الرجل الأبيض يروي قصة العنصرية في “الكتاب الأخضر”

أراد صناع فيلم “الكتاب الأخضر” Green book تفجير الكوميديا من الجمع بين رجلين بينهما العديد من المتناقضات في رحلة طويلة لمدة شهرين إلى الجنوب الأمريكي عام 1962، وأستند الفيلم في ذلك إلى قصة حقيقية جرت بين موسيقي أمريكي من أصل أفريقي، وسائق أمريكي من أصل إيطالي، وانتهت نهاية سعيدة بأن أصبحا صديقين حتى وفاتهما عام 2013، لكن الفيلم الذي يبدو من قصته إنه بسيط وحسن النية ليس كوميديا، ومن الصعب التعامل  معه وتمريره دون أن يجد المشاهد إجابة على سؤال:  ماذا تعني رواية القصة من منظور الرجل الأبيض؟

رحلة طويلة

“الكتاب الأخضر” كان فيلم الافتتاح في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ويبدو اختياره جاء بناء على إنه فيلم جيد جدا (فنيا)، وهو واحد من أفضل الأفلام التي أنتجتها ستديوهات هوليوود خلال العام الماضي، ويعالج قضية “العنصرية ضد الأمريكيين من أصل أفريقي” في بساطة، ويمكن تعميم رسالته لتشمل مناهضة العنصرية عموما ضد أصحاب أي عرق، بالإضافة إلى إنه فيلم مسلي وممتع أيضا، ولكن مشكلة الفيلم تكمن في الزاوية التي تُروى منها القصة، والتفاصيل التي صُنعت منها شخصية الموسيقي الأمريكي من أصل أفريقي “دونالد شيرلي” وطريقة تفاعلها مع الرجل الأبيض “توني ليب”.

يروي الفيلم قصة دون شيرلي وهو عازف بيانو مشهور، يحمل درجة الدكتوراة، ثري، يسكن في شقة فاخرة أعلى قاعة كارنيجي في نيويورك، بالإضافة إلى إنه ذو بشرة سوداء، ينوي القيام بجولة فنية طويلة إلى العديد من مدن وولايات الجنوب، ويبحث عن سائق وحارس شخصي، يلتقي بطريقة ما  بـ “توني ليب” الذي يبحث عن وظيفة بعد إغلاق الحانة التي يعمل بها لمدة شهرين لإجراء أعمال الصيانة، “توني” رجل أبيض، أمريكي من أصل إيطالي، لديه زوجة وأولاد وعائلة كبيرة، مازال يتحدث الإيطالية في منزله المتواضع – بالمقارنة بمنزل دون شيرلي، وهو رجل قوي البنية، يكسب رزقه من قدرته على ممارسة العنف ضد الآخرين، أشار لنا الفيلم في البداية بأن “توني” رجلا عنصريا، فقد ألقى في صندوق القمامة بكوبين زجاجيين استخدمهما رجلين من ذوي البشرة السوداء في منزله.

“توني” الذي لم يكن مضطرا لقبول وظيفة سائق- كان أمامه خيارات أخرى- يذهب في رحلة لمدة شهرين مع “دون شيرلي” الذي لم يكن مضطرا أيضا للقيام بهذه الجولة- يمكنه العزف في نيويورك ويكسب أموالا أكثر، وأراد الفيلم أن يُحكم عقدته، فقال إن السائق لا يمكن أن يترك الجولة وإلا يفقد نصف آجره، وإن عليهما أن يسافرا وينتهيان من عملهما قبل عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر.

كسر الصورة النمطية

يمكن النظر إلى قصة الفيلم على إنها مربع من أربعة أضلاع، ضلع يضم العلاقة بين “توني” و “دون شيرلي”، وضلع الرحلة نفسها التي يخوضونها ومعهما “الكتاب الأخضر” الذي يتضمن التعليمات التي يجب على أصحاب البشرة السوداء إتباعها عند سفرهم إلى الجنوب الأمريكي، مدون عليه عبارة “الهجرة بدون عنف”، كما يضم أسماء الفنادق والنزل التي يمكن لهم استخدامها، والأماكن التي يُحظر عليهم التواجد فيها.

أما الضلع الثالث هو المكان “الولايات المتحدة الأمريكية”، والضلع الاخير هو الزمان (عام 1962) ذروة حركة الحقوق المدنية ضد العنصرية في الولايات المتحدة، حيث إن هناك أماكن مخصصة للسود وأخرى للبيض، حيث إن المعتاد أن يعمل الأسود لدى الأبيض، أما أن يعمل رجل أبيض لدى رجل من ذوي البشرة السوداء هو مشهد يثير الريبة والاشمئزاز لدى البيض والسود على حد سواء.،عام 1962 حيث لا يمكن للسود أن يجلسوا مع البيض في المطاعم والفنادق نفسها، وعليهم أن يستخدموا مراحيض خاصة بهم، وحيث لا يمكن لرجل أسود أن يشتري زيا يمكن يرتديه رجل أبيض!

كسر فيلم “الكتاب الأخضر” الصورة النمطية عن “الرجل الأسود”، خاصة فيما يتعلق بـ “انتهاج العنف”، فالعنف في عرف الرجل الأبيض في الولايات المتحدة هو سلوك مرتبط بـ (الرجل الأسود)، لكن في هذا الفيلم نرى “دون شيرلي” يلوم “توني” على ضربه لضابط شرطة، ويقول له وهما محتجزان “لا تربح مع العنف توني.. تربح فقط عندما تحافظ على كرامتك.. الكرامة تسود دائما”.

مشكلات رواية القصة

شارك نيك فاليلونا ابن “توني ليب” الحقيقي في كتابة قصة وسيناريو الفيلم، وقال في أكثر من سياق إن “كتاب أخضر” ليس مستندا لقصة حقيقية بل هو القصة الحقيقية، لا يمكن تصديق ذلك لسبب بسيط إن قصة الفيلم تم روايتها من منظور “الرجل الأبيض”، من وجهة نظر “توني ليب”، فهو الذي رسم لنا شخصية “دون شيرلي” كما رآها هو أو كما أعتقد، فما الذي يجعلنا نصدق مثلا إن “دون شيرلي” هو كل الصفات مجتمعة: متعجرف، منطوي، مغرور، متأفف على الدوام، لا يتواصل مع عائلته، ومنعزلا عن أبناء جلدته، لا يعرف موسيقاهم وليس لديه أصدقاء منهم، ولا يعرف شيئا عن ثقافتهم. إذا كان كذلك فأي ثقافة كان يعرف أكثر؟ لماذا أظهر الفيلم “توني ليب” يعرف المغنين والموسيقيين (السود) أكثر من دون شيرلي نفسه؟

جعل الفيلم “دون شيرلي” في ذروة الأحداث يردد غاضبا مونولوج طويل، يقول فيه: “الأثرياء يدفعون المال لي لعزف البيانو لهم؛ لأنني أجعلهم يشعرون بالثقافة، لكن عندما أنزل عن المنصة أعود زنجي آخر لهم. أعاني من تلك الأمور لوحدي؛ لأنني لست مقبول بواسطة جماعتي، لأنني لست مثلهم أيضا. لست أسود كفاية، ولست أبيض كفاية، ولست غاضب كفاية. إذن من أكون؟” لم يمهد الفيلم لهذه اللحظة جيدا، على الأقل من ناحية نسج التفاصيل الخاصة بعلاقة “دون شيرلي”بـ “جماعته”، لم نفهم جذور هذه العلاقة المعقدة؟ ما المواقف التي صنعت ذلك. هذه مشكلة أخرى من مشاكل رواية القصة من منظور “الرجل الأبيض”!

رسائل متناقضة

يبعث الفيلم أيضا برسائل متناقضة، فعندما قال الشرطي لـ “توني ليب” بعد أن حاول الدفاع عن “دون شيرلي” “لابد أن لك أصول زنجية”، هنا غضب “توني” وضرب الشرطي، واُحتجزا في قسم الشرطة إلا أن روبرت كنيدي تدخل وتم إطلاق سراحهما، لكن هذا يبدو متناقضا مع معنى آخر أراد الفيلم إيصاله هو أن “التغيير ممكن”، فـ “توني” لم يتغير ولم يتنازل عن عنصريته في شهرين كما عرض الفيلم، بل غضب لأن الشرطي اتهمه بأن له أصولا زنجية، كما إن عملية التغيير خاصة فيما يتعلق بفكرة “راسخة” في الأذهان مثل “العنصرية” من الصعب تصديقها، ومن الصعب أن يحدث في رحلة لشهرين، وإلا لما استمرت العنصرية مشكلة حاضرة بقوة في المشهد الأمريكي حتى الآن، وأوصلت رجلا مثل “دونالد ترامب” إلى كرسي الرئاسة.. بالمناسبة تقول تقارير إن الرحلة الحقيقية قد استمرت عاما كاملا وليس شهرين كما عرض الفيلم.

الرسالة الأخرى المتناقضة حملتها نهاية الفيلم، حيث كُتب على الشاشة مع عرض صور للرجلين بطلي القصة الحقيقية “توني ليب ودونالد شيرلي ظلا أصدقاء حتى ماتا بعد شهر من أحدهم الآخر عام 2013″، بغض النظر على أن الصور التي تم عرضها صور منفصلة للرجلين ولا توجد صور واحدة منها تجمعهما معا، يُصعب التصديق أيضا-حسب الرؤية التي قدمها الفيلم لشيرلي- إنهما يمكن أن يصبحا صديقين، فالشخصية التي تم رسمها لـ “دون شيرلي” في الفيلم لا يمكنها أن تعقد صداقات مع أحد، ناهيك عن شخص يختلف عنه كثيرا مثل “توني ليب” فكلاهما يسير في طريق ولا يمكنهما التلاقي بسهولة.

يُصنف فيلم “كتاب أخضر” على إنه فيلم درامي كوميدي، بالنسبة لي لم يكن هناك كوميديا على الإطلاق، حتى وإن حاول الفيلم خلق إيقاع وجو عام ليس ميلودراميا ولا حزينا، بل حاول تخفيف من معالجة قضية مثل “العنصرية”، ووضعها في قالب كوميدي، لكن الصورة العامة كانت تقول إننا أمام أحداث مؤسفة، وتفاصيل مؤلمة، خاصة عندما تتذكر إن الفيلم مُستند إلى قصة حقيقية، وإن كل هذه الأحداث وأكثر منها قد وقع فعلا وتسبب في إيلام “دون شيرلي” الحقيقي.

أخيرا، يمكن مشاهدة فيلم “كتاب أخضر” على إنه فيلم مسلٍ، لكن إن أردت مناقشة الأفكار التي يحملها الفيلم، ستختفي المتعة إلى الأبد.

Visited 66 times, 1 visit(s) today