“إنهم يقتلون الجياد”: قراءة في المنجز السينمائي المغربي
ان المتتبع للمهرجان الوطني للسينما الذي انعقد بطنجة مؤخرا سيلاحظ ان الانتاج السينمائي المغربي قد ربح الرهان الذي سهرت الدولة على تحقيقه من اجل خلق صناعة سينمائية وطنية بمواصفات مهنية.
وادا كان هذا الرهان قد تحقق بناء على سياسة الدولة الداعمة للحقل السينمائي من خلال توفير الحد الأدنى من البنيات التحتية وتنظيم المهنيين في غرف ونقابات، وتنزيل القوانين المنظمة لتدبير المال العام وتحصينه من الانحراف الريع، وتنظيم المناظرة الوطنية، وتتويج اعمالها بالكتاب الابيض، فإن المستوى الفني والابداعي يتطلب منا أن نقوم بمراجعة هذا الكم المتوفر لتقييمه وتحصينه من الشوائب والطفيليات للدفع به نحو الأحسن والأكمل لضمان انتظامه واستمراريته وخلوده.
تساعدنا القراءة التقييمية لهذا المنجز السينمائي الى استنتاج الملاحظات الاساسية التالية:
يتصف المنتوج السينمائي لهذه السنة بتعدد الأجناس الفيلمية فهناك الأفلام الدرامية وأفلام المغامرة والكوميديا والتحقيق البوليسي والتاريخ السوسيولوجي والتجريب وتعالج هذه الافلام قضايا متعددة تمتح من الاجتماعي والعاطفي والذاتي والتاريخي والحميمي- التابو والسياسي واليومي واثار الهجرة على الأجيال، كما تستعمل سجلات لغوية تنتقل بين العربية الدارجة، وهي المهيمنة، والأمازيغية بتفرعاتها الريفية وتشلحيت والحسانية، كما استطاعت هذه الافلام أن تغطي معظم الجغرافيا الجهوية للمغرب من شماله الى جنوبه.
أثبتت هذه الدورة أهمية وايجابية تعايش وتفاعل اجيال المخرجين السينمائيين التي جمعت بين جيل المؤسسين الذي يمثله بامتياز المخرجين لطيف لحلو الذي انتج فيلم ” شمش الربيع” عام 1968 وانتج فيلم “عيد الميلاد” عام 2014، وهشام العسري وليلى المراكشي اللذان يمثلان الجيل التالث مرورا بالجيلالي فرحاتي وكمال كمال اللذان يمثلان الجيل السينمائي الثاني ونستنج من خلال هذا التواجد والاستمرارية فشل النظرة القاصرة التي تشبه السينمائين بلاعبي كرة القدم الذين يجب عليهم الاعتزال كلما وصلوا سنا معينة لترك المجال للشباب.
ان مشاركة المخرجين المغاربة القاطنين بالخارج أضافت غنى مهما للمنجز الفيلمي من حيث تنوع المواضيع وجرأة المعالجة واختلاف الرؤية و تجديد الاسلوب التقني والفني والجمالي وازدواجية الثقافة والمثاقفة مثل حسن لكزولي ليلى المراكشي محمد بنعمراوي تيجاني شريكي هشام عيوش عبدالله الطايع سعيد س الناصري وياتي هذا العدد المهم لهؤلاء الشباب لضحض الاصوات التي ظلت تطالب باغلاق باب الدعم المالي في وجه هذه الشريحة من المخرجين لانها متهمة بازدوجة الجنسية والمزاحمة التنافسية على المال العام، غير ان هذه الفئة من المخرجين واضافة للميزات التي ذكرناها تفتح باب التساؤل حول تعدد هويتنا وانفتاحها على قبول الآخر، كما نستطيع من خلالها وبواسطتها ربط الحوار مع شعوب وحضارات اخرى.
تميزت هذه الدورة بانجاز ثلاثة أفلام قوية هي “سرير الأسرار” لجيلالي فرحاتي، و”هم الكلاب” لهشام العسري، و”وداعا كارمن” لمحمد بنعمراوي.
حقق الجيلالي فرحاتي بفيلمه “سرير الأسرار” انجازا فنيا وجماليا يدعم انجازاته السابقة ويعطي اضافة نوعية تثبت تيارا سينمائيا قائما بذاته.. بنى فرحاتي فيلمه الجديد على تركيب زمن الذاكرة (الماضي ) والزمن الكرونولوجي (الحاضر) من اجل اعادة بناء الحكاية الأساسية للزاهية التي تدير دار بيع الهوى، وابنتها بالتبني فدوى.
تتنوع اشكال بناء السرد الفيلمي في “سرير الأسرار” من خلال تعدد وجهات النظر حول الجسد بين القداسة والتدنيس، جسد المرأة وجسد المدينة، جسد اللوحة الفنية بين نبل الفن و”قبح العهارة”، وقد بنى فرحاتي فيلمه على الصمت، وعلى التكوين المعماري والضوئي لمدينة تطوان كما رسمتها المخيلة التشكيلية للضمير الجمعي وهي تسير نحو الامحاء والتلاشي في غفلة من الجميع.
اضاف هشام العسري بفيلمه “هم الكلاب” نوعا سينمائيا جديدا عالج من خلاله الاختفاء القسري الذي عرفته سنوات الرصاص بالمغرب والذي غطت المرحلة الممتدة ما بين ما سمي بثورة الخبز في 1981وانتفاضة عشرين فبراير سنة 2011 واستعمل العسري حماس وايقاع “سينما وحرب العصابات”LE CINEMA GUERILLAالتي سمحت له بتحطيم قواعد البناء الدرامي التقليدي وخلق بناء الايهام بالروبرتاج السريع المناسب للمتابعة الصحفية، وقلب سلم اللقطات وحركات الكاميرا التي تفرضها حالة الاستعجال URGENCE مما يجعل من الشكل السينمائي مضمونا في حد ذاته.
لقطة من فيلم “وداعا كارمن”
اما فيلم “وداعا كارمن” لمحمد أمين بنعمراوي، فقد اشتغل على مرحلة تاريخية من التاريخ المغربي المعاصر، كان يتعايش فيه المغاربة والاسبان بمدن الشمال الشرقي عندما كانت اسبانيا تعيش تحت سيطرة الديكتاتور فرانكو، وذلك من خلال عيون طفل يعيش تمزقا عاطفيا بين عنف خاله الذي تكلف به، والاشتياق الى أمه التي أجبرتها ظروف العيش وأعراف القبيلة على زواج ثان والهجرة الى الخارج.
وقد استطاع المخرج بنعمراوي من خلال استعمال تعارض الأمكنة والفضاءات المغلقة والمفتوحة والمحلوم بها، أن يخلق الحوار بين عنف الخال وعنف الاطفال، وبين حضن الام وعطف كارمين، كما ان توظيفه لذاكرة الفرجة السينمائية وتوظيف المحاكاة الساخرة أي “البارودي”، لخطاب المسيرة وتقاطعاتها مع الاعلان عن موت فرانكو خلخل بعض الحقائق التاريخية وشكك في يقينياتها.
ونستنتج من وراء هذه الملاحظات الايجابية التي تثمن الجدية والمسؤولية الفنية والثقافية لقلة من السينمائيين المبدعين أن معظم الأفلام المنتجة هذه السنة قصيرها وطويلها، هي عبارة عن هدر للجهد والوقت والمال، فاذا كان من الواجب علينا كمهتمين بالشأن الثقافي والفني أن ندافع على جودة المنتج السينمائي وحرمة هذا الحقل باعتباره يمس الحلم والمخيلة وضمير الامة وهويتها، فقد آن الاوان لفضح الأعمال الزائفة قبل أن تصبح هي العملة الرائجة المهيمنة على الساحة الفنية، ومن تم تتسبب في تخريب الفكر والحس والذوق، وتغلق الأفق أمام الأجيال المستقبلية الطموحة والمتطلعة الى فن حقيقي بديل من خلال فرض الرداءة وأيديولوجية الذوق السوقي المتهافت على الغنيمة والارتزاق!