“احتمي بمخبأ”.. الشعرة الفاصلة بين الجنون والمستحيل
كيف يمكن أن تتكالب الضغوط على العائلة فتصبح عرضة للتفكك والإنهيار؟ كيف يشكل ماضينا وتكويننا الوجداني المتراكم حجر عثرة في سبيل حياة طبيعية وعلاقات مستديمة؟ عن كل تلك المشاعر التي تتراكم لتصبح كعاصفة تدفع بصاحبها للهروب من على القارب. وما هو السبيل الحقيقي للإحتماء من تلك العاصفة المدمرة؟
- الهدوء الذي يسبق العاصفة
يحكي فيلم “أحتمي بمخبأ” Take shelter عن عائلة مكونة من أب وأم وطفلة صماء يعيشون معًا حياة سعيدة هادئة، يعمل “كيرتس” في أعمال الحفر والبناء، وتربي الأم أبنتها ولديها معرض صغير للأدوات يدوية الصنع. تحاول العائلة توفير الأموال والحصول على تخفيض تأميني لإجراء عملية أذن لطفلتهما. تبدأ الأمور في الإنحراف حينما تراود “كيرتس” كوابيس متكررة وتسوء حالته العقلية مع زعمه بأن هناك عاصفة قوية ستأتي وتدمر كل شئ. يقرر- خلافًا لنصيحة كل من حوله – أن يبني ملجأ للعواصف ويستثمر كل جهده وماله فيه مما يعرض الأسرة للشك والإنحلال وحياته للإنهيار.
يقدم المخرج جيف نيكولز في تجربته الروائية الثانية فيلم إثارة نفسية وتحليل ممنهج لشخصية “كيرتس”، ولكن ما يميز ذلك العرض هو أن الفيلم لا يلجأ لتجربة درامية تحليلية معتادة بل يذهب في طرحه لدمج جانب من الخيال العلمي لحكايته بغية التفسير الرمزي لمكنونات أحداثه وحالة شخصياته.
- عواصف وكوابيس الإنهيار
يبدأ الفيلم بلقطة لـ “كيرتس” يقف وحيدًا خارج المنزل مراقبًا لحالة الجو، يبدأ المطر في الهطول ويظهر على يده قطرات ندى زيتية تُنزر بالعاصفة المرتقبة. من بداية الفيلم يرمي نيكولز إلى المشكلة التي ستعصف بالبطل ولكنه في فعلته يبدو حريصًا على أن يظهر “كيرتس” على الشاشة أمام ذلك بمفرده للتأكيد على مدى خصوصية المحنة القادمة. يبدأ “كيرتس” مرة تلو الأخرى في معاينة تقلبات الجو التي لا يراها غيره من حوله. يبدأ في الإنفصال عن مجتمعه وتظهر علامات المرض العقلي على نظرات كل من يعرفه ولا يخفى عليه ذلك.
في المقابل تأخذ كوابيسه منحنى متدرج من الزعر والإنفصال. تظهر في البداية أبنته في أحلامه وهو يحاول حمايتها من الظواهر الغريبة التي ستجلبها العاصفة، ثم ينقلب ضده في أحلامه كلبه ثم صديقه وفي الأخير زوجته ويصبحوا جميعًا أعداء محتملين. كل ذلك يرسم صورة واضحه لرجل في منتصف العمر يفقد عقله وحياته بالتبعية. يؤكد الفيلم هذه الفرضية عندما يستعرض تاريخ عائلة “كيرتس” الذي أضطر والده أن يربيه بمفرده منذ سن العاشرة عندما أصيبت والدته بمرض الفصام وتركتهم. توفى والد “كيرتس” قبل بداية نوبة الأحلام والهلع بشهر وكل شئ يشير إلى أنه سيترك عائلته أيضًا للمرض وأن موت والده أجهز على حالته. يبدو “كيرتس” مشتتًا ولا يريد أن يترك عائلته ويفعل ما بوسعه لإحتواء الخلل.
- إقتران الحقيقة بالهزيان
يمكن التنبئ بأن مخرج وكاتب الفيلم جيف نيكولز فكر في نقطة جوهرية خلال صناعته لذلك الفيلم، ألا وهي كيف يمكن تجسيد “شعور” شخص على مشارف الجنون ويصارع بداخله كي لا يترك عائلته ويرحل تمامًا كما فعلت والدته معه؟! من هنا أبتكر “نيكولز” الجانب الخيالي من القصة متمثلاً في الأحلام والعاصفة والملجأ. لم تكن هذه “الأدوات” مكملات لقصة “كيرتز” وعائلته بل مرآه تعكس ما يحدث بداخله وتوصف عالمه وتبين التحول التدريجي في علاقته مع من حوله.
يستكمل “نيكولز” لعبته عندما يبدأ في التلاعب بالحقائق المطروحة. هل “كيرتس” بالفعل مريض يحاول الفكاك من مرضه؟ أم أن ظلال تاريخ عائلته والضغوط التي يحملها على كتفه من عمل وعلاقة زوجية وأبنة تحتاج لعملية جراحية وأزمة منتصف عمر تلوح في الأفق، كانوا هم الأسباب الحقيقية خلف أزمته؟!
تمثل العاصفة المجهولة نواة تلك المعضلة، طوال أحداث الفيلم هي شئ خيالي لا يراه أحد سوى “كيرتس” كما ذكرنا من قبل، العاصفة هي الضربة الشعورية الداخلية القادمة التي يحاول “كيرتس” أن يتفاداها وبما أنه عاجز عن الإفشاء بذلك لأحد يقرر أن يبني الملجأ ليحتمي به. هنا تحديدًا يصبح الملجأ رمزية كبيرة كرد فعل خارجي منه لإحتواء تلك الضربة الشعورية. في إحدى مشاهد الفيلم تنطلق صافرات إنذار المدينة إثر عاصفة عادية فيهرع “كيرتس” ومعه زوجته وأبنته للملجأ الذي شيده، وعندما تخمد العاصفة وتقرر زوجته أن يخرجوا من الملجأ يرفض “كيرتس” الخروج على قناعه منه بأن العاصفة مستمرة. يدور بينهما حوار شائك وينتهي بأن تخبره زوجته أنه إذا لم يفتح باب الملجأ بنفسه فلن يتغير شئ وأن هذا ما يلزم لتستمر الأسرة. مجددًا يوضح “نيكولز” ماهية الملجأ الرمزية فيضعه كقلعة حصينة بناها “كيرتس” أمام منزله وحبس نفسه بداخلها ليتفادى المشكلة وليتجنب الهروب بعيدًا من عائلته.
- قارب النجاة في عتمة الغيوم
يحاول المخرج نيكولز أن يصنع تماهي مونتاجي واضح ما بين أحلام “كورتيس” المتكررة وواقع حياته، وعندما يصارح زوجته للمرة الأولى بحالته وكوابيسه يخبرها صراحة: “إنها ليست فقط أحلام، إنها شعور”. كل ذلك يعطي إمكانية قدوم العاصفة أمر لا محالة منه، لأن المشكلة موجودة بالأساس وما يجب الإنتباه له – كما يشير نيكولز من البداية – هو طريقة حلها. فهل يكون ذلك بالتقوقع داخل الذات وبناء أسوار تمنع تسرب ما غيرها فقط أم بمواجهة ذلك بمعونة من إيمان زوجته به ومواجهته الأمر علانيةً سواء بصرخته في تجمع سكان المدينة للغداء، أو بالذهاب للطبيب النفسي (في حضرة عائلته) للعلاج وقبوله بمصيره حتى لو أضطره الإبتعاد عن عائلته لفترة.. حينها فقط ستظهر العاصفة جلية للجميع وغير عصية على صمود الأسرة.
- أداءات تستحق الإشادة
بحضور أداءات تمثيلية عظيمة يقدم مايكل شانون وجيسيكا شاستين تجسيد مميز للصراع النفسي ما بين الزوج ونفسه وما بين إضطرابات الزوج وزوجته على مشارف الهاوية. مايكل شانون تحديدًا يكمن قوة أداءه في التحول من العادية للإضطراب بسهولة وتلقائية ساعدت الفيلم كثيرًا في إدارة لحظات الإنتقال في الأحداث.
تساهم موسيقى “دافيد وينجو” التي تجمع بين دقات الترقب والغموض وموسيقى الحلم المتسللة في رفع مستوى التفاعل مع المشاهد في تناغم ظهر جليًا في تعاون المخرج معه في ثلاث أعمال.
في النهاية ينجح الفيلم في إعطاء وجبة نفسية تحليلية ملفتة ربما فقدت ذائقة التعمق في المرض وتركت حرية التأويل في مدى وجوده من عدمه لدى بطلنا (دعونا نترك إحتمال أن المشهد الأخير ما هو الإ حلم)، ولا يذهب بعيدًا في نقش أسبار الماضي أو المستقبل أيضًا، لكنه يقدم دمج سلس وفعال ما بين الواقعي والخيالي، الأحلام والحقيقة، المرض العقلي والوجداني، ويقوي شوكة كل منهما بالآخر لينسج تجربة فريدة لم ينجح “جيف نيكولز” في إعادة خلقها في فيلمه الآخر “ليلة خاصة – midnight special”.