إيتوري سكولا وكيف يحكى تاريخ إيطاليا في “العائلة”

عن 84 عاما، توفي يوم الثلاثاء الماضي 19 يناير 2016 واحد من عمالقة السينما الإيطالية إن لم يكن آخرهم بعد كل من بازوليني.. وروسيلليني وفيلليني ممن صنعوا مجد هذا السينما وكرسوا واقعيتها الشهيرة بأفلام ستظل راسخة في وجدان وذاكرة عشاق الفن السابع، وهو المخرج الكبير إيتوري سكولا صاحب الروائع: “كم احببنا بعضنا البعض” و “الحفل الراقص” و”القذر” و”الشرفة” وغيرها…حيث بلغ مجموع أفلامه بين وثائقي وروائي 40 فيلما!

من أبرز أفلامه وأجملها ايضا فيلم “العائلة” (1987) الذي حكي تاريخ إيطاليا برمته خلال 80 سنة وكل ذلك داخل منزل، أي دون أن تغادره الكامير ا.

“صورة تذكارية للعائلة”، هكذا يفتتح الفيلم على المصور وهو يلتقط هذه الصورة بمنزل العائلة بروما سنة 1906 مستقبلة الرضيع كارلو كوافد جديد على البيت، والذي تناول الفيلم مسيرة حياته منذ ولادته حتى الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، فبين التاريخين ” 1906 – 1986″ وداخل حجرات منزل العائلة الذي لا تبارحه الكاميرا، تدور أحداث الفيلم لنعيش مع كارلو وأسرته من الطفولة إلى الشيخوخة”.

اهتمت غالبية أفلام ايتوري سكولا بالمشاكل الاجتماعية والعلاقات الإنسانية ذات الزخم الوجداني العميق حيث تتقاطع وتتكامل في نفس الوقت الأحاسيس والمواقف كالحب والصداقة والحياد والغيرة والتهميش… كما  تغلف هذه المواضيع روح إيطالية تحس بهيمنتها مهما كان الموضوع المؤفلم إلى درجة اعترف معها المخرج نفسه قائلا: “لدي إحساس بأنني أقوم دائما بإخراج ذات الفيلم ليس من ناحية الشكل فقط، بل أيضا من جانب المضمون”.

تشابه

سيتجسد هذا التشابه بشكل جد لافت في ثلاثة أفلام هي: “كم أحببنا بعضنا البعض” 1974 الذي يعرض فيه لقصة ثلاثة أصدقاء تجمعهم روح الصداقة والتآخي لكن ظروف العيش والسياسة تفرقهم، فيحكي من خلال هؤلاء عن إيطاليا نفسها منذ الثلاثينات إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثم “الحفل الراقص”1984  الذي حكي بدوره قصة بلده خلال القرن العشرين بكامله من غير أن تخرج الكاميرا من المرقص. فـ “العائلة”   1987الذي يكرر نفس الموضوع من خلال نموذج أسروي مليء بالتناقضات والقيم الاجتماعية الإيطالية من غير أن تغادر الكاميرا أيضا منزلها!

إن حصر الأحداث وتصويرها في مكان واحد خلال مدة زمنية تتجاوز الساعتين، جعل البعض يدعي بأن الفيلم عبارة عن مسرحية مصورة نظرا لوحدة الديكور والاعتماد على الحوار أساسا للتبليغ.. إنما حتى  وإن كان في هذا الادعاء جانب من الصواب، فإن معاينة التجربة عن قرب تؤكد أن العمل يبقى فيلما متكاملا بكل ما تحبل به السينما من مفردات تقنية وإبداعية، يكفي مثالا بالنسبة للعائلة أن نتذكر تقنية الانتقال من حقبة زمنية إلى  أخرى، إذ تخترق الكاميرا إما بواسطة ترافيلنغ  أو زوم أمامي في غالب الأحيان، دهليزا طويلا بصمت مطلق، ترافقه أحيانا موسيقى جد هادئة تغلف المشهد بفيض من الشاعرية والحنين لزمن ينفرط من بين أصابعنا من غير أن نستطيع معه أو ضده شيئا، يقطعه في بعض المرات صوت كارلو لتقديم الشخوص والوقائع. لذا لم يكن هناك بطل واحد الشيء الذي طرح تساؤلا: هل البطل في “العائلة” هو المكان أم الزمان؟ أم هو تلك التركيبة الحاصلة بين امتزاجهما وانفعال أحدهما بالآخر من خلال العلاقات الإنسانية التي تؤطرهما معا وتتأثر بهما من جهة مقابلة؟

فالأحداث تنحصر كلها وتمتد بين صورتين تذكاريتين للأسرة أولاهما في البداية حين كان كارلو رضيعا، والثانية في نهايته عندما أضحى شيخا. لكن الفيلم – وهنا يكمن الإبداع – يخترق الزمن المحسوب بالدقائق والسنوات، أي “الوقت” الكرونولوجي ليتسلل إلى خارج الإطار المصور فيصبح شموليا لا يطاله التقادم ولا تحد من سريانه كلمة “النهاية”. فبعد التقاط آخر صورة للعائلة وثباتها أثناء كتابة جنريك النهاية ،ينطلق ضوء الفلاش متزامنا مع صوت آلة التصوير وهي تلتقط الصورة إيذانا باستمرارية “العائلة” أية عائلة – وتطور الحياة التي لا تتوقف – كما اختصر الزمن بطرق تقنية أخرى كالماكياج الذي تولى رسم آثاره على الوجوه والحركات.. وكذلك طريقة الأداء والالقاء.. ولاسيما كيفية تحرك الكاميرا بشكل منفعل كليا مع الأحداث والمواقف والشخوص.. إذ نجدها مشاكسة نزقة مع الأطفال، محمومة حيوية مع الشباب، ثم رزينة هادئة مع الكهول، بينما تكون وقورة لا نكاد نحس بها أو بحركتها وهي في حضرة الشيوخ والمسنين نساء ورجالا.

الانتقال في الزمن

ونعود للتذكير بمشهد الانتقال من مرحلة زمنية إلى أخرى الذي كان يتم ببطء شديد لا نكاد نشعر به، تماما كالزمن والعمر الذي يتسرب ثانية ثانية فتتسرب وراءه بهذه الطريقة الأيام والشهور والأعوام.. وكانت المسافة بين جيل وآخر تقاس بالفعل ورده.. أو بموقف وتأثيره.. ثم أساسا بالعلاقة الإنسانية بين أفراد العائلة التي لم يكن السن يحكمها بل رد الفعل من حوله.. فكارلو مثلا لم يكن على وفاق مع أخيه جوليو رغم انتمائهما لنفس الجيل، بل كان منسجما مع حفيده كارليتو “لنلاحظ تشابه الاسمين وماله من دلالة” رغم أن ميولاتهما ومواقفهما تختلف، فكارليتو يحب السفر والترحال بينما لم يغادر قط كارلو أعتاب العائلة.. هناك صلة حميمية تجمعهما وحب عميق يقلص الهوة الزمنية بينهما.. ذلك الحب الذي يمنح وجوده شعورا متدفقا بالحياة.. بينما يبعث غيابه على القرف والإحساس بلا جدوى العيش.

  هذا الحب هو الذي يشيد كذلك صرح تلك العلاقة الهلامية بين كارلو نفسه وأندريانا شقيقة زوجته، التي ظلت متوهجة رغم مضي الزمن ورغم الانشطار الاجتماعي الذي حصل بينهما، ورغم تقدمهما في السن أيضا..  بل إن الزمن أمام مثل هذه العلاقات ينسحب ويعتذر عن التدخل متى أحس بقوتها وزخمها الإنساني الذي قد يتضاءل لهيبه، لكنه لا يخبو أبدا. وحتى تلك النزاعات والخلافات التي كانت بينهما منذ فترة الشباب والرعونة استمرت معهما إلى آخر العمر، مكونا مكونات حبهما ظلت .. وهاهو كارلو يصرخ محتجا على ترحال أندريانا المتواصل فتجيبه: “أية قيمة لحبنا إذا لم نتمكن حتى من الفراق؟!

    كانت هناك علاقة أخرى ذات وجود فاعل داخل العالة وإن تعلقت بشخصيات هامشية لم يكن يحسب لها حساب أو يؤخذ لها برأي، هي علاقة العمات الثلاث ببعضهن البعض من جهة، ثم ببعضهن مع باقي أفراد الأسرة من جهة ثانية.. فتآلفهن وخصامهن الدائم كان بمثابة متنفس لا غنى عنه في توليفة العائلة.. كل هذه العلاقات انصهرت في مكان واحد – بصريا – الذي هو البيت بغرفه ودهليزه وسلمه… لكن تفاعل الأحداث ببعضها وبالأزمنة التي حاكت خيوطها، جعلت المكان يمتد خارج البيت، إلى الشارع.. فالمدينة، إيطاليا، فرنسا، أثيوبيا… كلها أمكنة حضرت دخلت واستضافتها العائلة، لاسيما “إيطاليا” التي كانت تقبل من خلال: الحوار، اللباس، الهاتف، المذياع، التلفزيون، المؤثرات الصوتية كصوت آلة “الحفر” المزعج الذي كان يسمع أثناء حديث كارلو داخل غرفته عبر النافذة مع ابنه وهو في شرفة العمارة المقابلة مع زوجته إيذانا بعدم التواصل بين الأب والابن وأن الطريق بينهما “محفر”.

ولأن ذلك الابن أصبح يعيش في “مكان” آخر غير البيت الذي ولد به والده وجده، هذا البيت / المكان – وليس الديكور – الذي أفرخ أعدادا وفيرة من أفراد العائلة صعب على كارليتو في المشهد الأخير عدها والتعرف عليها كلها، وهو مشهد مفعم بالطرافة وبالانفعالات الوجدانية يليه آخر مشهد للدهليز المأثور يخترقه الشيخ كارلو بتؤدة من غير تعليق هذه المرة، بل تولت عنه الكاميرا ذلك، فقطعت الدهليز بنفس الإيقاع الرتيب وربما ببطء أكبر، وكان كارلوا وقد ابيض شعره عن آخره وثقل خطوه يخترق الممر – وكأنه يخترق النفق الفاصل بين الموت والحياة – متوجها نحو جمع الأسرة وهي تستعد للاحتفال بعيد ميلاده الثمانين حيث يستهل هذا الحفل وينتهي الفيلم في نفس اللحظة بالتقاط صورة تذكارية لـ “العائلة”.

* ناقد وباحث سينمائي من المغرب

Visited 65 times, 1 visit(s) today