصر- احتوى على معنى عميق جدًّا. سندور في فلك الفيلم أولاً، ثمَّ المعنى العميق فيه.

الفيلم من إصدار 2019. بإنتاج من شركة “مارفل”. وإخراج من “جون واتس”، وتأليف “كريس ماكينا” و”إيرك سومرز”، وأداء الممثل الشاب “توم هولاند” في دور “الرجل العنكبوت”، “جيك جينلهال” في دور “كونتين بيك”، وبمشاركة “صامويل آل جاكسون” في دور “نيك فيوري”، وغيرهم. وقد نجح الفيلم نجاحًا ضخمًا، وحقق ما يربو على مليار دولار عند إغلاق عرضه على كل السينمات في العالم.

الفيلم استكمال لأحداث فيلم “المنتقمون، نهاية اللعبة”. فنرى في أول الفيلم التأثير لموت أبطال عدّة من فرقة “المنتقمون” (وهم مجموعة أبطال خارقين اجتمعوا للدفاع عن الأرض ضدّ الأخطار). ومن أهمِّهم رجل الصناعة الكبير، والملياردير “توني ستارك” صاحب شخصية “الرجل الحديديّ” -ولها سلسلة أفلام منفصلة- الذي يترك جزءًا كبيرًا من إدارة عمله للشاب الصغير صاحب 16 عامًا، والطالب في المرحلة الثانويَّة “بيتر باركر”، الذي هو نفسه “الرجل العنكبوت”. فيقع الشاب الصغير في حيرة وارتباك شديدين؛ فكيف يكون وريثًا لتركة مخترع وصاحب عقل عبقريّ وهو في هذه السنّ؟!

في الأوقات نفسها نرى تهديدًا جديدًا يواجه الأرض متمِّثلاً في وحوش من الماء والنار تظهر لتدمر مُدنًا أو قطاعات كبيرة. ويجد نفسه مضطرًا للاشتراك ليتحمل مسئوليَّة التركة التي ألقيت عليه. من خلال مساندة “كونتين بيك” البطل الخارق الذي ظهر فجأةً، ولا يعلم أحد عنه شيئًا. ثم تتوالى أحداث الفيلم كاشفةً الكثير من المفاجآت غير السارَّة لأبطال فيلمنا، فكيف سيتعاملون معها؟

الفيلم ليس قويَّ البناء، وهو ذو حبكة اعتياديَّة. لكنّ حبكته بها التواء (تغيُّر مفاجئ في الحبكة، أو في الأحداث مما يحدث تأثيرًا على حبكة العمل) يصنع شيئًا من التعقيد. هذا الالتواء هو صلب الفيلم من حيث الأحداث. وهو ما يسبب انقسام الفيلم إلى جزئيْن واضحَيْن؛ ما قبل الالتواء، وما بعد الالتواء.

والفيلم من تصنيف مغامرة، كوميديا. وقد نجح في صنع الكوميديا التي جاءت متنوعةً عن طريق:

1- الاستثمار الناجح غاية النجاح لشخصية “البطل الخارق” المُراهق! وهو ما يخالف التصور الاعتياديّ الذي يستقرّ في عقولنا عند سماعنا لكلمة “بطل خارق”. ولمْ يتوانَ الفيلم إطلاقًا في الاستثمار الجيد والمؤثر لهذا الجانب من شخصيَّة البطل. بل وصل حد الاستثمار إلى أنها من أعمدة الفيلم الرئيسة في صنع الأحداث وتطويرها.

2- التوفيق الواضح في اختيار بطل السلسلة الجديد. وهو الممثل “توم هولاند”، الذي لمْ يبلغ بعد الرابعة والعشرين. وهو يمتاز بعدد من المزايا؛ أولها أنه ممثل ذو موهبة كبيرة استطاع إظهارها حتى في هذه النوعيَّة من الأفلام. وثانيها أنَّه مُقارب للسنّ التي رُسمتْ لشخصية البطل -طالب في الثانويَّة- مما أعطى للصورة الكُليَّة مصداقيَّة وبساطة أيضًا. وثالثها امتلاكه للحسّ الفكاهيّ بالقدر الكافي، وذكاؤه في إدارة الشخصيَّة.

3- رؤية المؤلف والمخرج في إخراج شخصيَّة البطل في صورة المُراهق الأقرب للطفولة والجُبن، لا المراهق الذي يريد أن يُظهر البطولة، أو يدَّعيها مثلاً. مما أعطى للفيلم -عمومًا- ثراء كوميديًّا، وكذلك أكسب المشاهدين التعاطف مع شخصيَّة الفيلم الرئيسة.

4- تنوع الشخصيات الثانويَّة والاستثمار الجيد لها في توليد الكوميديا. مثل صديقه “نيد ليدز”، وبقيَّة أصدقائه في الرحلة المدرسيَّة. وكذلك صنع ثنائيَّات مثمرة في توليد الكوميديا؛ مثل علاقة صديقه هذا بزميلتهما في المدرسة التي نجحت في صنع الكثير من الإضحاك.

وقد أدار المخرج الفيلم بنجاح؛ فاستطاع إخراج كل درجات وتنوعات الكوميديا بنجاح وكفاءة، وكذلك نجح في إدارة جانب المغامرات بشكل جيد. مُكملاً السير في قطار شركة “مارفل” الناجح في صنع المؤثرات البصريَّة من كافة أنواعها. وكذلك نجح في فلسفة الألوان التي أعطت للصورة ثراءً بصريًّا، ورونقًا عالي الجودة. لكنْ يبدو لنا بعض الاضطراب الذي جرى في جانب إخراج الفيلم من الاطلاع على الإعلان التشويقيّ له؛ حيث وردت فيه مشاهد حذفت فيما بعد من شريط الفيلم. ومن الواضح أنها كانت في بداية الفيلم كنوع من التمهيد. وقد وفِّقوا في حذفها لأنها كانت تشبه كثيرًا التمهيدات التي أتت بها السلسلة في أفلامها السابقة.

والآن نأتي للإضافة التي جاء بها الفيلم؛ وهي المعنى العميق الذي تضمَّنه. أن الفيلم يتناول قضيَّة في منتهى الخطورة في عالمنا اليوم. هي وهم التقنيَّة الكبير الذي يعيشه الإنسان في عصر تحكَّم فيه الهاتف والحاسوب والمستحدثات العلميَّة في حياته، بدلاً عن أن يتحكَّم هو فيها. يأتي هذا عن طريق الالتواء الذي حدث -الذي ذُكر سابقًا- فعندها يواجه البطل الشاب حقيقةً هي ببساطة: أن ما كان يعتقده حقيقة ليس حقيقة، بل وهم من أوهام التقنية الحديثة، وأن ما كان يعتقده خطرًا محدقًا بالعالم لم يكنْ سوى بعضًا من أوهام العلم الحديث.

لا يطرح الفيلم هذا الأمر بصورة سطحيَّة أو عابرة، بل يؤكد عليه ويجعله مضمونه الأساس. بل لا يكتفي بمجرد التعرُّض لأخطار التقنيات المباشر، إنه يمتدّ ليطرح فكرة تدور حول السؤال: إذا كانت هذه التقنيات الحديثة تصنع الأوهام، وتكيِّفها وتظهرها أمام العين والحسّ البشريين على أنها حقيقة ملموسة مؤكدة؛ فما هي الحقيقة إذن؟! وكيف للإنسان بعد كل هذه التضليل التقنيّ أن يعرف الحقائق من الأوهام والأكاذيب؟!

وستضح لك هذه القضيَّة المطروحة في الفيلم إذا علمتْ أنّ عالم التقنية في العقد الأخير اهتمّ اهتمامًا بالغًا بفكرة صناعة واقع غير موجود. ولعلّك سمعت مصطلحات مثل “الواقع المُعزَّز”، “الواقع الافتراضيّ” وغيرهما من الاصطلاحات التي تعبِّر عن تقنيات تُعدِّل على واقعك، بل تصنعه صناعةً كاملة. وكله وهمٌ في وهم. ولعلّ القارئ الكريم قد سمع عن آخر صيحات هذه التقنية وهي تُسمَّى بـ”الزيف العميق” نرى فيها الشخص يتحدّث في مقطع الفيديو، ثم تكتشف أنه لمْ يقل يومًا هذه الكلمات. هو هو بصوته ونبراته، وانفعالاته. لكنه لمْ يقلْ أبدًا هذه الكلمات! وهذه التقنيات جميعًا الشركات والمعامل ماضية في طريق تنفيذها على أقصى اتساع ممكن، وبأقصى درجات الجودة والإتقان.

وقد طرحها الفيلم بطريقة ذكيَّة حيث استعان بطُرُق الخداع التي تستخدم في الصناعة السينمائيَّة نفسها ليطرح هذه القضيَّة؛ كاشفًا أمام المشاهد بعضًا من طرق الخداع البصريّ الكثيرة التي يستخدمها صانعو الأفلام، والتي استخدمها الفيلم نفسه في صناعته.

وأختم بآخر ما قاله الممثل ” جيك جينلهال” في الفيلم: “يحتاج الناس بطبيعتهم إلى شيء يصدّقونه، وفي هذه الأيام يمكن أن يصدِّقوا أيَّ شيء”. فهل ستصدق ما حولك بعد الآن؟!


Visited 69 times, 1 visit(s) today