أوراق سان سباستيان (2): كلير دينيس في دائرة الغموض
أمير العمري- سان سباستيان
عندما غاب فيلم “السياج” The Fence أحث أفلام المخرجة الفرنسية المخضرمة كلير دينيس (أو “ديني” حسب موضع لسانك على الخريطة!) عن تشكيلة مهرجان كان السينمائي، ثم عن تشكيلة مهرجان فينيسيا خصوصا وأن مهرجان كان يهتم كثيرا بالأفلام الفرنسية والمخرجين الفرنسيين، دهشت وتساءلت عن سر هذا الغياب سر هذا الغياب رغم أن التكهنات المعتادة قبيل المهرجان كان ترشحه للمشاركة سواء في المسابقة أو خارج المسابقة. لكن الفرصة اتيحت أخيرا لمشاهدة الفيلم نفسه المعروض ضمن عروض مهرجان سان سباستيان السينمائي.
كلير دينيس مخرجة مهمومة كثيرا في أفلامها بالعلاقة بين الشمال الأوروبي، الأبيض، الاستعماري ولو سابقا، والجنوب، الأفريقي، الأسود وسكانه الذين كانوا وربما مازالوا خاضعين على نحو أو آخر، للكولونيالية الحديثة.. ولكن أفلامها ليست أفلامه سياسية بل تدور حول المحور الإنساني، عن العلاقة بين البشر أنفسهم، عن العجز عن الفهم أو التواصل، عن الرؤية المختلفة أو المنطق المختلف لرؤية الأشياء.
كان فيلمها “نجوم الظهر” Stars at noon (2022) الذي نال الجائزة الكبرة في مهرجان كان عام 2022 (وهي غير السعفة الذهبية)، يدور في نيكاراغوا، وبطلته صحفية أمريكية أو كاتبة أدب رحلات تشاهد وترصد وتكتب وترسل الى الصحيفة التي تغطي لحسابها، ما لا يرضي السلطات البوليسية العسكرية الغاشمة، فتصادر جواز سفرها وتصبح معرضة للاعتقال أو الموت، وتحاول بطرق غريبة التحايل للخروج من البلاد.
وكما كان “نجوم النهار” مقتبسا عن رواية أدبية للكاتب الأمريكي دينيس جونسون، ففيلمها الجديد “السياج” مقتبس أيضا عن مسرحية للكاتب الفرنسي برنار ماري كورتيه، تدور أحداثها في غرب أفريقيا، أي أن كلير دينيس تعود هنا إلى البيئة التي تعرفها جيدا، فقد نشأت في بلدان عدة من غرب القارة السوداء. إلا أن مشكلة فيلمها الجديد أنه يكاد يخلو من الأحداث التي يمكن ان تعمق نظرتنا إلى تلك العلاقة الملتبسة بين الذات الأورو- أمريكية، والآخر الأفريقي.
هنا نحن في موقع إنشاء في قلب الصحراء، أو في منطقة نائية منعزلة تماما عن الحضارة. كأنها بداية الخلق حيث يقتل قابيل هابيل، ولكن القتيل هنا رجل أفريقي، هو أحد عمال تلك “المستعمرة” إن جاز القول. ما هو هذا المكان بالضبط، وما هذا العمل الذي يري فيه، ومن أجل أي شيء يستمر الحقر بالحفارات الضخمة في النهار؟ لا أحد يعرف.

الواضح أن من قتل العاكل الأفريقي المسكين الذي أراد أن يخرج من ذلك السجن الإجباري، هو رئيسه المباشر في العمل- “كال” (يقوم بالدور ببراعة كبيرة الممثل الأمريكي الشاب توم بليث”)، ربما بسبب خطأ ما، أو إصرار من جانبه على أن ينزل به العقاب، لكن ما نراه أن العامل الأسود وهو من أهل القرية القريبة، فاض به الكيل، وأراد مغادرة موقع البناء الغامض وهجره إلى الأبد، وهو ما أثار حنق مشرف عمال البناء “كال” فأطلق عليه الرصاص، وربما يكون الحادث قد وقع بينما كال تحت تأثير الخمر، فسوف نراه فيما بعد يسرف كثيرا في الشراب. ونحن لا نرى حادث القتل لكننا نرى المشادة التي تقع بين كال والعامل الأفريقي الذي أصر على المغادرة.
أما المشكلة التي لا حل لها ولا يستطيع الفيلم أن يغادرها قط فهي تقع عندما يحضر رجل أفريقي مهندم، يرتدي ملابس رسمية، يجيد التعبير عن نفسه بالكلام، يقف خارج السياج الفاصل بين موقع البناء/ المستعمرة، وبين الفضاء الواصل إلى القرية القريبة. هذا الرجل “إلبوري” جاء وله مطلب واحد فقط هو الحصول على جثة شقيقه المتوفي/ القتيل، والعودة بها إلى أنه التي يقول إنها لن تكف عن البكاء ولن تتوقف حتى تعثر على جثمان القتيل.
وصول هذا الرجل في هذا الوقت المتأخر يتصادم مع موعد آخر مهم للغاية، هو وصول الزوجة الشابة “ليوني” وهي ممرضة شابة التقاها في مستشفى بلندن وتزوجها حديثا مدير الموقع “هورن” (الذي يقوم بدوره مات ديلون). وكان الذي ذهب لاستقبالها عندما هبطت طائرتها في منطقة مهجورة، هو “كال” نفسه، وكال كان زميلا في الماضي لهورن عندما كانا يعملان معا في شركة للتنقيب عن النفط.

المنطقة التي تقع فيها تلك المستعمرة أو موقع البناء (لا فرق) منطقة شديدة الحراسة، معزولة عن الخارج تماما، والمكان كله بدائي، لا يوجد سوى حمام واحد فقط في حالة متدنية، والأتربة الحمراء التي تتصاعد من المكان بسبب الحفر أثناء النهار، تغطي الأجساد، لكن هورن لا يجد وقتا للاستحمام وارتداء ملابس لائقة بليلة تتوق فيها زوجته كما هو واضح، لممارسة الجنس. وأجواء الرغبة تحلق فوق المكان: رغبة الزوجة الشابة، ورغبة هورن التي تنطفيء بسبب وجود هذا الغريب الواثق من نفسه الذي يصر على البقاء وعدم التراجع سوى بعد الحصول على جثمان شقيقه، والعربة التي يحاول أن يكبتها أيضا “كال” مراعاة لصديقه القديم.
الموقف لا يتطور دراميا بل يظل ثابتا، فالفيلم يدور ويلف ويعود إلى نقطة البداية، أي إلى محاولة “هورن” إقناع الرجل الأفريقي بالرحيل ثم العودة في الصباح. تارة يدعوه لتناول مشروب معه ثم الرحيل، وتارة أخرى يعرض عليه بعض المال لكي يرحل على أن يعود في الصباح ولكن لا جدوى.. إن هورن باختصار لا يفهن تقاليد السكان الأصليين، أصحاب الأرض، ولا يعرف تقاليد الموت عندهم.
تتخلى كلير دينيس كثيرا عن أسلوبها الذي يتميز بالتعبير بالصورة، ليصبح الأسلوب مخنوقا داخل كادرات ضيقة شاحبة الإضاءة، تحول أن تخلق بعض الفضاء للحركة في مشهد العودة بالسيارة من استقبال الزوجة الحسناء برفقة “كال” وما يحدث خلال الطريق من مفارقات، وإيحاءات جنسية لا تكتمل قط، لا تصل إلى أي ذروة.
هناك فقط ذلك الخوف الكامن لدى الغريب القادم من خارج المحيط، يجسده بالطبع مدير المنشأة “هورن”وبين الآخر الواقف على الجهة الأخرى من السياج، أي الأفريقي “إلبوري”. فهورن يخشى من ما يمكن أن يحدث في حالة التقاعس عن تسليم الجثمان، فربما يهاجم أهالي القرية الموقع، ولكنه يخشى في الوقت نفسه من افتضاح حقيقة الجريمة التي وقعت والتي حاول التستر عليها والإيهام بأنها حادث عمل- مثل غيرها.
الإحساس بالمعتقل أو السجن الكبير، الذي يوحي به ذلك المكان المجرد عن عمد، يتجسد من خلال أبراج المراقبة التي يجلس فيها كحراس أفريقيون من سكان المنطقة، يراقبون مسلحين بالرشاشات. لكنهم مع ذلك يتبادلون مع “إلبوري” باللغة المحلية عبارات تشي بالقاتل وبحقيقة ما وقع في ذلك المكان.

الأداء هنا يبدو بشكل عام معتمدا على الحوار، والحركة قليلة بل ومحدودة، والطابع المسرحي يغلب على الفيلم بأكمله، والفكرة أيضا تضيع رغم التكرار ولكن من دون الكشف عن جانب أعمق من ذلك الصراع المكتوم. والنتيجة أنك تفهم لماذا رفض مهرجان كان قبول الفيلم في مسابقته فهو أضعف من أفلام مخرجته السابقة. وهو أمر يؤسف له بالطبع!
لكن استقبال المخرجة وأبطال فيلمها وعلى راسهم بالطبع مات دجيلون، كان استقبالا هائلا داخل مسرح العرض السينمائي الذي ضم 1800 متفرج، فجمهور هذا المهرجان جمهور عاشق للسينما، يصفق للأفلام في حماس وحب وتقدير، وهو ينتظر الحدث السنوي بكل ابتهاج وإقبال كبير بحيث لا توجد قاعة أو مسرح واحد مما يعرض أفلام المهرجان إلا ويمتلا عن آخره بالجمهور. ولعل أجمل ما في المهرجان أننا نشاهد العروض كلها مع الجمهور ويمكننا أن نشعر بتفاعله مع الأفلام، خصوصا وأننا مع جمهور مهذب يحترم الفيلم الذي يشاهده ويعرف جيدا تقاليد المشاهدة.
