“أوضة الفيران”.. أوهام فيلم أم فيلم عن الأوهام؟

في ظل الصراع المستمر – عالمياً وليس في مصر فقط- بين سينما الكيانات والمؤسسات العملاقة وبين سينما الأفراد والمؤسسات المستقلة يجد الواحد نفسه في أغلب الأوقات متعاطفًا مع تيار السينما المستقلة ومشجعاً للتجارب الجديدة الجريئة التي تريد كسر سيطرة فئة قليلة من ذوي السطوة والمال على عمليات الإنتاج والتوزيع والعرض السينمائي.

لكن كطبيعة الأشياء وكعادة الإنسان المتساهل فقد نجح البعض في تحويل مفهوم المستقل إلى وسيلة لتقديم فن ساذج يضعه تحت غطاء يظن أنه عميق ليأخذ عليه خاتم واعتماد “المستقل”، وبما إنه مستقل فهو “مظلوم” و”محارب” (بفتح أو كسر الراء) ويحتاج إلى المثقفين وإلى المشاهد الحقيقي المقتنع بقضيته ليدعمه. لا يدرك أنه بسذاجة وسوء ما يقدمه (نتيجة لعدم بذله المجهود الكافي ليثبت أنه يقدّم شيئاً جديدًا ومختلفاً عن السائد المسيطر على السوق) قد يحظى بهذا الدعم لفترة من الوقت ولكنه من المؤكد سيفقد الكثير منه (أو كله) مع الوقت بعد اكتشاف وتأكّد المشاهد من ضعف المنتًّج المقدم له واستسهال (أو ربما انعدام موهبة) من يقدمه. المشكلة أن هذا المستسهل (أو هؤلاء المستسهلون في الحالة التي أشير إليها) لا يضرون أنفسهم فقط، ولكنهم دون أن يدروا، يسيئون إلى الفن المستقل بصفة عامةً، هذا الفن الذي يحارب لكي يرى النور فيجيء أمثالهم ليحجبوا عنهم أي بادرة شعاع.

فيلم جماعي

“أوضة الفيران” هو أحدث نموذج سينمائي لتلك الأعمال التي قد تجعلك تفقد تدريجيًا تعاطفك مع الفنون المستقلة وتجعلك تتوقف لتعيد تفكيرك مرة أخرى في إيمانك بهذه المدرسة. الفيلم الذي عُرض مؤخرًا في قاعة سينما “زاوية” بوسط القاهرة (وهي إحدى النوافذ النادرة للسينما الجريئة والمختلفة عن السائد، رغم وجود كثير من التحفظات الفنية واللوجيستية عليها وعلى اختياراتها) بالإضافة إلى عرض لمدة أسبوع بسينما أمير في الاسكندرية، هو نتاج عمل جماعي لمجموعة من الشباب حيث شارك في إخراجه ستة مخرجين جميعهم من الاسكندرية (أكثر محافظات مصر نشاطاً في الفنون المستقلة، وقد تناول فيلم “ميكروفون” لأحمد عبد الله جزءًا من هذا النشاط الثقافي الاسكندري.

تفاصيل عمل الفيلم وكيفية خروجه إلى النور قد تكون الأكثر إثارة فيما يتعلق بهذا العمل، وهو في اعتقادي أحد العوامل التي شجعت صناع العمل على المضي قدماً في مشروعهم، فبالتأكيد اشتراك هذا العدد الكبير من الشبان غير المعروفين والقادمين من خارج العاصمة وبتمويل شبه ذاتي (أو بمنح) كفيل بإثارة فضول الكثيرين، وبكسب اهتمام مجموعة ولو صغيرة من الجمهور الذين سيناصرون هذه التجربة الجديدة لحداثتها، مما سيضمن لأصحاب العمل مجموعة من المتفرجين سيدخلون لمشاهدة الفيلم لو نجحوا في مبتغاهم وعرضوه جماهيريًا كما أن هذا الـمفهوم concept الجديد سيلفت انتباه العديد من المؤسسات والمهرجانات الداعمة للفنون المستقلة لدعمها وكسب زبون جديد إلى صحيفة مستفيديهم، وهو ما قام به مهرجان دبي السينمائي باختيار فيلم “أوضة الفيران” لعرضه في مسابقته الرسمية في الدورة قبل الماضية-2013). ولكن هذه التفاصيل ليست صميم موضوع هذا المقال فقد سردها أصحاب العمل في جميع الحوارات الصحفية معهم كما يمكن بسهولة الاطلاع عليها من مدونة الفيلم

http://(http://themiceroomfilm.blogspot.com.eg/

 أو الصفحة الخاصة به على الفيس بوك (بالإضافة إلى عدم فهمي للقيمة التي أضيفت للفيلم عندما أخرجه ستة مخرجين في حين أنه من نوعية الأفلام التي يمكن أن يخرجها مخرج واحد متوسط الموهبة). ولكن الأهم هو ما يتناوله الفيلم أو ما يحاول أن يضيفه إن كان يقدم أي إضافة.

من أكثر الأسئلة – المستفزة – التي اعتاد الكثيرون (خاصة الهواة) ترديدها عند الانتهاء من مشاهدة اي فيلم (أو أي عمل فني بصفة عامة) هو “هو كان عايز يقول إيه في الفيلم ده؟” اي ماذا يريد الفيلم أن يقول؟ فالعمل الفني ليس بالضرورة أن تكون له رسالة واضحة أو موعظة حسنة يعمد إلى تقديمها. غير أن مشاهدة “أوضة الفيران” تجعل المرء مغصوبًا يتساءل أثناء المشاهدة أسئلة أكثر سوءاً مثل “إيه إللي بيحصل ده؟” أو “أيوة فإنت عايز إيه”، وهي أسئلة إن خطرت على بال المشاهد فقد خسر الفيلم الكثير.

الخوف والأوهام

“أوضة الفيران” كما هو واضح من عنوانه هو فيلم عن الخوف والأوهام (أو الخوف من الأوهام ومن غير المعلوم) ويناقش ذلك من خلال ست قصص متقاطعة لأشخاص مختلفين في أطر متنوعة تدور جميعها في الاسكندرية. فهناك الكهل الخائف من عبور الشارع والأرملة الخائفة من مواجهة حقيقة وفاة زوجها، والشاب الخائف من مرض والده (أو هكذا أظن)، والعروس الخائفة من الزواج قبل لحظات من اتمام زفافها، والشابة المقبلة على سفر وتخشى أن يغير السفر من شخصيتها، والطفلة وعلاقتها مع جدتها المخيفة فعلاً. أغلب القصص الست يوجد في بذرتها ما قد يجعلنا كمشاهدين نتعاطف مع أصحابها إن تم تقديمها بشكل جذّاب أو مختلف، ولكن للأسف فإن تناول القصص كان تقليدياً وفقيراً للغاية بحيث قضى على أي قابلية للتعاطف معها (كمشاهد تعاطفت للحظات مع قصة الابن الذي يرافق والده إلى الطبيب ويكتشف انتشار السرطان في جسمه، ولكن هذا التعاطف كان يخبو مع التمثيل شديد الضعف للمثل الشاب الذي أدى الدور والذي كان أداؤه كفيل بفصل تركيز المشاهد عن القصة).

المخرجون الستة للأسف لم يقدم أي منهم في هذا العمل أي برهان على وجود موهبة حقيقية تبحث عن الخروج  فالكادرات والزوايا المستخدمة في التصوير (خاصةً الكادر المجتزيء الذي نرى من خلاله جزءًا محدوداً من الشخصيات الفعّالة في المشهد ونسمع فقط الحوار الدائر بينهم) هي نقل حرفي لنفس تلك المستخدمة في الأفلام التي بدأت موجة السينما المستقلة منذ أكثر من عشر سنوات دون تقديم أي جديد. قد يكون مقبولاً استخدام هذه الفنيات السينمائية في فيلم “عين شمس” لابراهيم البطوط الذي أنتج عام 2008 أو رسم شخصيات بأطر وقوالب قريبة من تلك المستخدمة في فيلم “هليوبوليس” لأحمد عبد الله، ولكن عند استخدامها في 2015 دون أي تجديد فإن هذا يعتبر فقرا سينمائيا (حتى البطوط وعبد الله توقفا عن استخدام تلك الوسائل التعبيرية لفهمها أنها أصبحت خارج الإطار الزمني الحالي، فالقدرة على استيعاب التغيرات الزمنية والتطور معها هي سببب استمرارهما إلى الآن وخروجهما الناجح من القالب الواحد الذي انطلقا منه).

أضف إلى ذلك أن التركيز المبالغ فيه لجرعة الكآبة والحزن في محاولة للتأكيد على أن هذا فيلم أسود، هذا فيلم عميق مخاصم للبهجة والتهريج، هو في الواقع مبالغة في اللا شيء ومحاولة استنزاف غير شريفة لمشاعر الجمهور. فالحزن والألم إن لم يقدم في قالب مبتكر وفي إطار قصة يتعاطف معها الجمهور وتمسهم مباشرة لدرجة أن يتوحدوا معها يتحوّل إلى ابتذال.

وهنا يمكن ذكر فيلم آخر ينتمي لنفس المدرسة وهو فيلم “الخروج للنهار” للمخرجة هالة لطفي والذي رغم قسوته ورغم المحدودية الشديدة لأحداثه إلا أنه ينجح في جعل المشاهد يتعاطف مع القصة المأسوية الدائرة وأن يشعر بنفسه جزءًا منها.

قد يكون أغلب الموزعين وأصحاب دور العرض في مصر (وفي أي دولة رأسمالية لا تلعب فيها حكومتها دورها المنوط بها في دعم الفنون المستقلة) متوحشين ومنساقين فقط وراء حسابات الأرباح، غير أن الإصرار على الجانب الآخر المستقل على صنع أفلام شديدة الخصوصية تخاطب فئة محدودة معينة (لا تتعدى حدود الأقارب والأصدقاء وجمهور سينما زاوية والمراكز الثقافية الأجنبية) بإعادة تدوير نفس الآليات المستخدمة في جميع الأعمال المنتمية لهذه المدرسة والإسراف في القتامة مع صبغ الفيلم بلمسة من العمق المدّعي والفلسفة غير المبررة سوى لتحميل العمل ثقل لا يستحقه ليس سوى فشل واستباق للمبررات من صناع هذه الأعمال عندما لا تستمر أفلامهم في السينما (إن عرضت أصلاً) أكثر من أسبوع أنهم يقدمون فناً راقياً يتم محاربته من أجل الأعمال الأخرى الفاسدة المنحطة.

فأرجوكم ارحموا السينما المستقلة من بكائيتكم واصنعوا أفلامًا تستحق أن نضيّع من عمرنا الوقت في مشاهدتها والاستمتاع بها (حتى وإن كانت أفلامًا قاتمة) أو لتعملوا أعمالاً أخرى تناسبكم.

Visited 37 times, 1 visit(s) today