أيام قرطاج السينمائية أو عندما يذهب اللّب ضحية التفاهة
منيرة يعقوب- تونس
في ظلّ تنامي ثقافة الbuzz والسّباق المحموم لنشر والتّعليق على الهوامش والسّعي لهدم كلّ المكتسبات التي تحقّقت في كلّ المجالات وبالاعتماد على منصّات التّواصل الاجتماعي التي بات معها سهلا الخوض في كلّ القضايا والمواضيع بمجرّد”تدوينات”
وتعليقات من وراء شاشة هاتف ذكي،تعليقات قد لا ترتقي حتّى لدردشة في الشّارع او مقهى ،في ظلّ كلّ هذا نرى اليوم اناس يسمحون لانفسهم بالافتاء في مدى اهميّة الثقافة والفنون بالنّسبة للبلاد اعتمادا فقط على صورة لا تروق او لا تتماشى مع ذوق عام بات والحقّ يقال يميل اكثر فاكثر لعدم تقبل الاختلاف والضيق بكلّ ما لا يتناسق مع مفاهيم محافظة بل متخلّفة ورؤية ماضويّة للثقافة عموما والفنون تخصيصا.
آخر تمظهر لهذه الآفة هو ما لحق”ايام قرطاج السّينمائيّة”من انتقادات وتقزيم لعمل الفريق الذي تولّى ادارة الدّورة 33 .
بوضوح شديد، تقييم هذه الدّورة لا يجب ان يقع على اساس من ادار المهرجان فالسيدة سنيا الشّامخي استاذة وسينمائيّة جديرة بكلّ الاحترام وكذلك الشّان بالنسبة لعدد من فريقها(على الاقل من اعرفهم)، التّقييم يجب ان يتحرّر بداية من كلّ نزعة للشّخصنة ومن كلّ خوض في الهنات على انها ناتجة عن وجود فلان(ة) وغياب فلان(ة) على قائمة الفريق العامل فالاشخاص،على اهميّتهم، لا ترتقي ادوارهم لاهميّة المؤسّسات وتوجّهاتها وخياراتها.
الاهم،في رايي المتواضع القابل للخطا، هو طرح سؤال منهجي وجب على الجميع وخاصّة صاحبات واصحاب المصلحة في ديمومة ايام قرطاج السينمائيّة،هذا السؤال هو هل نريد لها البقاء بداية؟ليتفرّع عن هذا السؤال ،وفق الاجابة،عدد من الاسئلة الاخرى.
طبعا الاسهل هو البدأ بالجواب بلا !في هذه الحالة ليكن لدى الجميع القدر الكافي من النّزاهة والشّجاعة للتّصريح بذلك والمضيّ بوجه مكشوف وخطاب واضح لتقديم مشاريع لمهرجانات اخرى تدخل سباقا(غير مضمون النّجاح) مع مهرجانات تحتكم على امكانيّات ماديّة يصعب ايجادها في تونس.
اما اذا جاءت الاجابة معبّرة عن تمسّك بايام قرطاج السينمائيّة كواحدة من “الجينات”الثّقافيّة للبلاد فعلينا جميعا البدء حالّا ودون حسابات شخصيّة او جمعيّاتيّة اوتكتّلات مهنيّة ضيّقة في عمل سيكون صعبا لكنّه جدير بالقيام به.
لا يمكن لاحد ان ينكر انّ الوقت حان لتقييم التّظاهرة والوقوف بجديّة ونزاهة على الهنات دون، كما قلت سابقا،الشّخصنة وتحميل مدير او مديرة بعينها كلّ الذنوب ! ودون الخطابات الماضويّة التي يمكن ان توضع تحت عنوان”يا حسرة على قبل”!فأيّام قرطاج السّينمائيّة تظاهرة فنيّة لا يمكن بايّ حال من الاحوال ان تبقى جامدة في محيط فنّي متحوّل وظرف تاريخي وسياسي محلّي ودولي متحوّل.
ايّام قرطاج السّينمائيّة كما اسلفت اصبحت برغم كلّ المصاعب والهنات احد اهمّ العناوين الثّقافيّة لتونس والبلاد الافريقيّة والعربيّة ولسائر دول”الجنوب” وقد يُجيب البعض هنا بانّ مياها كثيرا سالت منذ زمن التّاسيس لكنّ من يوسّع دائرة نظره لتشمل ما يحدث في العالم عموما وما تشهده المجتمعات الانسانيّة،ايّا كانت الدّول وطبيعة انظمتها وتوجّهاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة وما تفرزه من منظومات ثقافيّة،يلمس دون عناء ما شهده العالم من حركات مقاومة ثقافيّة لماكينات العولمة ومحاولاتها لتنميط الثّقافة لتتماهى مع مقتضيات السّوق العالميّة ويمكن هنا التّذكير بمقولات”الاستثناء الثقافي”والقوانين الحمائيّة للمنتوجات الثّقافيّة والفنيّة في فرنسا مثلا…
اذا لو سلّمنا بضرورة التمسّك بايّام قرطاج السينمائيّة مع حتميّة اصلاح ما شابها ويشوبها من هنات ناتجة عن تغيّرات تتراوح بين التّاريخي والسّياسي(في مفهومه الاوسع) دون القفز لا على طبيعة هذه التّظاهرة الفريدة ولا على التّنكّر لواقع تونسي كان فيه دور ريادي للفاعلين والفاعلات الثّقافيّين والثّقافيّات في الدّفاع وتوسيع مساحات حريّة الابداع والتّعبير عندما كان صعبا،بالادنى، التجرّؤ على تقديم انتاج فنّي لا يتماهى مع طروحات النّظام ولا فائدة من التّذكير بالرّوح التحرّريّة والنضاليّة الثّقافيّة العالية التي واجه بها فنّانون وفنّانات نعتزّ بانتمائهم وانتمائهنّ لهذا الوطن كالمرحوم عرّالدّين قْنون وفضاءه الحمرا (تجربة تستحقّ لوحدها مقالات عدّة للحديث عنها) وفضاء التّياترو مع الفنّان توفيق الجبالي والمرحومة زينب فرحات والمسرح الجديد وخليفته شركة فاميليا للانتاج ودار بن عبداللّه مع المسرحيّين الكبيرين نورالدّين الورغي وناجية الورغي دون ان نغفل تجارب كمسرح فو للمرحومة رجاء بن عمّار ومنصف الصّايم وتجارب لشركات انتاج سينمائي تركت بصماتها كشركة ضفاف بادارة الرّفيق الرّاحل نجيب عيّاد وسيني تلي فيلم لمؤسّسها حميّد عطيّة والقائمة طويلة لفاعلين وفاعلات ضاقت بابداعهم مؤسّسات الدّولة وضاقوا من جهتهم باعباء تدخّل الدّولة…
قد يتبادر للاذهان سؤال، كلّ الاسئلة مشروعة،ما علاقة كلّ هذا بايام قرطاج السينمائيّة وبمستقبلها خاصّة؟
اجابتي وقد تصدم البعض هي لا يمكن تجاهل كلّ هذا الارث في خوض مسار اصلاحي ثقافي عموما وسينمائي تخصيصا !
عندما تأسّست ايام قرطاج السّينمائيّة كان الوضع السّياسي يتميّز بداية بارادة التاسيس وكان هناك مسؤولون سياسيّون، ولو في اطار حكم الحزب الواحد،منفتحون على الحركة الثّقافيّة التي وان لم”تُعلن”بعد عن تمشّيها المستقلّ عن منظومة الحكم فعلى سبيل المثال مؤتمر سوسة لحركة نوادي السينما الذي انبثقت عن اشغاله”ارضيّة العمل الثّقافي”وما حدّدته من اهداف ثوريّة انعقد سنة 1975 بينما اولى دورات ايام قرطاج السينمائيّة كانت سنة1966 .
هذا على المستوى الوطني،امّا دوليّا فقد كانت السّاحة الفكريّة والثّقافيّة والفنيّة تعيش مرحلة مدّ الفكر اليساري التقدّمي بسبب خارطة دوليّة يعرفها الجميع وليس المجال هنا مواتيا للتّذكير بمجرياتها…
هنا يبرز تفرّد ايّام قرطاج السّينمائيّة بما توفّره من فرص لسينما خارج الطّوق المضروب على الفكر التقدّمي وتمظهره السّينمائي من قبل الشّركات الكبرى(الامريكيّة خاصّة) في مختلف المراحل من الانتاج الى التوزيع الى الاستغلال وفي منصّات العرض الكبرى كمهرجان كان…ايام قرطاج السينمائيّة نشأت اذا بل ولدت وفق هذه النّظرة والتوجّه :كلّ شعوب العالم لها ثقافاتها وتعبيراتها الوفيّة لموروثها وواقعها ومن حقّ السّينمائين العرب والافارقة خاصّة ودول الجنوب ان تكون لديها تظاهرات يشاهد فيها جمهورها ما توصّل اليه مبدعوها ومبدعاتها مع فتح الباب لمناصرين ومناصرات من كلّ اصقاع الدنيا للحضور والنّقاش والتّفاعل،اي ولتقريب الصّورة للشّابات والشباب الذي لم يعايش تلك الفترة،دورات ايّام قرطاج السّينمائيّة كانت اشبه ما تكون ب le forum social ولم يكن لهذه الاسباب وغيرها تتعلّق بغياب شبه كلّي في بلادنا الافريقيّة والعربيّة لمقولات النّجوميّة وما تبعها !
تبعا لكلّ هذه الاعتبارات الهامّة،دائما وفق رايي المتواضع،يجب تثمين وتثبيت هذه التركيبة الجينيّة ان صحّ التعبير لايام قرطاج السينمائيّة وتخليصها من كلّ الاعباء التي تثقلها وخاصّة ماسستها في جسم مستقلّ عن السّلطة وادواتها وضمان ان لا تكون ايضا في خدمة اي طرف،شخصا كان او منظمة او تشكيلات مهنيّة…كيف ذلك؟
منذ سنوات،كانت هناك نقاشات(منها حتّى ما انتظم بمقرّ نقابة المنتجين بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة) وبحضور مخرجين وموزّعين واصحاب قاعات وطبعا منتجين من مختلف الاجيال والخلفيّات… والتوجّه العام كان ميّالا لتكوين جمعيّة او مؤسسة خاصّة بايام قرطاج السّينمائيّة،تضمّ “جلستها العامّة”كلّ المتداخلين بالقطاع،اما التّسيير فهو نوعان:ادارة قارّة بعدد قليل من الموظفين والموظّفات، لهم تكوين صلب في الادارة والماليّة والتّوثيق ،امّا ادارة الدّورات فتخضع لما هو معمول به في ادارة المؤسّسات اي الجلسة العامّة تنتدب مديرة او مديرا لعدد من الدّورات المتتالية على اساس برنامج يقدّمه امام الجلسة العامّة وتصحبه بالضّرورة قائمة في من تودّ او يود انتدابهم لمساعدتها او مساعدته…هذه بعض الخطوط العريضة حتّى اتجنّب مزيدا من الاطالة.
اختيار الماسسة في هيكل مستقلّ سيمكّن من اضفاء مزيد من النّجاعة والشّفافيّة في التّسيير ويؤدّي ايضا وخاصّة من تسهيل تمويل التّظاهرة بعيدا عن البطئ الاداري وتحديد المسؤوليّات على جميع الاصعدة،كما ان استقلاليّة التّظاهرة، في حدود خطّها التّحريري المتّفق عليه بين كلّ المتدخلين والمتدخّلات والوفي لماهيّة ايّام قرطاج السّينمائيّة،سيعفينا من مشاهد خلناها رحلت دون عودة وشبيهة،بالنّسبة لجيلي،لصعود وزير الثّقافة الأسبق المرحوم محمّد اليعلاوي لركح مسرح قليبية(صيف 1979 ) لافتكاك ورقة نصّ بيان لجنة التحكيم الدّوليّة من ايادي الرّفيق الرّاحل نجيب عيّاد لعدم موافقته على مقدّمة النصّ وهندام لجنة التّحكيم…ما اشبه اليوم بالبارحة فالحركة الاحتجاجيّة لمساندة السّينمائي السّجين عصام بوقْرّة ولبس الاقمصة ووضع احدها على الرّكح من قبل الفنّان الرّائع غانم الزرلّي وتوجّه السّينمائيّة نادية الفاني بكلمة مساندة للنساء الايرانيّات هي من وجهة نظري واحدة من اهمّ ميزات ايام قرطاج السّينمائيّة ولمن نسي،شهدت دورات سابقة(بدايات الايّام)حركات احتجاجيّة لمساندة سجناء رأي ولحركة مقاطعة الايّام من قبل اهمّ الجمعيّات السّينمائيّة…
وبالنّسبة حتّى للمغرمات والمغرمين بمقولات من نوع هذا مهرجان ولامجال لتلويثه بالسّياسة فساسمح لنفسي بتذكيرهنّ وتتذكيرهم انّ حتّى مهرجان كان شهد السّنة الفارطة تدخّلا مباشرا عن بعد للرّئيس الاوكراني وشهدت دورات اخرى سابقة احتجاجات منذ حركة ماي 1968…ايّام قرطاج السّينمائيّة انبنت على فكر مقاوم لهيمنة السّينما التي تنتجها شركات عظمى لتكتم انفاس اي فكر تحرّري محمول بصور تشبهنا…
بقي الآن ان اعرّج على مسائل جانبيّة،دائما حسب رايي المتواضع،تتعلّق بحفلات الافتتاح والاختتام و”لعنة”السجّاد الاحمر. بداية تعدّد”المسؤولين”على التّنظيم وربّما اختلاف نظراتهم لكيفيّة التنظيم وخاصّة خضوع كلّ واحد منهم لجهة(وزارة الثّقافة،مدينة الثّقافة،المركز الوطني للسّنما والصّورة وادارة المهرجان)وربّما،اقول ربّما،انعدام التّجانس بينهم جميعا جعل المسالة التنظيميّة موزّعة بين عدّة”قبائل”وفي النّهاية وحدها مديرة الدّورة وفريقها يواجهون التّبعات ليقع ما وقع على سبيل المثال من احتلال لواجهة التعليقات والتّقييمات او ما شابه.
امّا بخصوص السجاد الاحمر فعلاوة على انّه مستحدث بل ودخيل على الايّام فقد حاول الرّفيق الرّاحل نجيب عيّاد ان يوظّفه باعادة احقيّة السّير عليه لفرق الافلام المعروضة خصوصا وبذلك اوصل رسالة هامّة مفادها ان النّجوم الاول هم الافلام وصانعاتها وصنّاعها من مختلف الاختصاصات ومن باب الملاحضة الشّخصيّة فقط،لم افهم واتفهّم خيار البساط الاصطناعي في بلاد الزّربيّة والكليم المصنوع بايادي حرفيّاتنا وحرفيّينا.
امّا من حيث الافلام والتكريمات واسماء اعضاء لجان التّحكيم فلم ارى فيها اي مساس باساسيّات ايّام قرطاج السيّنمائيّة،كلّ ما في الامر انّه وبفعل التّركيز على ما وجب تجاهله من ممارسات وتعبيرات طفيليّة ،نسي عدد كبير اللبّ: الافلام والانتاجات والاضافات للسّاحة السّينمائيّة الافريقيّة والعربيّة والنّوافذ التي فتحت على سينماءات اخرى وتعلّق بالهوامش وجعل من النّكرات مشاهير…ممّا سهّل على السلطة رآسة دولة ووزارة التدخّل المفضوح والفاضح في مصير الايام بتغيير دوريّتها والحكم عليها بالموت البطيء ومن وراءها كسر النّسق التّصاعدي للانتاج السّينمائي التّونسي بحرمانه من منصّة تعريف غاية في الاهميّة…
قرار جعل الدّوريّة لسنتين عوضا عن السّنة واقولها دون مواربة هو اجرام في حقّ الايّام والسّينما التّونسيّة والافريقيّة وحرمان جمهور السّينما في تونس من فرصة تنفّس السّينما والتحلّق للنقاشات والاختلاط الاجتماعي.
عن جريدة الشارع المغاربي الالكترونية- 15 نوفمبر 2022