“الأقدار الدامية”.. تفكك طبقة ومأساة وطن

لعل هذا الفيلم المصري الجزائري المشترك من بين أكثر المحاولات طموحا للخروج بمسرحية يوجين أونيل الشهيرة “الحداد يليق بإلكترا” للكاتب يوجين أونيل من نطاقها الفردي، الذي يحلل نفسية أبطالها وفقا لاكتشافات فرويد عن عالم اللاشعور، ودور الغريزة الجنسية في توجيه السلوك البشري، الى فضاء أوسع يجعل المأساة تتم على مستويين: العائلة الثرية، والوطن المنكوب، ورغم صعوبة ضبط هذه المعالجة، فإن الفيلم يحقق نجاحا جيدا في تحقيق هذا الطموح.

الفيلم بعنوان “الأقدار الدامية”، وهو أول أفلام خيري بشارة الروائية الطويلة، ومن الواضح أنها لم تكن تجربة سهلة، حيث كانت بداية التصوير في العام 1976، ولكن الفيلم لم يعرض في مصر إلا في يناير 1981، والفيلم يجمع ممثلين من مصر والجزائر، ويدهشنا حتى اليوم بطموحه، وبالمستوي الفني الذي قدمه خيري بشارة في عمله الأول.

استلهم يوجين أونيل في مسرحيته أسطورة إغريقية شهيرة، ولكنه جعل أحداث مسرحيته على خلفية الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب، وبدلا من الأقدار التي توجه مصائر الشخصيات، فإنه جعل الغريزة، وعالم اللاشعور، مسؤولين عن مأساة عائلة، حيث قامت الزوجة بخيانة زوجها وهو في الحرب، ثم قتلته بعد عودته، فلما عرفت الابنة حرضت أخيها على قتل عشيق أمهما، فانتحرت الأم، وأصيب الابن بالجنون، وظلت الابنة وحيدة بثوبها الأسود، منعزلة في حجرتها، تجسد المأساة، وتشهد عليها.

كانت قوة المسرحية في الإحالة الى التراجيديا الإغريقية، وفي صنع تراجيديا عصرية، مع الإحالة أيضا الى إنجاز سيجموند فرويد في دراسة النفس البشرية، وفي الإشارة الى دور الغرائز المكبوتة في السلوك، فرويد أيضا استلهم الأساطير الإغريقية، وأشار الى عقدة أوديب، بحب الابن لأمه، وكراهيته لأبيه، كما أشار الى عقدة إليكترا، بحب الابنة لأبيها، وكراهيتها لأمها، والعقدتان حاضرتان بشكل ما في علاقة الابنة مع الأب، وفي علاقة الابن من الأم، في مسرحية “الحداد يليق بإليكترا”.

العائلة والحرب

ولكن معالجة  علي محرز، كاتب سيناريو “الأقدار الدامية”، ومقتبس المسرحية، اختارت حرب فلسطين 1948، لتكون زمنا موازيا ومحوريا لأحداث مأساة الأسرة الثرية، وليست مجرد خلفية لتلك الأحداث، وبينما تتصاعد الأحداث العائلية الخاصة لتؤدي الى خيانة الأم، والإنتقام من العشيق، تتصاعد الأحداث السياسية والعسكرية أثناء الحرب، بتوريد أسلحة فاسدة، وبهزيمة الجيوش العربية، وبفقدان النظام الملكي لمصداقيته، مما ينبيء بتغيير كامل قادم.

هكذا تتداخل مأساة العائلة، مع مأساة الوطن، بل إن مأساة العائلة تتجاوز بدورها فكرة العقد النفسية الجنسية، وألاعيب اللاشعور، وسطوة الجسد، لتنبيء بدورها بتفكك الطبقة، وتفرق أفرادها، وموت رموزها، وهو تفكك يسبق حتى ما سيحدث للعائلات الثرية بعد العام 1952.

يبدأ الفيلم قبل إعلان الحرب، ثم يتم إعلان الحرب، وزحف الجيش المصري الى  فلسطين، في حفل يقيمه حلمي باشا في قصره بالأقصر، وينتهي الفيلم، وقد قرر سعد، ابن حلمي باشا صاحب الأبعادية، وابن حورية هانم، زوجته الخائنة، أن يتطوع للقتال في القناة بعد إلغاء معاهدة 36، وبعد مجزرة رجال البوليس في الإسماعيلية في 25 يناير 1952، وبعد حريق القاهرة في اليوم التالي لهذه المجزرة.

من قلب خيانة الأم، وعملية قتل العشيق الكابتن كمال لطفي، التي قام بها سعد وأخته علية، قرر سعد نهائيا أن يثور نهائيا على طبقته، وتبدو عملية قتل العشيق الخائن، ثورة على فكرة الخيانة، التي عاينها سعد كمقاتل في حرب فلسطين، حيث قتل السلاح الفاسد خير الفلاح الفقير، أخو سعد في الرضاعة، بينما عاد سعد حزينا، ومؤمنا بأن الطعنة قد أصابتهم من الظهر.

ومع غياب الأب حلمي باشا، والأم حورية هانم، لا تنعزل حورية في البيت، مثلما هو الحال في مسرحية أونيل، ولكنها ترفض حسن ابن طبقتها، ويتواصل سقوطها: يقدم السيناريو علاقة جنسية بين علية والرجل الذي أصبح عشيق أمها ، كابتن كمال لطفي قائد اليخت السياحي، ثم تنتهي علية بعلاقة جنسية مع سايس الخيول في الإصطبل، يشعل بعدها السايس سيجارة شاعرا بالتفوق، وكأن هذه العلاقة الجسدية غير المتوقعة عنوان نهاية سيطرة طبقة علية، ولعلها أيضا دليل صعود الفقراء، قبل صعودهم الفعلي بعد العام 1952.

هنا معالجة تصل الى عالم أكثر اتساعا، ليس فقط في رسم صورة المجتمع والتيارات المختلفة عشية حرب فلسطين، وفي أثنائها، وبعدها أيضا، وفي محاولة تمصير العلاقات دون تجاوز علاقاتها المحرمة في المسرحية الأصلية، ولكن أيضا في طموح ربط الخاص جدا، بالعام جدا، وفي النهاية تنهار العائلة بمأساة تتقاطع مع مأساة البلد، ويبدو فعلا أننا أمام تعرية سياسية وأخلاقية في نفس الوقت، وأننا أيضا أمام عالم يتداعى، ليفسح الطريق أمام عالم جديد مجهول.

في إطار رسم ملامح المجتمع وقتها، فإن التفاوت شاسع بين ثراء حلمي باشا، الذي يتشدد في محاسبة الفلاحين، والذي يستدعى  من المعاش ليعود لواء عاملا في الحرب، وبين ما نراه من فقر في القرية، حيث يقع الفلاحون فريسة للفوائد، ولا يجدون من يدافع عنهم سوى الشيخ حمزة، رجل الدين الشجاع، والشاب صالح، الذي يمثل فيما يبدو قوى اليسار، والاثنان يتعرضان دوما للسجن.

أم الخير، التي أرضعت سعدا أيضا في طفولته، كان يمكن أن تكون جسرا يتجاوز الطبقة، ولكن الحرب قتلت ابنها خير، وهي لم تفلح أصلا في منع إرساله الى فلسطين، عالمان منفصلان تماما، وحياة بائسة يعيشها الفلاحون، أما أسرة حلمي باشا فهي منقسمة بين غطرسته، وورطة زوجته العاطفية، وبين سعد، الذي ترك دراسة الحقوق، ولايريد الزواج من مشيرة ابنة طبقته، وعلية المتورطة في علاقة مع الشخص الذي سيصبح عشيق أمها، ومتورطة أكثر في الإنتقام من كابتن كمال عندما يصبح عشيقا لأمها.

علاقات متشابكة

تبدو علية أكثر شبها بوالدها، وهي تساعده في كل شيء، كما أن علاقتها بأمها مضطربة، بينما تحب حورية ابنها سعد، وتكره زوجها حلمي باشا لأنه وافق على تطوع ابنهما في حرب فلسطين، ولكن الفيلم لا يلمح الى عقدة أوديب أو إليكترا، إنه يمس العامل النفسي الفرويدي بحذر شديد، حتى كراهية علية لأمها، مرتبطة في جزء كبير منها بأن علية كانت أيضا عشيقة لكمال، الرجل الذي جعلها تشعر بأنها امرأة.

شخصية الأم في الفيلم عموما قدمت بكثير من التفهم لما فعلته، فهي لم تحب حلمي باشا أبدا، وهي تتذكر انتهازيته، فبعد أن كان شابا عاديا، ترك حزب الوفد بعد أن تزوجها، وواصل رحلة الصعود والثراء، وهو الذي وافق على أن يتطوع ابنه سعد في الحرب، فيبتعد عن أمه حورية، ويقدم الفيلم رقصات رومانسية بين القبطان كمال وحورية قبل علاقتهما الجسدية، لقد أحبته بالفعل، والأم لم تقتل زوجها، وإنما هو الذي انفعل ثائرا بسبب سفرها، وترك ابنتهما بمفردها، فمات بأزمة قلبية.

حتى عندما يتخيل سعد أن أمه في لقاء جسدي حميم مع عشيقها، نكتشف أن الأم تريد أن تضع حدا للعلاقة، ثم تغادر المكان، فيقوم سعد بقتل العشيق، بالمسدس الذي تعطيه له علية.

الأم في الفيلم تبدو خائنة، ولكنها أيضا ضحية لزوجها ولحياتها المغلقة التي سجنت فيها لسنوات طويلة، وكأن هذا الرجل الفظ الذي يظلم الفلاحين، والذي يمتلك تاريخا انتهازيا، يستحق ما حدث له، وسقوطه ليس مجرد ترجمة لفضيحة عائلية متوقعة، ولكنه عنوان لنهاية قادمة تخص الطبقة كلها، وهزيمته الشخصية ، بخيانة زوجته له، وبإقامة ابنته علاقة جسدية مع شخص غريب، تتقاطع مع هزيمته العسكرية، ومع فشل مهمته، التي ظن أنها لن تستغرق أكثر من أسبوعين.

لن يصاب الابن سعد بلوثة، ولن يفقد اتزانه بعد مأساة أبيه وأمه، وبعد أن قتل العشيق كمال لطفي، ولكنه سينتقل ببساطة من تصفية الحساب مع العائلة والطبقة، الي تصفية الحساب مع الإنجليز، ومع الخونة في حرب فلسطين، يتقاطع الخطان، ويمهدان الطريق لتغيير حتمي قادم.

في الدراما الإغريقية، يبدو الإنسان مسلوب الإرادة في مواجهة أقدار تحددها الآلهة، وفي معالجة يوجين أونيل، تبدو أقدار الإنسان في رغباته العارمة المختفية، وفي وحش الغريزة، وفي فورة الرغبة والجسد، أما في معالجة “الأقدار الدامية” فإن المأساة كامنة في العائلة وفي ظروف الوطن معا، في تناقضات الطبقة والحرب.

هذه الترجيديا شديدة التعقيد، عامة وخاصة، وفضيحة أسرة حلمي باشا مجرد نموذج لعالم ينتهي، وستؤدي حرب فلسطين الى التعجيل بهذا التداعي، وكأنها المرآة التي كشفت النفوس، وفجرت التناقضات، حيث تبدأ الخيانات، سواء في الحرب أو في العائلة، مع ذهاب حلمي باشا، وابنه سعد الى الحرب، والتي تنتهي بالخسارة والهزيمة، وهو نفس مصير العائلة.

تميّز فني

خيري بشارة

قدم خيري بشارة في فيلمه الروائي الأول مستوى فنيا جيدا للغاية، لقد سيطر تماما على الخطين اللذين تدور حولهما الحكاية، مشاهد القرية والفلاحين تبدو كما لوكانت فيلما تسجيليا من فرط دقة تفاصيلها، ومن براعة رسم لوحاتها، ومدير التصوير الكبيررمسيس مرزوق يسكب ظلاما حالكا على الأماكن الفقيرة، ويرسم بالنور ملامح الوجوه في مشاهدها الليلية، سنرى مساحات الظلام أيضا، ولكن لأسباب مختلفة في مشاهد القصر، وكأن الصورة تمهد للكارثة، أو كأنها تفضح ما وراء الثراء المادي.

لا يتعامل خيري بشارة مع قصة مثيرة حافلة بالصراع، ولكنه يتأمل ما وراء هذا الصراع، لذلك لم يتورط في إيقاع بوليسي سريع، أو في مبالغات حركية، فقام بتوظيف موسيقى مونا غنيم لإعطاء الجو العام للفيلم، بيانو وفلوت يشرحان المأساة في وجهيها، في الحرب وفي البيت، والمونتير عادل منير يمنح كل مشهد وقته، ويقطع بسلاسة، وبدون قفزات تربك المتفرج، مفاهيم كالحب والخيانة تأخذ أكثر من مستوى، من حب الأب والأم الى حب الوطن، ومن خيانة الأب الى خيانة الجيش، الحكاية إذن ليست مجرد فضيحة، أو عشق وانتقام، وكل العناصر الفنية تترجم المعاني التي تتجاوز هذه الفكرة.

قطعات المونتاج الذكية الى قصاصات الصحف  ساهمت أيضا بربط الخاص بالعام، وعلٌت بذكاء أحيانا على ما نراه، مثل القطع من وجه أم الخير الحزين، الى قصاصة بها إعلان عن فيلم بعنوان “وجه امرأة”، هذه القصاصات لا تعطينا خلفية عن الزمن التي وقعت فيها الأحداث فحسب، ولكنها جزء أساسي  من الحكاية، وهي أيضا حلقة الوصل بين الخاص والعام، وبين القصر والجبهة، وبين القرية والعالم.

يحيي شاهين في دور حلمي باشا قدم بشكل جيد حضور الشخصية الجسدي والرمزي، وإن كانت الشخصية تحتمل مزيدا من المشاهد، التي كان وجودها سيساهم في إثراء الدراما والصراع.

تفهمت نادية لطفي التغيير الذي حدث في شخصية الأم مقارنة بالمسرحية، فبدت كامرأة تبحث عن الحب، وليست كامرأة تريد أن تشبع رغباتها الجسدية، بينما قدم أحمد محرز شخصية متمردة على طبقتها دون خطب أو شعارات، ودون مبالغات حركية أو صوتية، حتى نطقه المضطرب للغة العربية، كان مقبولا بالنظر الى طبقته وتربيته.

لم تكن فاطمة بلحاج في مستوى دورها المعقد، حيث حافظت على تعبير وجه حاد وجامد معظم الوقت، بينما بدا سيد علي كويرات غريبا في أدائه لشخصية يفترض أنها جذابة، وقادرة على أن تفتن امرأتين معا، وزاد الأمر سوءا اختيار زوايا تصوير بعيدة له، ربما لتسهيل عملية دوبلاج حواره باللهجة المصرية، ففقدنا تعبيرات وجهه في كثير من المواقف الهامة.

ظهر علي الشريف في دور حمزة الشيخ الشجاع، فملأ الشخصية بحيوية دافقة، وبحماس مميز، كما قدمت إحسان القلعاوي دور أم الخير على نحو مؤثر، وترك أحمد زكي انطباعا جيدا رغم مشاهده القلية في دور خير، وكذلك  فعل علي عزب في دور صالح.

ليس سهلا أبدا ما فعله صناع فيلم”الأقدار الدامية”، من تحويل مسرحية نفسية مغلقة على شخوصها، الى فيلم منفتح على السياسة والمجتمع، هذه معالجة مختلفة تستحق التوقف والتحليل، وهذا عمل مدهش بتفاصيله وصراعاته.

 لعلها اختيارات البشر أكثر من أقدارهم المحددة، هم من يبنون ويحطمون، وهم من يختارون انحيازاتهم، وهم من يبدأون، أو يكتبون بأيديهم عبارة النهاية، سواء على مستوى الفرد أو العائلة، أو على مستوى الطبقة والوطن بأكمه.

Visited 95 times, 1 visit(s) today