“الأب” و”عنها”: من أفلام مهرجان القاهرة السينمائي

لقطة من فيلم "الأب" لقطة من فيلم "الأب"

الأب The Father

فيلم الافتتاح من إخراج الفرنسي فلوريان زيلر (عن مسرحيته)، وكتابة السيناريو للعملاق الإنجليزي المكرم في المهرجان، كريستوفر هامبتون، وبطولة أنتوني هوبكنز وأوليفا كولمان.

دراما شيقة صادمة، تثير الكثير من التأملات في المصير الإنساني، ليس بالمعنى الفلسفي النظري بل بالمعنى المادي الحياتي المباشر.. كيف يمكن أن يصبح الإنسان تائها، حائرا، ضالا، مشوشا، لم يعد يدرك الفرق بين الحقيقة والخيال، بين الماضي والحاضر، لا يمكنه التفرقة بين ابنته وفتاة أخرى جاءت لكي ترعاه في شيخوخته بعد أن تجاوز الثمانين من عمره. هذا هو “أنتوني” (أنتوني هوبكنز) الذي يعاني بشدة وهو يفقد ذاكرته تدريجيا وتختلط الأشياء والصور في ذهنه، يريد أن يتشبث بفكرة أنه لايزال قادرا على التعايش مع الواقع، وبأنه يدرك جيدا ما يحدث من حوله، يثور ويغضب كطفل كلما ذكرته ابنته “آنا” (كولمان) بحاجته للرعاية، لكن يأتي وقت، يلجأ إلى الصمت الحزين بعد أن يدرك أن لا فائدة من الجدال، وأنه فعلا أصبح عاجزا عن التأقلم مع حياته.

هذا فيلم من نوع دراما الحجرة، فهو يدور في مكان واحد.. داخل شقة في لندن. لكن براعة مخرجه تتجسد في القدرة على التلاعب بالمكان عن طريق تغيير ملامحه باستمرار، بحيث يعكس حيرة وتشتت عقل وذهن أنتوني، كما يربك المشاهد نفسه، لأن الفيلم مصنوع من وجهة نظر أنتوني، فنحن نرى الأشياء من منظوره الشخصي: الشقة شقته، لكنه ربما يكون قد انتقل من شقته الى شقة ابنته آنا التي تريد تكليف ممرضة شابة بالاشراف عليه ورعايته بعد أن تذهب الى باريس للعيش مع الرجل الذي تحبه.. لكنه يرى “آنا” أخرى بملامح مختلفة (الممثلة أوليفيا ويليامز)، تُحضر دجاجة لإعدادها للعشاء.. مع رجل آخر.. تقول له إنها لا تعرف شيئا عن الذهاب إلى باريس.. ثم تعود أنا الأولى (أوليفيا كولمان) لتنفي معرفتها بأي شيء يتعلق بـ “دجاجة” وتخبره أنها طلقت قبل خمس سنوات.

من الطبيعي أن يعتمد الفيلم كونه مأخوذا عن أصل مسرحي، على الحوار وأداء الممثلين بدرجة أساسية. إلا أن الحوار هنا ليس حوار الثرثرة المطلوب للشحر والتفسير، لكنه مكتوب بحيث يجسد التدهور التدريجي الذي يطرأ على الحالة الذهنية للبطل العجوز. وأما مجموعة الممثلين فهم على أعلى مستوى من الأداء، يتقدمهم بالطبع الممثل العملاق أنتوني هوبكنز الذي يبدو حينا غاضبا كطفل كبير يرفض بعناد الاستجابة لما هو مطلوب منه، يقاوم فكرة النسيان، يسعى لمعرفة الفرق بين ما يراه وما يقولونه له.. يمزج الخيال بالواقع، إلى أن يستسلم أخيرا باكيا على كتف الممرضة الشابة في غرفة قد تكون مستقره الأخير قبل الرحيل النهائي، داخل أحد بيوت رعاية العجائز.

من ناحية التعقيد الدرامي والبناء المتعدد الطبقات، يتفوق فيلم “مازالت أليس” Still Alice (2014) على فيلم “الأب”، ويتعمق أكثر في وصف ملامح الصراع بين الإنسان والمرض (الزهايمر) الذي يجعل ذاكرة بطلته (جوليان مور) تشحب تدريجيا بينما تكافح هي كفاحا مريرا من أجل التمسك بالوعي. ورغم أن أداء أنتوني هوبكنز يرتفع بالدور وبالفيلم، ويرتقى به كثيرا، رغم المكان الواحد (الداخلي) الذي تدور فيه مشاهد الفيلم، كما يساهم أداؤه البارع في إثارة اهتمامنا بمتابعة ما يحدث له، مترقبين ماذا يمكن أن يحدث لهذ الرجل رغم معرفتنا المسبقة بأنه لن يتمكن من الخروج من “حالته المرضية”، إلا أن هوبكنز لا يتجاوز أداءه في فيلم “الباباوان” The Two Popes الذي بلغ فيه ذروة مسيرته التمثيلية. ففي “الباباوان” أتاح الموضوع والحوار الذي كتب ببراعة كبيرة، والتباين الواضح بين شخصيتي الباباوين، الفرصة لأنتوني هوبكنز أن يبدع ويضيف ويضفي على الدور الكثير من عنده، من مشاعره، من خبرته الكبيرة في المسرح والسينما.

الفيلم المصري

“عنها” هو الفيلم المصري الذي شارك في المسابقة الرسمية بالدورة الـ42 من مهرجان القاهرة السينمائي، وهو من سيناريو وإخراج إسلام العزازي. وقد أثير الكثير من الجدل حول مشاركة هذا الفيلم بالمهرجان، ليس لأسباب فنية، بل بسبب اتهامات وجهت من طرف عدد من الفتيات والنساء، إلى مخرجه بالتحرش الجنسي.

أما موضوع الفيلم فهو يدور أيضا حول شخصية واحدة (امرأة تدعى درية تؤديها ممثلة جديدة هي ندى الشاذلي) تعاني من الاضطراب النفسي الشديد بعد موت زوجها الذي كانت ترتبط به ارتباطا عاطفيا وجسديا شديدا كما نفهم بصعوبة.

لقطة من الفيلم المصري “عنها”

الفيلم، يدور بأكمله، شأنه شأن فيلم “الأب”، داخل ديكور واحد هو ديكور الشقة الفخمة التي تعيش فيها درية مع زوجها “عباس” (صلاح فهمي) في أحد أحياء الطبقة البورجوازية في قاهرة الثلاثينيات، في زمن الملك فؤاد الأول. وفي المشهد الأول وهو مشهد طويل يعاني من الترهل والايقاع الهابط، نشاهد ملامح من العلاقة بين درية وزوجها.. هي في أواخر العشرينيات وهو في الأربعينيات. ونحن لا نعرف شيئا عنه ولا عنها وربما ليس هذا مهما فقد يكون التجريد مقصودا، لكن المخرج في أول أفلامه الروائية الطويلة، سيعود ليشرح ويفسر ولكن من خلال الحوار وليس الصورة وتداعي الصور. وهو يحاول- على استحياء- الإيحاء بأن درية مرتبطة جسديا بقوة بهذا الرجل. لكن المشكلة الواضحة في هذه المشاهد الأولى كما في سائر مشاهد الفيلم، تتعلق أساسا، بضعف الأداء التمثيلي، وسطحيته، رغم محاولات ندى الشاذلي الاجتهاد، وخاصة أن صلاح فهمي لا يبدو مناسبا للدور وللفيلم عموما، فأداؤه مفتعل، ضعيف، يفتقد للحميمية والثقة، ونطقه للكلمات غير واضح، كما يتضح غياب أي انسجام بينه وبين الممثلة التي تؤدي أمامه. وبشكل عام هناك شعور عام في المشاهد الأولى التي يظهر فيها الاثنان معا، بأن اللغة التي يتكلمانها هي لغة غير لغة الحوار المصري الذي نعرفه، وكأننا أمام شخصيات “متمصرة”.. كما أن هناك الكثير من التعبيرات المفتعلة المضحكة التي تتكرر على لسان درية (مثلا) فهي تصف الطعام بأنه (بديع).. أو أن (ريحته بديعة) وقد تكون هذه محاولة لمحاكاة لغة الحوار التي كانت سائدة في الماضي في أوساط تلك الطبقة. لكنها غير ناجحة.

الفكرة الأساسية هي كيف يؤدي الفقدان (الجسدي أساسا أي الجنسي والارتواء الذي يجمع بين رجل وامرأة) إلى كل هذاالعذاب بعد غياب أحدهما عن الآخر. هذه الفكرة ليس من الممكن تجسيدها في السينما من دون مشاهد جريئة، ملموسة، مادية، واضحة.. تجمع الرجل والمرأة في الفراش، تشعرنا باستبداد الرغبة لدى المرأة، وعنفوان الرجل في الاستجابة مع تلك الرغبة.. وكلها مشاهد مفقودة وغائبة عن الفيلم. لذلك يمضي الفيلم بعد أن يختفي “عباس”، ولا نعرف سوى أنه قد مات فجأة من دون مقدمات ولا شرح ولا تفسير (وليس هذا مهما بالطبع)، لكي يتركز الاهتمام على معاناة المرأة التي تصبح وحيدة تعيش مع خادمتها المخلصة التي تحاول ارضاءها بشتى الطرق دون جدوى.

ولن نفهم سر عذاب المرأة تماما لأننا لم نلمس أساسا، قوة ارتباطها الجسدي بالرجل الذي غاب. ثم في مشهد متأخر كثيرا في الفيلم، يأتي شقيق درية (أحمد مالك في دور غير ملائم له لا يجد نفسه فيه لسطيحته الشديدة ويبدو متلعثما فاقدا القدرة علىالنطق الصحيح للكلمات) لكي يروي لها (ولنا) كيف ولماذا قُتل زوجها: فقد كان طبيبا، ثم تورط في تعذيب شابين من الشباب الثوري الثائر ضد القصر الملكي، ولكن البوليس السياسي أطلق سراح هذين الشابين، فما كان منهما سوى أن انتقما لما وقع عليها من تعذيب بقتل عباس. ونحن نعرف الحقيقة من خلال هذا الحكي اللفظي تماما كما تعرفها درية لأول مرة. ولكن درية تقابل هذه المعرفة ببرود تام، كما لو أن الأمر لا يعنيها. وتتجه لتناول الطعام!

هناك براعة لاشك فيها في تصميم كثير من المشاهد من الناحية البصرية بفضل براعة مصمم المناظر البارع كالعادة أنسي أبو سيف، والتصوير الذي يستخدم الإضاءة الخافتة والنور الطبيعي داخل ديكور الشقة، والاستفادة من تناقض الألوان، وما بين العتمة والضوء، ولكن من دون أي نجاح يذكر يساهم في تقريبنا كمتفرجين من الحالة الذهنية للبطلة (على العكس تماما من فيلم الأب)، فهي مثلا ترص الأطباق الفخمة التي تعد من التحف الأصيلة على الأرض ثم تجري فوقها فتحطم بعضها دون أن تجرحها، فلا نفهم هل تفعل ذلك لكي تجهض نفسها بعد أن عرفنا أنها حامل من عباس، أم أنها تفعل ذلك فقط كنوع من التعبير عن الرغبة في “تدمير الذات” فربما تتعثر وتسقط لنتتهي حيتها؟!

لا شيء يبدو واضحا لكنها فكرة استهوت على ما يبدو مخرج الفيلم فأراد تجسيدها لتحقيق الدهشة البصرية، دون مضمون ما. لذلك جاء الكثير من مشاهد الفيلم مصنوعة صنعا لإثارة الدهشة دون أن تضيف شيئا إلى الدراما النفسية التي يفترض أنها تجري على الصعيد الداخلي.

المخرج إسلام العزازي

وفي مشهد آخر تقوم بتحريك قكع الأثاث بشكل فوضوي، ثم تسد فتحات نوافذ الشقة، ثم نراها تحت الدوش في الحمام (بكامل ملابسها بالطبع!) في لقطة تجعلها تبدو كما لو كانت تشنق نفسها، ثم فجأة، تغادر الحمام وتجري.. وهكذا دون أن نفهم ما الذي حدث. ويميل المخرج يضا لتحريك الكاميرا كثيرا حول الشخصيات القليلة المحدودة، دون أن يكون لهذه الحركة المستمرة بالكاميرا المهتزة تأثير ما، سوى إثارة الضيق بسبب اضطراب الصورة وعدم ثباتها.

هناك كثير من الإطالة والثرثرة والتكرار، خاصة عندما تغني ندى الشاذلي (وهي مغنية أصلا) أغنية عتيقة من أغاني سيد درويش وكلمات بديع خيري (اشمعنى يابُخ.. الكوكايين كُخ).. وهي تغنيها وتعيد وتزيد فيها، وكأنها سكرانة، وربما كانت كذلك لكننا لا نعرف. ومع تكرار حركات الجنون وفقدان البوصلة العقلية داخل تلك الشقة، تشعر بها جارتها وتعرض مساعدتها لكنها ترفض. وفي مشهد وحيد قرب النهاية نصل أخيرا إلى فكرة المعاناة الجسدية عندما تعانقها خادمتها بقوة ويلتحم الجسدان معا وكأن الخادمة تريد أن تعوضها عن الحرمان الجنسي.

الفيلم يلمس الحالة السياسية في البلاد من بعيد، من الخارج، من خلال السرد الحواري الساذج الذي يقتل الفكرة. فلا نحن نعرف شيئا عن ذلك العصر ولا عن سبب ثورة الشباب على القصر الملكي، ولا سبب ارتباط عباس بخدمة القصر وممارسة التعذيب على الثائرين، ويقال إنها كانت المرة الأولى لتعاونه مع القصر، ولكن هذا كله ليس مهما، فالمهم هو استعراض العذاب الفردي لتلك المرأة من دون أن نعرف تحديدا سر عذابها وبالتالي لا يمكن للمتفرج أن يتعاطف معها.

أما عدم الفهم وغياب التعاطف، فهما نتيجة طبيعية لفشل المخرج في القبض على خيوط موضوع فيلمه وشخصياته، ورسمها بحيث يجعل لها معنى في سياق سينمائي سلس يتمتع بالجاذبية. وهي مشكلة متكررة في كثير من أفلام ما يسمى بـ “السينما المستقلة”حيث تطغى الفكرة النظرية والاهتمام الشكلاني، على القدرة العملية على تجسيدها في سياق سينمائي واضح وممتع يمكن أن يثير للاهتمام. وحتى عنوان الفيلم يبدو مفتعلا وسخيفا وبلا معنى.. فما معى “عنها”؟ عن من تحديدا؟ ولماذا عنها وليس عنك؟ لا أظن أن أحدا يهتم!

Visited 54 times, 1 visit(s) today