أول مرة فى الأستديو.. حكاية لقطة طولها 30 ثانية!
أول مرة دخلت فيها استديو تصوير سينمائى لها حكاية.
كنا فى نهاية الثمانينات، وكنت وقتها صحفياً مبتدئأ، طلب مسؤول مكتب الصحيفة العربية التى أعمل بها حواراً مع النجم كمال الشناوى، كنت متخصصاً تقريباً فى السياسة، ولابأس من حوارات أدبية، ولكنى كنت معروفاً أيضاً بأننى من الذين ندهتهم نداهة الأفلام، أتحدث طوال الوقت عن الأفلام العربية والأجنبية، داخل وخارج العمل، ربما يكون ذلك سبب الترشيح، توقعت أن يرفض النجم الكبير، فقد كان مشغولا باستمرار، عاد من جديد ليكون بطلا فى أفلام سينمائية، تصدّر اسمه الأفيشات، بعد غياب طويل، ولكن كمال الشناوى وافق على الفور، جاءنى صوته المميز عبر التليفون: “طيب أنا دلوقتى باصوّر فيلم فى استديو الأهرام .. ممكن تجينى هناك الساعة خمسة النهاردة؟”.
صوت هادئ وآسر فى تواضعه وشياكته، لم يكتف بذلك، ولكنه أخذ يصف لى بدقة مكان الأستديو، الذى لم أكن أعرف عنه سوى أنه فى شارع الهرم، فى الخامسة إلا ربعاً كنت أمام الباب، تلفّتّ خلفى، فوجدت كمال الشناوى نازلا من سيارته، مرتديا قميصا مزركشا بكل الألوان تقريبا، وبنطلونا أبيض، كان الهواء قد أطاح بشعره، فأخذ يعيد تسويته بأصابعه، ثم نزل خلفه مساعده يحمل جاكيت البدلة البيضاء، وبقية ملابسه.
صافحنى بابتسامته الشهيرة، وطلب أن يكون الحوار وسط الإستراحة، لكى أسأل براحتى، ويجيب هو بمزاج، واقترح أن أستغل الوقت فى مشاهدة التصوير، بينى وبينكم أنا لما دخلت الأستديو، نسيت الحوار أصلاً ، اعتبرتها فرصة عظيمة لكى أرى السينما فى البلاتوه، وليس فى قاعة العرض كما تعودت، دخل كمال الشناوى الى حجرة الماكياج، تركت معه زميلى المصور، وانطلقت مستكشفاً فى سعادة.
أتذكر جيداً أن أحد البلاتوهات كان مشغولاً بتصوير فيلم “حنفى الأبهة” لعادل إمام، ولكن يبدو أن حادثة ما أوقفت التصوير، كان المخرج محمد عبد العزيز يهرول خارجاً، وخلفه عسكرى يمسك بيده المصابه، ويحيط يالعسكرى اثنان من العساكر، سألت عن تفسير للمشهد الغريب، فأخبرنى أحد العاملين، أن أحد الكومبارس جرح يده جرحا بالغا أثناء التصوير، ربما بسبب كوب زجاجى، وأنهم سيُجرون له الإسعافات اللازمة، لم يكونوا عساكر، ولكنهم كومبارسات فى الزى الميرى.
فى بلاتوه الفيلم الذى كان يشارك فيه كمال الشناوى، كانت هناك عربة قطار كاملة الأوصاف، الفيلم بعنوان “موعد مع الرئيس”، ومن إخراج محمد راضى، أطفأوا الكشافات الضخمة انتظارا للممثلين، فجأة تم خلع أحد جوانب العربة بسهولة لكى يتمكن مدير التصوير ماهر راضى من مد القضبان أمامها، ظهرت فى الداخل كل تفاصيل عربة قطار الدرجة الأولى الفاخرة، كانت مجرد ديكور متقن الصنع وعملى أيضاً ليناسب حركة الكاميرا، تم وضع الكاميرا على عربة لتتحرك على القضبان، كان ماهر راضى يجرّب أكثر من مرة سهولة إنزلاق العربة التى يطلقون عليها اسم “الدوللى”، بعد قليل ظهر الممثل أسامة عباس أحد المشاركين فى المشهد، كان يتبادل الحوار مع السيد راضى الذى ظهر فى هيئة رثة، ومستندا على عكاز حسب الدور، كان قلقا بسبب الإنتظار الطويل.
بعد دقائق ظهر المخرج محمد راضى، أحببت له كثيرا فيلم “أبناء الصمت”، عرفته بنفسى، كان شخصا ودوداً ولطيفا، وافق على أن يقوم المصور الفوتوغرافى للجريدة بالتقاط الصور أثناء البروفة، يفضل راضى أن يمارس عمله فى الأستديو بالبدلة الكاملة، ولكن بدون كرافتة، ظل يظهر ويختفى للإطئنان على جاهزية المشاركين فى المشهد الهام، وكانوا تقريبا معظم أبطال الفيلم.
– يللا يا جماعة .. سكوت .. اتفضل يا أستاذ كمال .. اتفضلوا يا أساتذة .. اطلعوا جوة العربية .. فين إلهام ؟ يا للا ياماما .. بروفة .. سكوت ..
كان ذلك صوت المخرج من جديد، أدهشتنى قوة نبراته، وهو الذى كان يهمس فى أذنى منذ قليل، ظهرت بطلة الفيلم إلهام شاهين، قالت وهى تبتسم : “جاهزة يا أستاذ”، تبادل محمد راضى كلمات هامسة مع مدير التصوير ماهر راضى، أضيئت الكشافات داخل العربة، كان واضحاً أن المخرج يطمئن أيضاً على حركة الكاميرا المطلوبة، فورا بدأت أول بروفة، اللقطة بحوارها وبحركة الكاميرا ولكن دون تصوير فعلى.
كان المشهد يبدأ بحوار حاد بين الركاب، فجأة يخرج أحدهم مسدسا يهدد به، يزيد الجدل، فتنطلق رصاصة، يعقبها صراخ من الجميع، ثم يختبئون وراء المقاعد، “سكوت ..بروفة”، بدأ الحوار، قال كمال الشناوى جملته، ظهر المسدس، انطلقت الرصاصة، تحركت الكاميرا الى الأمام (دوللى إن سريع)، صرخ محمد راضى : “كويس أوى .. كمان مرة “.
عرفت فيما بعد أن راضى دقيق جدا فى عمله، يريد كل شئ كما أراده بالضبط، ولذلك تكررت البروفات بدون تصوير ست أو سبع مرات، فى إحدى المرات كان الممثلون يصرخون، ليس بسبب صوت الرصاص، ولكن بسبب الإجهاد من التكرار، بعضهم ذهب من جديد الى حجرة الماكياج، الكشافات تنشأ عنها حرارة رهيبة، أصر راضى على مواصلة البروفات بدون تصوير، ربما كان أفضل ما اكتشفته رغم ملل التكرار، أن كمال الشناوى كان يكرر عبارة واحدة، ولكنه قام بأدائها ست أو سبع مرات بطريقة مختلفة، فى كل مرة يضغط على كلمة معينة، أو يبتكر تقطيعا جديدا، كان راضى سعيدا بذلك، ولم يكن الشناوى متبرما أبدا بالإعادات، هناك رصيد هائل من الخبرة وراء هذا الأداء، قال لى فى أثناء الحوار معه ، إن عينه كانت دائما على الممثلين الأجانب، ذلك الأداء الهادئ الخالى من الإنفعالات والحركات المسرحية، لم يقلد أحدا، ولكنه قرر أن يكون أداءه سينمائيا، يعتمد على الإنفعال الداخلى، وعلى الصوت الهادئ المهموس.
قرر المخرج أخيرا أن تكون اللقطة القادمة للتصوير الفعلى، سمعته يقول لمدير التصوير: ” ده التكوين اللى أنا عايزه .. الوشوش كتيرة .. بس كلها فى مكانها”، وأضاف مخاطبا الممثلين:” بعد الرصاصة.. وبعد ما تستخبوا ورا المقاعد .. ماهر ح ياخد رياكشنات كلوزات ورا بعض .. رعب وفزع وصراخ” ، ثم هتف راضى من جديد: ” يلا .. سكوت .. نوّر .. سكوت .. ح نصوّر .. دوّر .. أكشن “.
بدأ التصوير، اجتهد الممثلون لكى ينتهوا من المشهد، بعد انتهاء اللقطة بالصراخ، انطلق المصور لأخذ لقطات رد الفعل القريبة على الوجوه الخائفة من الرصاص ومن الإعادة معاً، لم ينقذهم إلا صوت محمد راضى :”استوب .. هايل”.
انتهت اللقطة، أجريت الحوار الطويل الذى نشر على صفحة كاملة مع كمال الشناوى، وهو الحوار الوحيد لى مع نجم سينمائى، كان سعيدا بإنجاز اللقطة رغم إجهاده الشديد، عندما شاهدت الفيلم، اكتشفت أن زمن اللقطة العصيبة على الشاشة لم يزد على 30 ثانية فقط. كان يوما رائعاً بالنسبة لى داخل الأستديو لأول مرة .. هنا مصنع الأفلام .. هنا مصنع الأحلام الشاقة.