البحث عن أُم كلثوم أم عن شيرين نشأت!
يُحسب لقصيدة (كلب الست) لأحمد فؤاد نجم استثمارها لحادثة حقيقية- عن عض كلب الست لطالب في الجامعة أثناء مروره من أمام فيلتها. في حين يتخذ فيلم (البحث عن أُم كلثوم) 2017، من الخيال ركيزة أساسية لا لتقديم صورة مختلفة عن أُم كلثوم، بالاستناد إلى سيرتها الحقيقية، ولكن لتقديم صورة مشوهة ذات دوافع شخصية كما ستبدو في آخر مشهد.
تُعرف تقنية السرد في هذا الفيلم بالـ (ميتاسينما) أو الفيلم داخل الفيلم. تدور أحداث الفيلم في خطين سرديين، غالباً من أجل عمل مقارنة بين القصتين، أو من أجل إسقاط قصة على أخرى. القصة الأولى عن أُم كلثوم، والثانية عن ميترا، وهناك أيضاً قصة معلمة المدرسة غادة. ميترا بطلة القصة الثانية، مخرجة (إيرانية) تعاني بسبب علاقة متوترة مع طفلها المفقود، فتحاول العثور على ذاتها أو اكتشاف نفسها من خلال البحث عن أُم كلثوم. العنوان الحقيقي ضمن سياق هذا الهدف هو (البحث عن ميترا)، وأُم كلثوم ليست سوى أداة من أجل تحقيق هذا الهدف. وهذا جائز لو أن الفيلم نجح في تقديم القصتين بشكل فني مبهر ومُقنِع. وهكذا، ليست الصورة المشوهة إلا إسقاطاً تحل فيه أُم كلثوم قناعاً للمخرجة شيرين نشأت.
لا توجد علاقة وطيدة بين القصتين، إذ يمكن فصلهما دون أن يؤثر ذلك على مسار القصتين. ضعف الرابط بين القصتين أضعف القصتين معاً. الهدف من قصة ميترا هو توصيل رسالة مباشرة عجزت عن إيصالها القصة الأولى. هذه الرسالة المباشرة تأتي على لسان ميترا وهي تقول للمنتج:
“فهمتُ الإنسانة الحقيقية خلف الأسطورة. هذا ما أريد أن أُظهره ولا شيء آخر. أريد أن أُظهر إنسانة حقيقية بكل عيوبها وضعفها، لا أريد أن أُظهر هذه البطلة وهذه الرمز فحسب التي يحبها الجميع ولكن لا أحد يعرفها فعلاً.”
في آخر مشهد بين أُم كلثوم وميترا تحدث المواجهة، تؤدي دورها في هذا المشهد ممثلة أخرى غير ياسمين رئيس، تسألها بلسان مكسر: “ليه بهدلتيني؟ وفي أهم سهرة عندي في حياتي، ليه؟” ترد ميترا: “أظن أني سئمت منك ومن عظمتك، فأنت متربعة على القمة دائماً.”
ما تقوله ميترا هنا مناقض لما قالته للمنتج، وأظنه يتفق مع هدف المخرجة شيرين نشأت ومساعدتها المخرجة شوجا أزاري، في حين يتفق ما قالته ميترا للمنتج مع هدف ميترا. يُراد من إعادة اكتشاف أُم كلثوم من قبل الأجنبي/ الغريب القول أن عيون الأجانب محايدة، ولأنها غير متأثرة عاطفياً بأم كلثوم فستكون الأقدر على تقديم صورة مختلفة عنها. لكن هل نجح الفيلم في هذا؟!
تقوم ياسمين رئيس بدورين: دور غادة، المُدرسة البسيطة، ودور أم كلثوم. في دور أم كلثوم وفي مرحلتها المتأخرة وقد قطعت صلتها بالماضي وارتبطت بالطبقة المخملية، ترفض غادة هذه الصورة وتقول لميترا أن “أُم كلثوم مش كده”! رفض غادة لهذه الصورة يعبر في الحقيقة عن رفضها لدورها كممثلة. في دور غادة المُدرسة البسيطة وقد أصبحت نجمة، تقف متوترة في حفلة تجمع الطبقة المخملية، لسان حال غادة يقول: أنا مش كده، دلالة الصورة أو اللقطة تشير إلى رفض غادة لشخصيتها الجديدة، وتمسكها بشخصية المدرسة البسيطة.
النتيجة مقارنة ضمنية بين شخصية غادة التي ترفض قطع علاقتها بماضيها وبين أُم كلثوم التي فعلت العكس. أرادت المخرجة ميترا إيصال هذه الرسالة بتغيير نهاية الفيلم الذي تصنعه عن حياة أُم كلثوم وذلك من خلال مشهد أُغنية (أنت عمري) على المسرح بحضور جمال عبد الناصر. تظهر أُم كلثوم مُتعبة مرهقة وكأنها لا تريد أن تغني، وفعلاً تتوقف عن الغناء، في مخالفة لما حدث في الواقع التاريخي.
مشكلة ياسمين رئيس أنها تقبل أي دور يُقدم لها. دورها في الفيلم غير مُقنع، خاصة المشاهد التي أدت فيها دور أم كلثوم. كان بالإمكان البحث عن ممثلة غير معروفة لتقوم بدور أُم كلثوم على الأقل ليتناسب هذا مع عنوان الفيلم (البحث عن أُم كلثوم) ومع ما تقوم به المخرجة ميترا وهي تبحث عن وجه جديد ليقوم بدور أُم كلثوم، لكن ذلك لم يحدث لسببين: الأول أن عملية البحث عن وجه جديد مُكلف مادياً ويتطلب وقتاً وتحضيراً وإعداداً للوجه الجديد، وقد لا يجذب الوجه الجديد الجمهور، خلافاً للممثلة الجاهزة والنجمة التي ستؤدي مشاركتها إلى جذب جمهور أكبر.
الأعمال التاريخية في السينما والتلفزيون مُجهدة ومُكلفة مادياً؛ لأن عليها أن تهتم بكل التفاصيل التاريخية من ملبس ومأكل ومشرب ولغة أو لهجات إلى آخر التفاصيل. أي خطأ في عنصر من هذه العناصر يكون فادحاً. استسهال تقديم عمل تاريخي دون القيام ببحث من قبل مصمم الملابس أو المختص في المكياج، أو لغة ولكنة الحديث… إلخ، هو ما حدث في هذا الفيلم. خذ على سبيل المثال ملابس المرأة المصرية في عشرينيات القرن العشرين. مع أن الفيلم استعان بصور وثائقية لمظاهرات المرأة المصرية في عام 1919، إلا أن الملابس التي ظهرت في الفيلم مختلفة قليلاً، وقد كان بالإمكان مطابقة الصورتين بضبط طول البرقع الطويل جداً كما ظهر في الفيلم ليقترب من صورته الحقيقة كما وردت في الصور الوثائقية.
مظاهرات المرأة المصرية كانت في 20 مارس 1919، برئاسة سعد زغلول “حيث قامت مجموعة من النساء بنزع الحجاب وإحراقه في ميدان التحرير. والهدف هو جعل الحجاب والنقاب اختياراً.” أما في الفيلم فالمظاهرات حدثت في عام 1914. شعارات المظاهرة في الواقع تنوع بين “حق المرأة في السلامة الجسدية والحق في الرعاية الإنجابية، وحماية الفتيات من العنف المنزلي والتحرش الجنسي والاغتصاب، ومحاربة ما يعرف بكراهية النساء أو الحط من شأنهن..”. بينما اكتفى الفيلم بصوت النساء وهن يصرخن بشعار “المساواة في الحقوق السياسية”، مع ظهور مطالب أخرى في اللوحات المرفوعة، ما يجعلها هامشية.
في الفيلم يتحدث جمال عبد الناصر بلهجة أقرب إلى لكنة الخواجات، وفي مشهد استقبال الملك فاروق لأم كلثوم سيظن المتفرج أن أُم كلثوم تقابل ملك المغرب لا الملك فاروق، المشهد كله، من الملابس إلى اللهجة، أقرب إلى الواقع المغربي منه إلى الواقع المصري. لكن مخالفة الفيلم للتفاصيل التاريخية مفهوم في سياق الهدف الذي ذكرناه أعلاه وفي سياق تقديم صورة متخيلة لا حقيقية عن حياة أم كلثوم وللسياق التاريخي الذي عاشت فيه.
من أجل هذا الهدف، كان بالإمكان التركيز على أُم كلثوم في حياتها الأخيرة من خلال سيناريو بتقنية الاسترجاع (فلاش باك) وهي تستعيد ماضيها بسرد نفسي يفسر تحولها وهي تغني للملوك والرؤساء بعد أن كانت تغني للفقراء والبسطاء. سرد يعطي لكل مرحلة حقها بشكل مُقْنع، وهذا ما لم ينجح فيه الفيلم.
كان بالإمكان البحث في مسيرة أُم كلثوم من أجل تقديم صورة سلبية أو مختلفة عنها، بلغة فنية تخلو من المباشرة ودون الحاجة لتقنية الميتاسينما. أداء الممثلين ضعيف ومتكلف، والحوار ضعيف، والتنقل بين المشاهد غير سلس واختيار المراحل التاريخية عشوائي وغطى مراحل عديدة بمشاهد لا تفي كل مرحلة حقها. والنتيجة عمل مترهل.