التوثيق السينمائي البليغ لسنوات الرصاص
لم تكن تجربة عبد القادر لقطع السينمائية تقنعني بما فيه الكفاية لكي أعتبره رمزا من رموز السينما المغربية، رغم أنه أنجز خمسة أفلام روائية طويلة هي:”حب في الدار البيضاء” و”الباب المسدود”و”بيضاوة” و”وجها لوجه” و”ياسمين والرجال”، إضافة لأشرطة وثائقية سينمائية وتلفزية،أفلام متفاوتة القيمة والأهمية، مثلما كانت متفاوتة الحضور في المهرجانات والقاعات السينمائية من حيث النجاح والتأثير في الآراء الجماهيرية والكتابات النقدية.
لكن شريطه الأخير”نصف السماء” خلخل أرائي السابقة وجعلني مقتنعا أن لقطع استطاع أخيرا تقديم شريط فيه من المغامرة الفنية الواضحة وعمق التجربة التقنية الشيء الكثير، بمعنى انه فيلم مصنوع بعناية فائقة فنيا وتقنيا واشتغال رصين على مرحلة سوداء من تاريخ المغرب المعاصر، مرحلة سنوات الرصاص، سنوات الاعتقال والتعذيب والنفي لكل صوت حر ينادي بالمساواة والعدالة والديموقراطية،من خلال حكي بليغ لمعاناة امرأة استثنائية إسمها جوسلين اللعبي، سيدة عانت الويلات بعد اعتقال زوجها، الشاعر والمناضل اليساري عبد اللطيف اللعبي، بداية سنوات السبعينات من القرن الماضي،تحت حكم الحسن الثاني،والحكم عليه بثمان سنوات جائرة، ثمان سنوات من القهر ومصادرة الحق في الحياة .
الفيلم، رؤية شاعرية قاتلة في السرد وأداء رفيع لمجموعة من الوجوه التمثيلية، وتوثيق بليغ لحقبة مظلمة، أولنقل بشكل عام : رؤية فنية عالمة لمرحلة سوداء من تاريخ بلدنا، وكتابة بصرية تشد الأنفاس من حيث الضبط والتحكم في الأدوات التقنية، لكن الأهم من كل ذلك، التصدي لمفاهيم الزوال والانمحاء الذي بات يهدد ذاكرتنا التاريخية الجماعية ويجعلنا ننسى آلامنا وتضحيات الكثير من أبطال وطننا الذين حملوا لسنوات طويلة ثقل مرحلة دامية وعاشوا بجروح في القلب والروح .
عبد القادر لقطع بتحويله لمذكرات جوسلين اللعبي، الصادرة بالفرنسية تحت عنوان”رحيق الصبر”، إلى مشاهد مصورة تنضح بعمق المعاناة وتنطق بجروح الذات والوجدان لشباب آنذاك كان يحلم بالغد الأجمل والتغيير الحامل لبذرة الأمل، إنما كان يأتي عملا بليغا في وصف حالتنا الماضية ويوثق لمسيرة ومسار شاعر فوق العادة، شاعر قرن القول بالفعل وسمح لأحلامه المجنحة أن تحمله للأراضي المحرمة، أراضي يتحكم فيها الغول ومنطق الرأي الجامد الوحيد الأحد، من خلال سرد مكابداته كشاعر وكفاعل سياسي يساري آمن بالتغيير الجذري، لكن مكابداته في الحقيقة حملتها امرأة على عاتقها، امرأة كان ذنبها الوحيد أنها أحبت هذا الرجل المناضل وأنجبت منه ثلاثة أبناء، رجل رمي في السجن بتهم الخيانة والمؤامرة على الوطن والمواطنين ظلما وعدوانا، بينما كانت الزوجة، خارج السجن تقدم فصولا بليغة في الوفاء والتمسك بمبادئ الصمود حتى الموت، من أجل حرية الزوج الحبيب ورفاقه الذين كانوا يقبعون في السجون المظلمة لسنوات القمع والرصاص، سنوات ظلت وستظل كوصمة عار في جبين من كان يقف وراءها، ومن صمت عن إدانتها.
قوة الفيلم ومصداقيته، لا تأتي فقط في ملامسة قصة معاناة مناضل ومناضلة أحب كل منهما الآخر،مثلما أحبا حريتهما بشكل جنوني، وإنما من كونه تحدث عن مفاهيم البطولة من خارج السجن جسدتها نساء، فيهن الأمهات والزوجات والأخوات والحبيبات، نساء يحملن”نصف السماء كما تشير الحكمة الصينية”، في دفاعهن المستميت عن الحق في الحرية والوجود، ورفع الرأس عاليا.
الفيلم ورغم كونه يستند على أحداث ووقائع سياسية فإنه جاء بعيدا عن عوالم السياسة، جاء مفعما بخطابات إنسانية رهيفة، مركزا على العواطف النبيل البعيدة عن الأدلجة الفارغة والشعارات الرنانة،وقول ما لا يقال في مواقف الجد وفضاءات الحزن المضمخة بمآسي الآخرين.
نجاح الفيلم في تبليغ رسالته وإدانة الوجه القبيح لعمليات التعذيب والإمعان في الحط من كرامة البشر، لم تتحقق في نظري من خلال قوة القول أوالتحكم فقط في الآلة الخالقة للقطات والمشاهد وإنما في حسن إدارة الممثلين خاصة منهم الممثلة صونيا عكاشة التي أكدت، ومنذ دورها الأول في الفيلم السينمائي “الزيرو”لنورالدين الخماري، على أنها تمتلك مقومات الفنانة المتكاملة من حيث قوة الأداء وجمال الطلعة والإتقان في الوقوف أمام كاميرا مخرج تعود على استثمار طاقات ممثليه بشكل جيد، مخرج راهن على البهاء السينمائي وما خسر، مخرج أراد تحقيق منجز مميز فنجح في توثيق آلامنا توثيقا بليغا، وتسجيل قبح سنواتنا المغربية المسماة : سنوات الرصاص.
توثيق وتسجيل يجعل الفيلم يتمازج فيه الروائي والتاريخي والوثائقي ويؤكد أن عبد القادر لقطع وجد ضالته السينمائية، ورسم طريقا جديد لتجربته الإبداعية، تجربة نتمنى أن يظل وفيا لها في افلامه القادمة،حاملا لشعلتها في إنارة درب الفن والحياة.
تعليقات القر