“الأب”.. رحلة داخل عقل يتلاشى
بقلم: أوين حليبرمان
ترجمة: رشا كمال
تناول العديد من الأفلام الدرامية الجيدة موضوع مرض الخرف، مثل فيلم “بعيداً عنها” Away from her، وفيلم “لا تزال أليس” Still Alice. ولكن يب أن أعترف أنه كان دائما عندي بعض التحفظات عليها، فحين تبدأ الشخصية محور الأحداث في الابتعاد رويداً رويداً عن ابنائها البالغين، وعن العالم المحيط بها، أجدها من واقع مشاهداتي تبدأ ايضاً في الابتعاد عن الجمهور. على الأقل فهذه هي حبرتي، مع الجمهور. ولم أكن واثقا قط كيف يكمن التغلب على هذه المشكلة.
أما في فيلم “الأب” فيقدم لنا الكاتب المسرحي والروائي الفرنسي فلوريان زيللر أولى تجاربه الاخراجية الواعدة برؤية مختلفة وناجحة عن هذا الموضوع. والفيلم مأخوذ عن مسرحيته التي قدمت على المسرح عام 2014.
في بداية الأحداث، تعود آنا ( أوليفيا كولمان) الي شقتها الواسعة الفخمة في لندن، التي بطنت حوائطها بالكتب، والتي يعكس أثاثها مستوى راقيا، وجدرانها تلونت بلون أزرق سماوي. تحيي والدها (أنتوني هوبكينز) صاحب الثمانين عاماً ويبدو انه بحاجة واضحة لمن يعتني به. فقد بدأت ذاكرته تتداعى، رغم احتفاظه بروحه المشاكسة. وهي نفس الصفات التي نتوقعها من الممثل أنتوني هوبكينز، ولكنها هنا مجرد قشرة تغلف الطبقات العديدة من الأداء الرائع والمؤثر لتقلباته المزاجية. ويدفعنا الممثل إلى الاعتقاد بأن تلك التصرفات كانت الدافع وراء رحيل الممرضة المسؤولة عن العناية به. وكان يمكن ان تستعين ابنته بممرضة أخرى ولكن الأمر ليس بمثل هذه السهولة. فهي تخبره أخيرا باعتزامها الانتقال إلى باريس لتكون مع الرجل الذي تحبه. أما ما كان على طرف لسانها -ولم تستطع قوله- فو أنه قد آن الأولان لكي يذهب للإقامة في إحدى دور رعاية المسنين.
وأثناء تجوله في غرفة المعيشة يقابل انتوني رجلا يجلس ويطالع جريدة الجارديان في هدوء. انه زوج ابنته (يلعب دوره الممثل مارك جاتيس)، فهم يعيشون جميعا في نفس المنزل. وبعد لحظات قليلة تعود الابنة من الخارج، ولكنها امرأة أخرى غير تلك التي رأيناها من قبل ( تلعب دورها الآن أوليفيا ويليامز)، تخبرنا بأنها قد احضرت دجاجة لتحضير العشاء.
ينتاب أنتوني الذهول من التغييرالمفاجئ للواقع من حوله، فيحاول التأقلم بسرعة ويشير إلى الزوج، ولكنها تنظر اليه نظرة خالية من أي تعبير. فلا وجود للزوج (فهي مطلقة منذ خمس سنوات) ولا يوجد دجاج ايضاً.
أي السيناريوهات إذن هو الحقيقة، وأيهما نابع من هلوسات أنتوني؟
لا نستطيع تحديد ذلك، ولكن ما نراه أمامنا في كلتا الحالتين يبدو حقيقياً، وهذه هي الخدعة البارعة التي يحبكها الفيلم.
يضعنا المخرج داخل واقع حقيقي وبسيط، ليكشف لنا لاحقاً أنه كان مجرد سراب. حين ينساب الواقع الصلب من بين أصابعنا كالرمال، ونتساءل هل كانت الحقيقة التي رأيناها من قبل هي السراب؟
يعطينا الفيلم أدلة صغيرة نتحسس بها طريقنا، وفي كل مرة يسحب البساط من تحت أقدامنا، ويغرينا بفكرة أن هذه المرة ما نراه فعلاً هو الحقيقة.
يقدم فيلم الاب تناولا جديدا ومختلفا لمرض التدهور العقلي عن الأفلام السابقة، فهو يضعنا داخل ذهن انسان بدأ يفقد عقله مصوراً ذلك بإيحاء أن العقل هو العضو المسؤول عن التجارب المتماسكة منطقياً.
يبدو أن الفيلم في بعض الأحيان يضع الملك لير في حقبة مسلسلات توايلايت واحيان اخرى يمزج بين فيلم (البريق-Shining) والمسلسلات الدرامية الطويلة للكاتب هارولد بنتر فى مسكن الشياطين.
الفيلم من نوعية افلام الغرفة أو المكان الواحد ولكنه يتمتع بحيوية فنية تحافظ على تحريف الواقع الظاهر أمامنا دون أن يبدو كحيلة مبتذلة، لما يحتويه الفيلم من إحساس واضح بحالة البؤس المحزنة من تلاشي أثر الإنسان في الحياة. فأنتوني ليس مستغرقا في أوهامه فحسب، بل يرى شظايا حياته وهي تتراقص مع أسوء مخاوفه، لقد أصبح عقله مثل جهاز التحكم عن بعد يبدو سليما ومعيوبا في نفس الوقت، يتشبث بالحياة في كل مرة يضغط فيها على الحلم المتكرر لليوم التالي.
تعود “آنا” وبصحبتها الممرضة الجديدة ( تلعب دورها الممثلة ايموجين بوتس) وهي شابة صغيرة وبسيطة. تقدمها لوالدها الذي ترتفع معنوياته برؤيتها فيغازلها ويحتسي الشراب. فهي تذكره بلوسي، شقيقة آنا، وهي فنانة تشكيلية (لوحاتها معلقة على جدران المنزل). ولكن يعم الصمت في المكان في كل مرة يذكر فيها اسمها. وهناك اأضاً زوج آنا -أقصد زوجها الحقيقي- بول الي يقوم بدوره الممثل (روفوس سيويل) باستياء غاضب وحاد، يجعلنا نجزم بوجوده في الحقيقة، فهو أكثرهم إصراراً على ضرورة ذهاب انتوني لدار المسنين.
مشاهدة فيلم الأب تدفعنا إلى تساؤل من نوعية “أنا أرى خيالات، هل تراها انت أيضا؟” المتعلقة بمرض الخرف.
ولكننا نجمع قطع الأحجية التي تمثل حياة انتوني، ونحن ندرك أن هذه القطع هي نفسها التي بدأ يفقدها واحدة تلو الاخرى. نراه مشوشاً ومرتبكاً في التعرف على الأشخاص المقربين منه، مما منح المخرج مساحة للتلاعب بمهارة بالممثلين من حوله.
وانتوني على دراية بذلك ويجهله في نفس الوقت، فهو مثلنا تماما يؤمن ويصدق ما يراه أمامه فعلاً.
وقد تألق جميع الممثلين في أداء أدوارهم في الفيلم بكل حيوية ونشاط. تمنح أوليفيا كولمان لمسة رقيقة وحنونة لأدائها تثلج قلوبنا معها، اولكن هوبكنز كان مذهلا حقاً في أدائه. فهو لوهلة يمثل بسحر يكلله الشيب، وبيقين واضح. ولكن ما غلف أداءه واستحوذ عليه ونقله الى مستوى آخر، هو ذلك الارتباك الطاغي عليه والمغلف بحالة من الهلع. فأنتوني لا يفقد ذاكرته فحسب، بل يفقد نفسه أيضاً.
والانتصار الذي حققه هوبكنز بادائه كان رغم أنه يمثل فعلا،ً إلا أنه يجعلنا نعيش معه هذه الحالة.
عن مجلة “فاريتي”- 27 يناير 2020