إيزنشتاين الثائر الروسي مُؤسّس السينما الذهنية
يقول الباحث البريطاني ريتشارد تايلور:
“إذا كان هناك أحد يستحق أن يُوصف بأنّه “شكسبير السينما” فمن الواجب أن يكون هو سيرجي إيزنشتاين. إن مكانته ودوره في تطوير السينما كشكل فني، تشبه من جوانب عديدة تجربة شكسبير في تطوير الدراما الحديثة، فكان إيزنشتاين أكثر من مجرد ممارس رائد لفنه، بل كان أيضاً المنظّر الأساسي له، ولذلك لم يكن فقط “شكسبير السينما” ولكن أيضاً وعلى نحو ما، ستانسلافسكي وبريخت وربما أيضاً ميرهولد”.
المونتاج الذهني أو الدعائي أو التحريضي، وهو الأسلوب الذى يقول بضرورة الاختيار القصدي للقطات بمعزل عن سياق الحدث، ضمن خلق كل ما من شأنه إحداث التأثير النفسي للمشاهد في أبلغ صوره، هذه واحدة من أهم النظريات التي أسّس لها إيزنشتاين واستخدمها وهي تُدرّس حتى الآن في معاهد السينما.
سيرجي إيزنشتاين المولود في لاتفيا عام 1898، هو الروسي المخرج والكاتب والمنظّر والثائر السينمائي الاستثنائي، كان في السابعة حين جرى الإضراب، وفي التاسعة عشر حين قامت الثورة البلشفية، حيث يقول: “كل ما عرفته خلال تلك الفترة كان الغضب”، وحين وصل إلى السابعة والعشرين، خلَّد أرواح مئات العمَّال، في فيلمه الأهم والأشهر “المُدرَّعة بوتمكين” عام1925، ويكفي أن لجنة تحكيم من نخبة مؤرخي السينما في العالم من ستة وعشرين دولة، أعلنت في بروكسل عام 1958 أنّ هذا الفيلم هو أفضل فيلم في العالم.
إيزنشتاين الثائر الذي لم يتوانى عن صنع أفلام مكتنزة بالغضب والثورة، يبدو أنّه كان يعي تماماً أنه يدين للثورة بكل ما وصل إليه في حياته فهو يقول “أصبحت ما أنا عليه بفضل كل ما حدث، لقد منحتني الثورة أثمن شيء في حياتي، فقد جعلت منّي فنّاناً “.
سنورد هنا مجموعة ممّا توصّل له إيزنشتاين في أفلامه ونظرياته بشكل مختصر نظراً لكثرتها وأهميتها الكبيرة، بدايةً أدرك إيزنشتاين أن الوحدة الأولية في الفيلم هي اللقطة ولا تختلف عن الصوت أو درجة اللون في أهميتها، فهي التي تستولي وبشكل مباشر على إحساس وعقل المتفرج، ودعا بشكل صريح الى تحييد اللقطات وجعلها عناصر شكلية أولية يمكن أن يقوم المخرج بتوليفها معاً في نظام معين يبتغيه قصداً، مراعياً المعنى الذي يريد أن يوصله الى المشاهد، من خلال تفتيت الواقع الى كتل ووحدات قابلة للاستعمال في عملية تحويل للجماليات لإحداث تأثير مختلف أو مضاعف من عناصر مختلفة.
وقسّم حالة الصراع التي تمثّلها الصورة في فكرها ومضمونها كمتن للأفلام المُقدّمة للمشاهدين الى عدة أقسام كالصراع الذي يتعلق بالحجم وذلك الذي بين اللقطة ونظيرتها، والصراع التخطيطي والصراع المكاني وصراع الضوء والإيقاع، وذلك من خلال مجموعة من الصدمات بين اللقطات راهن عليها إيزنشتاين ليصل المشاهد الى فهم المعنى الذهني من جرّاء تلك الصدامات والصدمات كل ذلك لخلق معنىً حداثي وجديد لصورة معينة.
وفي خصوص اللون أخذ إيزنشتاين بضرورة فصل معنى الألوان المجرّد المستقل الذي يتميّز به كل لون في درجة فهم وإحساس أولى فإذا ما استخدمنا لوناً معيّناً يعمل لذاته مع منظومة ألوان أخرى في نفس الحالة فإنّنا سنتوصّل الى شيء مختلف كاللون الأحمر للدماء إذ ما لطّخت جداراً أسوداً أو ستارةً بيضاء.
التوليف العمودي كما سمّاه إيزنشتاين عندما كان يولّف الموسيقى مع الصورة فكان يؤمن بأنّ الموسيقى والصورة يسيران باتجاه واحد أفقي على أن تكون الموسيقى معادلة للصورة أو مناسبة للحدث / الفعل/ في الفيلم / موسيقية الفيلم.
وقد حارب لإلغاء التسلسل في المكان والزمان للتواتر الصوري لأنّ لكل لقطة مكانها وزمانها المستقل والمحدّد بها وكل ذلك لخدمة الفكرة والمضمون.
وبحث أيضاً في البنيوية حيث تعدّدية قدرة الدال على التدليل / الإحالة الذهنية/ فدعا إلى: “ألّا تكون المناظر ستاراً خلفياً للحوار، ولكن يجب أن تكون لها وظيفة متكافئة بجانب الحوار، كما لو كانت تقريباً تتحاور مع الحوار”.
وفيما يخص الانطباعية فقد حدّد الناقد مارسيل مارتان النماذج المتعدّدة للأنماط التي اتّبعها إيزنشتاين في توليف الأحداث الصورية في توليف طولي مماثل للمازورة الموسيقية مُؤسّسة على طول اللقطات وتوليف إيقاعي مُؤسّس على طول اللقطات والحركة داخل الكادر وتوليف تلويني / لحني/ مُؤسّس على صدى اللقطة الانفعالي وتوليف هارموني / متعدّد النغمات/ مُؤسّس على الأثر المُسيطر لمستوى الفيلم كله كوحدة مستقلة وتوليف ذهني وهو لمزج الصوت المسيطر على مستوى الوعي الأعمق.
وبالنسبة لمفهوم الصورة الذهنية فقد أكّد إيزنشتاين أنّ المعنى الفردي للقطة معيّنة لن يدوم، عندما يرتبط بمعنىً أخر للقطة ثانية مختلفة على مستوى المضمون، لأنّ الحصيلة الذهنية لتصادم اللقطتين أعطى لقطة ثالثة وهمية لم يشاهدها المشاهد بل خُلقت في عقله أو إحساسه، فحركة الفيلم كما يقول إيزنشتاين تتجه “من الصورة الى الشعور حتى تصل الى الأطروحة الموضوعية، صحصح أنّنا باشتغالنا على هذا النحو نجازف بالوقوع في أسر الرمزية، بيد أنّ السينما تكاد تكون الفن الوحيد الذي يرتدي في نفس اللحظة طابعاً ديناميكياً ويثير تهيّجاً في الدماغ “.
يقول المخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار، أنه حين طُلب منه في ستينيات القرن المنصرم أن يصنع فيلماً عن الثورة الطلابية في باريس، قال: “الثورة؟ يمكن لنا أن نشاهد أفلام إيزنشتاين”، وقيل عنه أنّه من صنف السينمائيين الذين كانت ستتأخر السينما لولا جهودهم.
* سينمائي من سورية.