“احكيلى” لماريان خورى.. رغبة البوح والمصارحة
فى فيلمها الوثائقى الجديد الفائز بجائزة الجمهور من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى تستعرض المخرجة ماريان خورى قصة حياة 4 نساء من عائلة فنان السينما المرموق يوسف شاهين وهم جدتها ماريكا، أمها ايريس، ابنتها سارة وهى من سمى الفيلم “احكيلى” فالموضوع قائم بالاساس على فضفضة بين ماريان وابنتها ففى المشهد الأول للفيلم نرى ماريان و سارة يناقشان فكرة الفيلم ولماذا تريد ماريان تقديم فيلم عن أمها وعن التشابه الكبير الذى تراه ماريان بين الجدة وسارة.
يقال أن الانسان إذا كان فى حالة من الضيق والألم النفسى بحاجة للبوح حتى يزيل عن نفسه هذا العبء ؛ بالنسبة للفنان البوح ليس فقط فى الجلوس مع شخص قريب منه والتحدث إليه عن مشاكله وهمومه لكان أن يقوم بعرض هواجسه وآلامه على الشاشة حتى يستطيع تجاوزها وهذا ما فعلته ماريان فى فيلمها حيث قامت بكشف العديد من التفاصيل عنها وعن أمها وابنتها تفاصيل قد تكون حميمية للغاية؛ فخلال أحداث الفيلم كشفت ماريان أن أمها لم تكن ترغب في انجابها وكانت تريد إجهاضها لولا أن عمتها تدخلت فى اللحظة الاخيرة وتحدث الفيلم عن إدمان الأم للكحول و دخولها فى فترة اكتئاب طويلة ، ماريان طوال أحداث الفيلم تؤكد ان أمها عاشت حياة لم تكن مفترض ان تعيشها ، حياة لم تشبهها حيث فُرض عليها ان تتزوج رجلاً أكبر منها بعشرين عاماً وهو والد ماريان وهو ما تسبب فى تعاستها.
هناك الكثير من التفاصيل الخاصة جدا قالتها ماريان بجلاء ووضوح وهذا أمر غير معتاد فى الثقافة المصرية والتى بطبعها ثقافة محافظة تميل لإظهار الجوانب الإيجابية فقط، تفاصيل يصعب ان نقولها حتى لاصدقائنا فما بالك أن تقولها للجمهور وهذا أمر يمكن اعتباره فى جينات هذه العائلة فخال ماريان المخرج الكبير يوسف شاهين قدم تفاصيل دقيقة عن حياته فى أفلامه (ثلاثية الاسكندرية وحدوتة مصرية) وكان له السبق فى أن يقدم سيرته الذاتية على الشاشة وهو شئ لا نعتاده كثيراً فى السينما المصرية.
إذن هذه العائلة قادمة من ثقافة مختلفة قادرة على أن تتصالح مع آلامها وماضيها بأن تقوم بحكيه ومشاركته مع الجميع، شقيق ماريان الأكبر أستنكر الفكرة وقال خلال ظهوره فى الفيلم لماذا تشاركى هذه التفاصيل العائلية فهذا أمر غير مستحب لكن ماريان التى ورثت جينات خالها قررت المضى فى التجربة.
الفيلم شهد كذلك ظهور يوسف شاهين فحضوره أضفى بهجة شديدة حيث أعطى شهادته عن أخته وزوج أخته وخلافه معه وعن المشكلة التي مر بها والد ماريان عندما تم تأميم أمواله وسفرهم إلى لبنان في الستينات أي ظهور لشاهين فى الفيلم كان يسرق الكاميرا من الجميع شخصية وكاريزما هذا الرجل تجعلك تشعر كأنه أحد أفراد عائلتك.
من الأشياء المثيرة التى كشفتها ماريان هو تجربة فشل زواجها الأول وكيف أنها تركت منزل زوجها بعد الزفاف بفترة قصيرة وكأنها تتجنب تكرار مأساة جدتها وأمها بأن تعيش مع شخص يسبب لها تعاسة بقية عمرها، وتجربة زواجها الناجح من زوجها الثانى والد أبنائها رغم اختلاف الديانة هو مسلم وهى مسيحية
احكيللى هو فيلم شديد الحميمية والدفء لانه صادق تماما فيما يحكيه، عندما تحكى شيئا صادقا يصل للقلب قد يكون ذلك كليشيه لكنه حقيقى فالصدق فى هذا الفيلم يغطى على فقر التكنيك فماريان صورت أغلبية مشاهد الفيلم بكاميرا هاتف محمول حيث لم تريد أن تستخدم كاميرات احترافية حتى لا يفقد الفيلم عفويته وأن تجعل المتحدثين يخرجون ما فى جعبتهم بدون شعور أن هناك كاميرات ومعدات كثيرة تراقبهم.
من المشاهد المميزة فى الفيلم عندما تحكى الحفيدة سارة عن أزمة الهوية التى تعانى منها بسبب اختلاف ديانة والديها وتعليمها فى مدارس فرنسية وانحدارها من اصول غير مصرية فهى غير قادرة على التكيف مع المعيشة فى مصر بسبب نمط الحياة الذى لا تشعر معه بالالفة ؛ هذا المشهد لمس وتراً حساساً لا نتحدث عنه كثيرا وهى أزمة الهوية التى يعانى منها الكثير بسبب اختلاف الديانة والأعراق فيجد الشخص نفسه غير قادرا على الاندماج فى مجتمعه أهمية البوح هنا أن يستطيع الانسان أن يتعامل مع المشكلة ويتجاوزها وهذا ما نجحت فيه ماريان اما سارة فأزمة الهوية ستبقى معها حتى تستطيع تجاوزها.
شاهين فى أفلامه “اسكندرية ليه؟” و”حدوتة مصرية” كان قد قدم شخصية اخته والدة ماريان (جسدتها ليلى حماده فى الأول وماجدة الخطيب فى الثانى) و طرح مسألة زواجها بشخص أكبر منها لذلك فى فيلم ماريان كان يتم القطع مونتاجيا على مشاهد الأم من هذه الأفلام كنوع من التناص السينمائى وفى واقع الأمر الاستعانة بمشاهد من افلام شاهين لم يكن موفقا كثيرا حيث بدا وكأنه رغبة من صناع “احكيللى” فى زيادة مدة عرضه فالافضل أن يعتمد الفيلم على نفسه تماما دون الاستعانة بمشاهد من افلام أخرى و إن كان هذا هو حال هذه العائلة مع شاهين فهو دائما بالنسبة لهم الكبير الذين يستظلون بظله.
المميز أيضا فى هذه العائلة هو احتفاظهم بأرشيف ضخم للحظات كثيرة من حياتهم حيث وظفت ماريان فى شريطها الوثائقى العديد من المواقف فمثلا نرى العائلة كلها مجتمعة تحتفل بالكريمساس، هناك تسجيل نادر للجدة ماريكا تتحدث مع شاهين ، نسمع صوت الام ايريس ، كذلك وضعت ماريان مشاهد مصورة من حفل زفافها الأول فنحن امام عائلة تعرف تماما أهمية توثيق لحظاتهم بالصورة ويحتفظون بأرشيف كبير لأجيال متعاقبة وبالتأكيد هذا ساعد ماريان كثيرا فى انها تجد مادة غنية لفيلمها.
من مزايا الفيلم كذلك استعراض مرحلة زمنية فى مصر تمثل نوستالجيا لكثيرين وهى مرحلة ما قبل أحداث 1952 فالفيلم ركز على الاسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية المتعددة الثقافات واللغات وهذا ما ترك أثره على العائلة القادمة من اصول شامية واوروبية حيث يتحدثون الفرنسية كثيرا فيما بينهما ، فهذه المرحلة فى مصر شئنا أم أبينا كانت مرحلة استنثائية فعائلة شاهين رغم انتمائها للطبقة المتوسطة الا انها استطاعت أن تلحق ابنها بمدرسة بحجم فيكتوريا كوليدج والتى كانت وقتها مدرسة الملوك والأمراء ولاشك أن النشأة فى أجواء تحمل ثقافات وجنسيات متعددة تجعل الانسان منفتحاً و متقبلا للآخر.
فيلم “احكيللى” هو تجربة مهمة فى نوع الفيلم الوثائقى خاصة ان هذا النوع لا يتمتع بجماهيرية كبيرة فى مصر حيث يميل الكثيرون أكثر للفيلم الروائى لكن الفيلم الوثائقى عندما يحكى أشياء حميمية وصادقة يصل الى الحالة التى يحققها الفيلم الروائى من تحقيق خيط من المشاعر مع المتلقى ، فى الفيلم الوثائقى لا يوجد ممثلون الكل يلعب دوره فى الحياة لكان عندما يحكى الانسان عن نفسه بصدق يصل ذلك للمتلقى وهذا ما فعلته ماريان حيث فتحت قلبها للكاميرا وعبرت عن كل ما يدور بداخلها وهذه شجاعة كبيرة أن تستطيع أن تصل لمرحلة تحكى تفاصيل حياتك الخاصة على الشاشة لانك بالنهاية نتاج هذه الحياة وهذه الظروف وعليك أن تتصالح معها حتى تستطيع المضى قدما فى حياتك.