“اشهِرُوا السكاكين”.. “أجاثا كريستي” بنكهة المَرَح
أنْ يظهر في فيلم رجلٌ عجوزٌ مقتول وتحته سكين فهذه بداية ممتازة لفيلم غموض، وأن يظهر مُشتبه بهم كثيرون فهذا إكمال جيِّد، وأن يكون المشتبه بهم عائلة المجنِّي عليه فالإثارة أشدّ، وأن نزيد لك من جرعتها بوصول محقق مُحنَّك فلا بُدَّ أن تتشبث في مقعدك أثناء المشاهدة، ثمَّ يظهر أنَّهم جميعًا قادرون حقًّا على قتل رئيس العائلة هنا يبدأ نشاطك العقليّ في الازدهار، ثم يضعون لك شابَّة لها دور أساسيّ في حكايتنا وترى أنَّ الجميع بلا استثناء يشكُّون بها وأنت معهم تحاول حل اللغز المُحيِّر، حينها تكون على لقاء بفيلم ” “أشهروا السكاكين” Knives Out.
فيلم “اشهراوا السكاكين” Knives Out من تأليف وإخراج رايان جونسون. وتمثيل دانيل كريج (ممثل جيمس بوند)، كريس إيفانز (ممثل كابتن أمريكا)، أنَّا دي آرمس، مايكل شانون، كريستوفر بالمر، وغيرهم الكثير. وهو فيلم من تصنيف غموض، كوميديا، جريمة. تكلَّف 40 مليون دولار أمريكيّ، ثم حقق نجاحًا كبيرًا حيث تعدَّتْ إيراداته ربع المليار من الدولارات الأمريكيَّة.
الفيلم دون إفساد للأحداث، يتناول قصة عائلة ثريَّة تعيش في قصر فخم ضخم ناءٍ عن المدينة. الأسرة مُكوَّنة من مُؤسسها “هارلان ثرومبي” العجوز الثريّ الذي يعمل كاتبًا وصاحب دار نشر ضخم، وأمّه التي ما زالت على قيد الحياة، وأبنائه وثلاثة أحفاد من أبنائه المختلفين. وتعيش معهم سيدة تعمل خادمة للبيت، وأخيرًا مُهاجرة شابَّة تعمل مُمرِّضةً لدى العجوز، وقد اتخذها صديقة ورفيقة في حياته المعيشية في القصر الكبير. فهي مُحدِّثته بالصباح، وكاتمة أسراره في الظهيرة، وممرضته في المساء، ثم تلعب معه لعبته المُحبَّبة حتى ينام. هذه خريطة البيت -إنْ صحَّ القول- الذي وقعت فيه الجريمة.
في إحدى الليالي تعقد الأسرة حفلاً والجميع حاضر ومنشغل في حوارات ومحادثات. وفي الأرجاء تدور مشاجرات بين الكاتب العجوز وبين ابنه “والت” الذي قرر العجوز إقالته من أعماله، ومشاجرة بينه وبين حفيده الأكبر “رانسوم” (كابتن أمريكا). ونتبين أنه قبلها هدد زوج ابنته (أبا رانسوم)، وأمَّ حفيدته الأخرى. ويتبين أن الجميع يكره العجوز ويتمنى أن يتخلص من المشكلة التي سببها حتى لو كان طريق الخلاص هو موت العجوز. وفي الصباح تُفاجأ الخادمة بالعجوز قتيلاً. ويبدأ المحقق الخاصّ الذي تمَّ استئجاره من مجهول بحثه مع بقية أفراد الشرطة. والجميع في ترقُّب شديد إلى أن تُفتح الوصيَّة وتصل المفاجآت إلى ذروتها وتتجه أصابع الاتهام إلى هنا وهناك. فمَنْ القاتل يا تُرى؟ ومَن استأجر المحقق؟ وما هي حقيقة الممرضة الشابَّة؟!
بعض روايات أجاثا كريستي تجعل المرء يشعر بالحنين في هذا الفيلم، فالفيلم جاء باستلهام واضح وبارز لرواياتها. فهناك جريمة القتل في غرفة مغلقة، وأيضًا القتيل هو كبير العائلة، وهناك السيدة بالغة الهِرَم (والدة القتيل)، وهناك المحقق البارع الذي لا يضاهى الذي يجعل الجميع يظنونه على خطأ ثم يكتشفون أنَّه أدار كل شيء بحكمة -وقد كان هذا المحقق في رواياتها اسمه “بوارو”، وهناك أخرى اسمها “الآنسة ماربل”-، والكثير من الملامح الأخرى. وسيكون أيضًا من السهل عليك اكتشاف أو توقُّع مسار الأحداث؛ بسبب السير المنضبط على خطى حبكاتها المثيرة والمشوِّقة. أمَّا إنْ لمْ تكنْ قد قرأت رواياتها فستمتلأ متعةً وانبهارًا. لكنْ في كلتا الحالين ستقضي وقتًا مُمتعًا حقًّا.
العنصر المُميِّز في هذا الفيلم، هو أنَّ فيلم الغموض مَرِحٌ إلى أقصى حدّ ممكن. هذا ما يميز التجربة بشدة. وأظنُّه السبب الرئيس في التقييم البالغ الذي ناله الفيلم من النقاد. وكونه مرحًا مختلف عن كونه فيلم غموض وضحك؛ فالمرح غير الضحك. الضحك أشدُّ كثافةً ولكنَّه قصير الأجل جدًّا، أمَّا المرح فأقلُّ كثافةً لكنَّه طويل الأجل، يُشعرنا بمزيج عجيب من الارتياح والسعادة ودفء الأجواء. وباختصارٍ هذا الفيلم لا يعدك بأن يضحكك لكنَّه يعدك بقضاء وقت لطيف، ممتع لعقلك وقلبك.
القضيَّة الجديَّة الوحيدة التي جاء الفيلم على ذكرها هي قضيَّة “الهجرة” و”اللاجئين” التي تشغل الذهن الغربيّ والأمريكيّ في تلك الآونة؛ بسبب موجات ضخمة من الهجرة واللجوء السياسيّ. وقد برز الحديث عن هذا بسبب اعتلاء عديد من الرؤساء الغربيين الحُكم من اتجاه اليمين وغالبهم من اليمين المتطرِّف. وقد ذُكرت هذه القضيَّة بالنصّ مرات في الفيلم. بل جعلها أحد مُبرراته الدراميَّة المُوجِّهة للأحداث حينما جعل بطلة الفيلم مهاجرة من “أمريكا الجنوبيَّة”. وقد نوَّه أيضًا على ملامح عديدة من نظرة الأمريكيين لهم، ولفكرة الهجرة إليهم من الأساس.
وقد استطاع صانع الفيلم إدخال مزيج البهجة عن طريق وسائل عدة؛ مما يدلُّ على مهارته وموهبته. ولعلَّ أول ما نجح فيه هو استدعاء الماضي ولذته في روايات أجاثا، أو ما يُسمَّى بـ”نوستالجيا”. ثم أبدع في الاستلهام فقد أمدَّ المشاهد بالكثير من الحقائق في ثلث الفيلم الأول؛ وقد يُفاجأ المشاهد بهذا -وقد اعتاد معرفة القليل في أفلام الغموض وحل الألغاز- حتى يتطرق إليه السؤال: هل كُشف الفيلم منذ البداية؟! ثم يكتشف أنَّ كل ما أمدَّه المؤلف به هو مجرد البداية فقط. وتستمرّ القصة الممتعة.
وقد أغرقنا صانع الفيلم بمصادر للضحك، أو بمُولِّدات الضحك. فهناك مفارقات الأحداث المبدئيَّة، وهناك اختلاف الشخصيَّات وتنوعها، وعلاقاتها بعضها ببعض. وكذلك رسم أبعاد شبه كرتونيَّة لبعض الأشخاص. ووجود لازمات حركيَّة مثل “تقيُّؤ البطلة”. وأيضًا اعتمد بشكل رئيس على ترسانة الممثلين الذين أتى بهم ليمثلوا. وقد كان لهم تأثير ضخم على نجاح التجربة. وأضافوا الكثير من الحيويَّة للتجربة ككل؛ فضلاً عن ذكائهم وفهمهم لأبعاد كل شخصيَّة منهم، مما أدَّى إلى “فاعليَّة الحالة التمثيليَّة”. وكثير من التجارب الفيلميَّة تفشل بسبب انعدام حالة الفاعليَّة هذه. وستلمس مدى قدرات الممثلين في كل مشاهد الفيلم.
وقد اعتمد صانع الفيلم على وسائل الاخراج، في تدعيم تجربة المزج بين الغموض وروح المرح. فمثلاً أصاب كلَّ الإصابة في اختيار موقع التصوير، وتصميم الإنتاج. البيت حقًّا مُذهل، وصنع حالة وحده. كما أنَّ المخرج لمْ يقف بعدها مكتوف اليدين، بل أجاد التصرُّف في هذا المتحف المفتوح ليصنع لوحات، كما أنَّه قد أراد أن يتميَّز في التصوير وزواياه والتنويع منها. كما اعتمد أيضًا على حركات الكاميرا الأفقيَّة والرأسيَّة، والحركة المُفاجأة، والحركة الاهتزازيَّة، وحركة “دوللي” في أحد المشاهد. كل هذا أعطى التجربة مزيدًا من الجمال والأناقة مع إكمال الصورة بالقصر والممثلين. أمَّا ما بعد الإنتاج فقد تميَّزت تجربة “المونتاج” في الفيلم بشدة، بل قد جعلها أحد أعمدة نجاح الإخراج للفيلم؛ حيث من دونها لنْ تكتمل تجربة التصوير المميَّزة.
وقد استخدم الموسيقى بشكل جيِّد، خاصةً إعطاءه الدور الأكبر للآلات الوتريَّة؛ بما تستطيع إدخاله على المشاهد من التوتُّر والبهجة مُمتزجتَيْن سويًّا. وهذا ما أضاف للتجربة تميُّزًا. ويا أصحاب السينما العربيَّة ويا صانعيها تعلَّموا. هذا فيلم لمْ يعتمد على إسفاف أو ابتذال وقدَّم تجربة مدهشة وفريدة من عناصر أساسيَّة مُضاف عليها عنصر غير أساسيّ لكنَّه الأهم؛ إنَّه “الموهبة”.