“الحدس”.. اكتشاف الحقائق والحيرة في كشفها

أصبح المخرج الأرجنتيني أليخاندرو مونتيل يمثل ثقة كبيرة لدى شركة نتفلكس بعد أن تكرر التعاون بينهما للفيلم الثاني على التوالي خلال عامين، فقد كان الفيلم الأول في عام 2018 وحمل إسم  Perdidaأو “ضائعة” وجاء التعاون الثاني من خلال فيلم  “Intuition” أو “الحدس” الذي طرحته الشبكة مؤخرا، وأفلام أليخاندرو مونتيل تنتمي للنوع البوليسي وتحتوي على الإثارة والتشويق وهي عناصر جذب مهمة تهتم بها نتفلكس وتعطي لها الأولوية في اختياراتها.

يجيد مونتيل هذه النوعية من خلال اعتماده على حبكة قوية تعتمد على “تويست” أو التفاف شيق وقوة التويست نفسه يرتبط بقدرة المخرج على خداع المشاهد وهو الأمر الذي يركز عليه مونتيل وتفضله شبكة نتفلكس ويبدو أن كلاهما وجد ضالتهما في الآخر.

يسير مونتيل على غرار تجربته السابقة من خلال اختيار حبكة بوليسية محكمة الصنع معتمدا على نفس البطلة الممثلة لويسانا لوبيلاتو لتقدم أيضا دور المحققة وبنفس اسم الشخصية “مانويلا بيلاري” وشهرتها “بيبا”، في البداية كان الاعتقاد أن الفيلم الجديد جزء ثان للفيلم السابق لكن مع مرور الأحداث يزول هذا الاعتقاد، فالحبكة مختلفة تماما رغم وجود بعض التفاصيل المشتركة بين الفيلمين كما ذكرنا في اسم المحققة وأيضا فكرة تجاوزات أفراد الشرطة التي تجعل المحققون يصدمون من تورط زملائهم او قادتهم في الجرائم، وهو ما حدث في الفيلم الأول عندما اكتشفت بيبا تورط رئيسها المباشر “رامون” ويبدو أنها أزمة عامة تعاني منها الأرجنتين.

قام مونتيل أيضا في الفيلمين بالتركيز على العلاقة المتوترة بين المحققين والصحافة والتباين الشديد بين البيانات والتصريحات الرسمية وبين الأمر الواقع، أما التشابه الأخير كان في تفاصيل العلاقة بين بيا وزملائها التي تبدأ بالفتور ثم تتدرج إلى الأفضل، في الفيلم السابق كانت مع المحقق “سيرتي” أما في الفيلم الجديد كانت مع المحقق “خوانيس” الذي يقدم دوره الممثل الأرجنتيني واكين فاريل، وخوانيس يعتبر هو محور الأحداث وليست شخصية بيبا، يعد خوانيس الامتداد لشخصية بيبا من الفيلم السابق كلاهما يمتلك الذكاء والفراسة الشديدة أو كما اختير عنوان الفيلم “الحدس”، كلاهما يجيد حل ألغاز الجرائم الغامضة، كلاهما لديه ماضي أو “سر” يخفيه.

يمتلك مونتيل طريقة تمهيد للأحداث شيقة جدا حيث أنه في المشاهد الأولى يكتفي بوضع ومضات عن أمر ما، ثم تأتي الأحداث بعد ذلك في خط مغاير تماما عن ما ظهر في ضربة البداية، في الفيلم السابق كان مشهد لفتاة تقف في شرفة منزلها ثم انتقل في المشهد التالي إلى قيام المحققة بيبا بإنقاذ طفلة مختطفة، وفي فيلم “الحدس” البداية تكون في ملعب كرة سلة حيث يقوم مجموعة من الصغار باللعب في منتصف الملعب، وبعد الانتهاء وأثناء مغادرة أحدهم تصدمه سيارة، ثم ينتقل بالأحداث إلى محققان ينتظرا الدعم في السيارة للتوجه إلى مهمة في مدينة لوخان التي تحتوي على رمز “مريم العذراء” في كنيسة سيدة لوخان.

تجمع شخصيتا “بيبا” في الفيلم السابق و “خوانيس” في الفيلم الجديد بعض التفاصيل فكلاهما برغم مهارته وذكاءه ونجاحه في إنجاز المهام المكلف إلا انها دائما غير مكتملة حيث يتسبب الثنائي في أخطاء بسيطة قد تؤدي إلى أخطاء في الاجراءات القانوينة “الفيلم السابق” أو وقوع ضرر على أحد الزملاء” في الفيلم الجديد.

يكمن الاختلاف الجذري بين العملين في الدوافع المختلفة للشخصيات الرئيسية وتحديا بيبا، ففي الفيلم السابق بيبا كانت تحقق في الجريمة بهدف الانتقام لصديقتها، أما الفيلم الثاني يقوم مونتيل بوضع المشاهد بين قضيتين الرابط بينهما “بيبا”، القضية الأصلية التي يتم تكليف خوانيس وفريقه من ضمنهم بيبا البحث عن قاتل “جلوريانا ماركيز” ابنة صاحب متاجر كبيرة في المدينة، وتم توجيه الاتهام في البداية إلى صديقها “ماورا” ثم صديقتها الأقرب “مينرفا”، أما القضية الثانية فهي قيام “روجر” المدعى العام بتكليف “بيبا” بمهمة البحث في قضية تخص اشتباه في تورط زميلها المحقق خوانيس الذي يترأس بيبا في فك لغز مقتل جلوريانا.

قضية خوانيس السرية لها علاقة بالشاب الذي صدم بالسيارة الذي ظهر في اللقطة الأولى، فهو “جالفان” من أسرة غجرية شقيقه الأكبر سارق ومهرب لقطع غيار السيارات، جالفان تسبب عن طريق الخطأ في قتل زوجة خوانيس، وكانت عقوبة جالفان مخففة لأنه قاصر وبمجرد انتهاء القضية وعودة جالفان تم قتله بواسطة سيارة حمراء مجهولة صدمته، لهذا السبب المدعى العام لديه شكوك بأن خوانيس قتله بهدف الانتقام لزوجته خصوصا وان كل الشواهد تؤكد وجود اختلاف جذري في شخصية خوانيس بعد الحادث ووجود آثار من الاضطراب الذهني، لهذا يتم تكليف بيبا باكتشاف الأمر.

تنقل سلسل وسريع ومسلي قدمه مونتيل بين تفاصيل القضيتين لدرجة تجعل المشاهد ينتابه الشك في انهما في النهاية سيكونا قضية واحدة أو وجود رابط آخر يجمعها غير المحققة بيبا، وهذا يعود للأداء المميز الذي قدمته بطلة الفيلم لويسانا لوبيلاتو في تجسيد دور المحققة بيبا التي وقعت في حيرة شديدة طوال الأحداث وكانت الرابط المؤثر في القضيتين، وكانت السبب الرئيسي في كشف القضية الأولى الخاصة بمقتل جلوريانا مع وجود دعم من خوانيس، عكس القضية الثانية الخاصة بتورط خوانيس التي نجحت بيبا في الكشف عن تفاصيلها بمفردها.

جاءت نهاية الفيلم مفتوحة أيضا على غرار الفيلم السابق الذي وقعت خلاله بيبا في حيرة بين خسارة صديقة و خسارة الثقة فى الآخرين والأهم فى نفسها،  نفس الحال في هذا الفيلم فماذا سيكون موقف بيبا بعد ان قامت بكشف الحقيقة كاملة ومعرفة أدق التفاصيل بها واقترابها من جميع الاطرف زميلها خوانيس ورئيسها روجر ووالدة جالفان، في الفيلم السابق كانت قد واجهت صديقتها كورناليتا، أما في هذا الفيلم كانت في مواجهة والدة زوجة خوانيس، لكن الفارق في رد فعل بيبا في الفيلم السابق يظهر عليها الحزن والاستسلام لكن في نهاية الحدس نجد نظرات قوية معبرة توحي باحتمالية عدم التسترعلى الحقيقة في هذه المرة.

يعتبر فيلم “الحدس” فنيا أفضل من “الضائعة” على مستوى الحبكة وتسلسل الأحداث حتى على مستوى اختيارات المخرج في حركة الكاميرا وتحديد زواياه خصوصا افراطه في استخدام الكاميرا الدرون، لكن يعيب الفيلم أنه ناطق بالإنجليزية ولا أعلم سر جنوح مونتيل لهذا خصوصا وان الأمر لم يكن له أي داعي درامي، فالأبطال والأحداث تدور في الأرجنتين لهذا كان الأفضل أن يكون الفيلم ناطق بالإسبانية اللغة الرسمية لتلك الدولة وقتها سيكون العمل أكثر مصداقية بدلا من وضع حاجز بينه وبين المتفرج على عكس الفيلم السابق الذي تميز في تلك النقطة، لكن يبقى فيلم “الحدس” عمل بوليسي متكامل في حبكته تمتاز بالمتعة والتشويق ويظل اختيار عنوان الفيلم موفق فالحدس لدى الإنسان يساعده في اكتشاف الحقائق لكن في نفس الوقت يجعله يفكر كثيرا قبل كشفها.

Visited 127 times, 1 visit(s) today