الأزمة السورية.. والاختراق بآليات الدراما
غالبا ما تعزلنا الأعمال التلفزيونية في رمضان عن الأحداث والوقائع، فنعيش 30 يوما افتراضيا. لكن الدراما التلفزيونية هذا العام حاولت كسر القاعدة. ورغم أن الدراما المصرية حاولت توظيف حدث الثورة المصرية كسياق موازي أو متقاطع مع الأحداث، إلا أن اغلب مسلسلاتها تبقى في مستوى أفقي، لم تخترق فيه بناء الأحداث عموديا، وغابت الأحداث وحضر الأشخاص.
وقد تكون هذه من طبيعة الدراما المصرية أو الدراما التلفزيونية عموما (ما عدا بعض الأعمال السينمائية أو التسجيلية وبعض التلميحات هنا وهناك). لكن الدراما السورية كان لها رأي ومنحى عوضت به غياب الأحداث والثورات في التلفزيون بحضور القضية السورية كمادة أولية وواقعية على لائحة الكلاكيت.
كانت الدراما السورية، ولا تزال، حاضرة بقوة في تاريخ التلفزيون، في رمضان وعلى طول السنة. وكانت مواضيعها، الجدية والهزلية، يطغى عليها الشأن الاجتماعي والعاطفي.. والنفسي أحيانا. إلا أن هذه السنة كان حضورها في التلفزيون العربي نوعيا لافتا، حيث شد اهتمام المتابعينللمسلسلات الرمضانية بتسليطها الضوء على المسألة السورية لا كأزمة اجتماعية أو اقتصادية فحسب، بل بتصويرها كنظام وحدث سياسي. وهذا ما غاب عن “دراما ما قبل الثورة”.
هذه السنة، بعد سنتين على انطلاق الثورة السورية، أضحى الحديث عن ظروفها وحيثياتها ضرورة تصويرية، كل حسب وجهة نظره، إما نظامي (موالي للنظام الحاكم)، أو حر (مع الثورة). وتنوعت الوجهات لتركز بعض المسلسلات السورية على تصوير أثر الصراع القائم بين الثوار والنظام على المواطن السوري، كمسلسل “سنعود بعد قليل” لمخرجه الليث حجو، والذي تمحورت فكرته حول الاضطرار للهجرة بسبب الأوضاع في سوريا إلى لبنان كحل مؤقت أو دائم حسب ظروف “الحرب” في حين أن مسلسل “الولادة من الخاصرة” (منبر الموتى) في جزءه الثالث، حاول برؤيته أن يجسد سطوة النظام على الفرد؛ حيث يستغل فيه ضباط الأمن سلطتهم مثل المقدم رؤوف (عابد فهد) وأبو نبال (باسم ياخور) لقهر من يقف في طريق رغباتهموأهواءهم. وقد نجح التشويق الدرامي لمشاهد الانتقام وميلودراما الثورة في شد المشاهد ليشارك تراكمات القهر مع المظلوم أو يوميات الثائر المنتقم.
حاول المؤلف سامر فهد رضوان في هذا الجزء (تكملة لجزءه الثاني سنوات الجمر) أن يتغلغل في الواقع المعاش في سوريا اجتماعيا ونفسيا وسياسيا، وصوّر ببنائه الدرامي “العمودي” العلاقة بين الحس العائلي للفرد (حقوق، دفاع، كرامة،قرابة،…) وبين تحول الواجب الوطني (الأمن، الحماية،..) لرجال السلطة إلى فعل إجرامي. وقد حرصت كاميرا المخرج أيضا على أن لا تقف مع أي طرف، فتركت مبررات الأفعال تجر أصحابها إلى مآلهم. كما في حالة عزام (سامر إسماعيل) والمقدم فايز (ماهر صليبي)، وبين الثوار أنفسهم، كما في حالة جابر (قصي خولي) مع مهران (غطفان غنوم).
رغم أن المسلسل يكمل مسيرة أجزاءه الأولى، التي ركزت على العلاقات الأسرية والنفسية حين تواجه التغيرات الاقتصادية أو النفعية، إلا أن هذا الجزء يعالج شرارة الثورة السورية بأجزائها وتفاصيلها الاجتماعية والأمنية في سياق درامي أكثر جرأة مما سبق إخراجه. ورغم أن المسلسل تأثر (بشكل غير واضح) بتغيير الممثلين أو بطريقة الإخراج (المخرج السبيعي مكان المخرجة رشا شربتجي) الفنية والتقنية، فسيكفي المشاهد أداه الممثلين السوريين، لحد تصديق نمط حياتهم لا شخصياتهم فقط، فقد برع فيهم القاهر والمقهور بدموعه أو فرحه على حد سواء. إضافة إلى السيناريو الجيد الذي لا تكتمل بدونه جماليات الدراما البصرية.
يبدو المسلسل خاليا من مشاهد شبه توثيقية أو تسجيلية تعكس الواقع الحقيقي (لقطات فيديو، خطاب الرئيس السوري، الأخبار والإعلام المعروف، توظيف شخصيات حقيقية،… )، بررها المؤلف في رسالته بعد مقدمة الشارة أن “المسلسل ليس مسلسلا توثيقيا، إنما هو محاكاة درامية عن ما حدث ويحدث في بلدنا..”. ويمكنتشبيه المحاكاة كتقديم الكتابة بلا نقط على الحروف، لكل الحق في أن ينـّقط واقعه كما يراه.
إذا كان التلفزيون يقدم موادًا مرئية تغلب عليها “الطرافة والغرابة”، والدراما لا تخدم الحقيقة أحيانا، فالمسلسل في هذا الجزء ساهم بتقريب كواليس الثورة وخدم الحقيقة في تجرد أسبابها. وهنا نجح المخرج بتصوير ما يعرف بـ “الصورة النمطية” عن تخريب “الإنسانية السورية” جراء هذه الأزمة، إما في مشاهد الإهانة أو حرقة الأمهات، أو تكالب الانتهازيين على ظروف البلد.
تجدر الإشارة إلى أن مسلسل “سنعود بعد قليل” لمؤلفه (الرسام راجي في المسلسل) رافي وهبي، عالج السياق نفسه، أي الأزمة السورية كما سبق ذكره، بيد انه صورها كنتيجة اضطرارية وكأحداث مرهونة بالسياق الذي تعيشه سوريا وما تفرضه الساحة على الجوار، لا كاختراق للأسباب أو المعطيات والسيرورات الخاصة من الداخل.
يحاول المسلسلان التركيز على فكرة الثورة على الظلم بطرق مختلفة، فالأول يمثل الماضي بشكل فردي والآخر يمثل الحاضر بشكل جماعي. وقد يحتاج كل منهما إلى تحليل ونقد لكل أفكاره المطروحة.