“اتصلْ بمارجو كي تقتلها” خطة بقيادة هيتشكوك

إذا علمت أنَّ فيلمًا للجريمة والإثارة يعرض فقد تهتم وقد لا يجذب هذا اهتمامك. لكنْ إذا علمتَ أنَّه من إخراج ألفريد هيتشكوك فلا تُدِرْ وجهك عن الشاشة. السبب بسيط هو أنَّك ستجد فيلمًا من الأفلام الأيقونيَّة التي لمْ تعرض لتمرَّ مرور الكرام، بل عرضت وتعلَّم منها صنَّاع السينما من بعدها الكثير.

إنّ هتشكوك في فيلم “Dial M For Murder” يعِدُ بقضاء ساعتيْن إلا الربع في أجواء تتراوح من الغموض إلى الإثارة إلى الترقب. ولا عليك من قِدم الفيلم الذي مضى عليه خمسة وستون عامًا -من إنتاج عام 1954م- فعندما تبدأ الأحداث لنْ تجد شيئًا يشغلك وأنتَ ترى “توني” الذي يريد ارتكاب جريمة، وترى “هتشكوك” قد أحكم له التدبير، ثم لخَّصه بجملة: “اتصل بمارجو كي تقتلها”.

بدأ كل شيء مع لاعب تنس أصاب شيئًا من الشهرة من لعبه، قبل أن يقرر الاعتزال. في يوم من الأيام يعثر على رسالةً كشفت له أن زوجه الفاتنة “مارجو” تخونه مع كاتب تليفزيونيّ يدعى “مارك هاليداي”. ففكر طويلاً طويلاً فيما يفعل.

هناك إشكال ضخم في طريقه؛ “مارجو” واسعة الثراء، وتكتنز مبلغًا كبيرًا من الأموال. بالنسبة له هي صمام أمان حياته. وهو إنسان عمليّ واقعيّ جدًّا لا يهمه أن تخونه الزوجة الأهمّ هو عدم ضياع هذه الثروة الضخمة التي لا يتصور مستقبله دونها. توصَّل في النهاية إلى أن الحل الوحيد الذي أمامه هو قتل “مارجو”. ولكنْ كيف يقتلها دون أن يحاسب؟! بل كيف يقتلها دون أن تشوبه أيَّة شائبة حتى لا يجد عقبات أمام استيلائه على ميراثها؟!

وفي غمرة التفكير يجد أحد الأصدقاء القدامى أمامه. هذا الصديق الذي يعلم أنَّه ذو معدن رديء. فيبحث وراءه جاهدًا ليكتشف أنه نصاب محترف يرتزق من النصب على النساء والاحتيال عليهنّ. وهنا يبدو لـ”توني” أنّ الطريق صارتْ مُمهَّدة أمامه. فاحتال على صديقه هذا ليأتي إلى المنزل، وأخذ يكشف له في حوار طويل كل شيء. ثم أعلمه أنَّه يريد منه قتل “مارجو”، وكشف له عن خدعة حدثت أثناء الحوار احتاط بها “توني” في حال عدم موافقته على الاشتراك في القتل.

وعندما بدا أن صديقه انصاع للفكرة ما بين الترهيب بالتورط، والترغيب بالأموال المنتظرة بدأ “توني” في شرح الجريمة الكاملة التي دبَّرها للتخلص من امرأته؛ جريمة رأى فيها نهاية سعيدة له ولصديقه، وتدبير رأى فيه قمَّة الإحكام وشيطانيَّة التصرف. فما هو التدبير؟ وهل سيحدث؟ وماذا سيكون مصير جميع الأطراف في ظلّ هذه الخطة الشيطانيَّة؟! هذا ما ينتظرك وسيُريك إيَّاه “ألفريد هتشكوك”.

الفيلم مأخوذ عن نصّ مسرحيّ للكاتب المسرحيّ فريدريك نوت، وهو أيضًا مَن قام بالمعالجة السينمائيَّة. وقد قدَّم نموذجًا لامعًا من الذكاء، وخليطًا من الإثارة والترقُّب مُذابًا في نسيج خطة للقتل. ولا يدري مقدار ما في النص من ذكاء إلا المُداوِم على قراءة النصوص المسرحيَّة. وبما أنَّ الفيلم مأخوذ عن مسرحيَّة فالمُتوقَّع هو:

  • الاعتماد على الحوار؛ فهو أداة المسرح الأساسيَّة (بخلاف الاتجاهات المغايرة التي لا تعتمد على الحوار بالقطع). وهناك أفلام اعتمدت على مسرحيَّات لكنْ تمَّتْ معالجتها بطريقة سينمائيَّة تختلف عن آليَّات المسرح. هذا ما لمْ يُطبَّقْ هنا فالفيلم يعتمد على الحوار بشكل رئيس في عرض أفكاره، والتعريف بشخصياته، والتمهيد لمُنعطفاته.
  • بما أنّ الفيلم قد اختار آليَّات المسرح فقد أقام الأحداث في أقل حيِّز ممكن وهو موقع واحد للتصوير بيت “توني ومارجو”، مع مشهد لمخفر الشرطة، وعدد من المشاهد أمام البيت.

قد يتوقع أحد أن يكون الفيلم بطيئًا مثلاً أو غير قادر على اجتذاب الانتباه بسبب العامليْن السابقيْن لكنَّ الفيلم على خلاف هذا. فهو يتمتع بالكثير من السرعة في الإيقاع. ولعلَّ اعتماد أيّ عمل على “الحوار” يعدّ مخاطرةً في حد ذاته فهو سلاح ذو حدَّيْن؛ إمَّا أنْ يكون عليك أو ضدَّك. وهنا يأتي دور الذكاء في الحوار والتنوع الذين يضمنان أن يكون الحوار سلاحَك الناجع في إدارة العمل الفنيّ.

هذا عن التأليف.. فماذا فعل هتشكوك كي يحوِّل هذا التدبير من الأوراق إلى الشاشة؟

أولاً: أتى بممثلين جيدين للقيام بأدوار الشخصيات. الوجه الفاتن “جريس كيلي” وهي مارجو، و”راي ميلاند” وهو توني المُدبِّر، و”روبرت كامينجز” بوجهه ومظهره المُرفَّه الذي يوحي بشخصية “الحبِّيب”، و”أنتوني داوسن” صديق “توني” الذي توحي ملامحه ببعض الإجرام، وأخيرًا “جون وليامز” في دور المحقق. وقد أدَّى الجميع أداءً مُرضيًا. صحيح أنه قريب للغاية للأداء المسرحيّ إلا أنَّه أداء جيد، وملائم لروح العصر. وسيستمتع المشاهد بمُؤدِّي دور الزوج “توني” كثيرًا فقد أبرز براعة فائقة، كما أن مظهره وهيئة تمثيله توحي بالاقتدار والهيمنة. وكذلك “وليامز” المحقق كان أداؤه لائقًا بدوره، وبمظهر رجل الشرطة التي اعتادت السينما تقديمه لعقود طويلة.

ثانيًا: أعدَّ الموقع جيِّدًا حتى يلائم كل ما يحتاجه لتصوير التدبير والتنفيذ. وهذا ما سيراه المشاهد الكريم في الفيلم.

ثالثًا: أخرج الفيلم بالألوان. وهذا كان امتيازًا (مع أنّ أفلامًا كثيرة وقتها كانت بالألوان). وقد خرجت الألوان بصبغة جميلة قد تبدو للمشاهد الآنيّ في عصرنا أنَّها لوحات مُلوَّنة. والحق أن هيئة الشاشة اللونيَّة ساعتها مُنعش لمشاهد اليوم مع اعتياده على الألوان شديدة التنوع والتكثيف التي تطالعه في أفلام العصر.

رابعًا: استكشاف مكان التصوير، وإمكانات التصوير فيه. فنوَّع في الزوايا، وخلق تصويرًا دراميًّا ناجعًا ومؤثرًا. ومن أميز ما فعل مشهد التخطيط للجريمة مع “توني” وصديقه.

خامسًا: القدرة على صنع الإثارة. وهي سمة عامَّة للمخرج “هتشكوك” لمْ يخلُ فيلم له منها تقريبًا. وقد كان قادرًا على صنع الإثارة في فترات طويلة من الفيلم، بلْ في الحقّ غالب فترات الفيلم إلى آخر مشهد من مشاهده.

هل معنى ذلك خلو الفيلم من العيوب؟ بالقطع لا. فهناك هذا الأداء المسرحيّ الذي قد نوَّهنا عنه سابقًا. أتى ذلك من أنَّ المسرح رافد من روافد الإمداد بالممثلين؛ فجزء كبير من الممثلين وقتها كانوا يعملون بالمسرح، وقد كان المسرح أشدّ تألقًا، وأكثر وجودًا وجماهيريَّة من مسرحنا اليوم. كما أنَّ هذه الفترة لم تكن السينما قد خلُصتْ بهيئة تمثيليَّة خاصة بها. هناك أيضًا تركيب واضح في الفيلم في المشاهد الخارجيَّة؛ لأنَّها مصوَّرة في مكان مُحاكي للواقع (استوديو). ومحاولة العزل فيها كانت بائنةً أشدّ البيان. ولكن هذه ليست عيبًا، وقد كانت في كل الأفلام تقريبًا التي تصوَّر بهذه الطريقة.

وقد حاولت بعض الأفلام تكرار هذه التجربة في الغرب والشرق. فمثلاً هناك الفيلم الأمريكيّ “A Perfect Murder” من إخراج “أندرو ديفيز”، وبطولة النجم الكبير “مايكل دوجلاس” و”جوينيث بالترو”. وهو فيلم جيد من شركة الإنتاج نفسها، وقد غيَّر فيه المؤلف الكثير من الخطوط والتفاصيل عن فيلم “هتشكوك”. وهناك فيلم مصريّ تحت اسم “خطة الشيطان” نسخ فيلم “هتشكوك” نسخًا. من إخراج “ياسين إسماعيل ياسين”، وبطولة “كرم مطاوع”، “سهير رمزي”. وقد كتبوا أنه مقتبس عن مسرحيَّة “القاتل”، ولم يكتبوا اسم مؤلفها. ولعل هذا يطلع القارئ على ما كان في الفيلم من جودة، وما استطاع أن يبثَّه من فكرة وشعور بالإثارة.

Visited 171 times, 1 visit(s) today