أوراق برلين السينمائي (3) الفلسطينية الغاضبة واللبناني الحزين
في اليوم الثالث من دورة مهرجان برلين الـ71 المغلقة فقط على الصحفيين والسينمائيين من صناع الأفلام المشاركة والموزعين، شاهدت الفيلم الفرنسي “ماما الصغيرة” Petite Maman للمخرجة سيلين سكياما وهو عمل صغير محدود الطموح، يصور العلاقة بين طفلتين في الثامنة من عمرها، تصبح إحداهما بمثابة أم للأخرى التي تعاني من غياب الأم، في شكل أقرب إلى اللعبة. ويثبت الفيلم مجددا، كيف تؤدي فكرة ضم 50 في المائة من أفلام المخرجات إلى برامج المهرجان، إلى نتائج لا تخدم المهرجان، فهذا أحد أفلام المسابقة، لكنه لا يرقى إلى مستوى التسابق على الجوائز بسبب هشاشة موضوعه وتكراره الفكرة وغياب البعد الدرامي منه غيابا يفسد القدرة على الاستمتاع به رغم ان زمن عرضه لا يزيد عن 72 دقيقة.
تركز اهتمامي بعد ذلك على فيلمين خارج المسابقة، الأول هو الفيلم المصري الثاني في المهرجان وهو فيلم “كما أريد” للمخرجة الفلسطينية المقيمة في مصر سماهر القاضي الذي يعرض ضمن قسم “لقاءات”، والفيلم اللبناني الثالث في المهرجان وهو فيلم” أعنف حب” للمخرجة إيليان الراهب ويعرض ضمن قسم “بانوراما”.
كلا الفيلمين من النوع الذي نطلق عليه “الفيلم غير الخيالي” فهما لا يخضعان للتعريف الكلاسيكي للفيلم الوثائقي أو التسجيلي. ولكن بينما يبدو الفيلم الأول “كما أريد”، مزيجا بين الريبورتاج وغير الخيالي، الشخصي، يبدو الفيلم الثاني “أعنف حب” عملا غير خيالي تترك فيه مخرجته العنان كثيرا، لك تستخدم أساليب متعددة وطرق فنية مختلفة في رواية قصة فيلمها بحيث يمكن اعتبار الفيلم من أفلام “ما بعد الحداثة”.
أتوقف أولا عند الفيلم الأول، وهو أول أفلام مخرجته سماهر القاضي، الفلسطينية ابنة رام الله، التي درست السينما في معهد القاهرة للسينما، ونالت تمويلا لفيلمها من فرنسا وألمانيا والنرويج. الموضوع الأساسي لهذا الفيلم هو ظاهرة التحرش بالنساء في القاهرة. ويبدأ الفيلم في 25 يناير 2013 وسط التجمعات الكبيرة في ميدان التحرير بوسط القاهرة احتفالا بالذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس مبارك. وهنا تقع أحداث التحرش والاغتصاب الجماعي لعدد من النساء في قلب الميدان، ومن تلك الحادثة التي رصدتها الكاميرات، ينطلق غضب المخرجة، لتبحث وتتابع الظاهرة وتتوقف أمام أبعادها المختلفة وأسبابها التي تكمن في المفاهيم الذكورية المسيطرة على مجموع الناس، وفي مشاهد جريئة تمسك سماهر بالكاميرا وتعتبرها سلاحها في مواجهة أي متحرش محتمل، تسلطها على كل من يتابعها ويتحرش بها بسبب ملابسها التي تبدو في أنظار العامة، مختلفة عن الملابس السائدة لدى النساء في مصر حاليا، وتعلن أنها ستتابعه ولن تتوقف إلى أن تكشفه للعالم. وهو ما يسبب نوعا من المواجهات الطريفة بينها وبين عدد من الرجال الذين تحتك بهم ومنهم من ينتحل صفة ضابط شرطة ويريد الاستيلاء على الكاميرا وربما أيضا، يتحرش بها وبصديقتها.
يتضمن الفيلم الكثير من المشاهد الوثائقية لاحداث الشارع المصري بعد تولي محمد مرسي حكم البلاد، من مظاهرات غاضبة، تشارك فيها النساء بقوة، وكذلك الوقفات الاحتجاجية التي تنظمها جماعات نسائية ضد التحرش واحتجاجا على تغاضي السلطة عما يقع من أحداث شائنة.
إلا أن الفيلم لا يسير في خط واحد لاعادة تأسيس وتوثيق أحداث الغضب العام وصولا إلى الإطاحة بحكومة الاخوان في 30 يونيو 2013، بل تنتقل سماهر طوال الوقت لتتأمل في مسار حياتها بعد ان أصبحت حاملا للمرة الثانية. لديها الآن طفل في السابعة من عمره لا يمكنه أن يفهم لماذا احتكت أمه بذلك الشاب الذي تحرش بها ولمس جسدها في الشارع. وهي أيضا ترتد الى طفولتها والى علاقتها بأمها في رام الله، ومناخ القمع والحصار الذي ولدت ونشأت فيه، باعتبارها بنت، محظور عليها أن تتصرف على طبيعتها أو تخرج، أو ترتدي ما تشاء من الملابس، بل إن والدها يهددها أيضا بالقتل لو أصرت على الذهاب لدراسة السينما في القاهرة مما يدفعها الى الهرب من واقعها والاقدام على مغامرة السفر الى مصر وتحرير نفسها من كل أشكال التبعية والاستلاب.
إلا أن هناك ندبة تظل في القلب من ناحية علاقة سماهر بوالدتها.
إنها تشعر بالغضب من ناحية الموجة العامة المهيمنة التي تقلل من شأن المراة وتبيح الاعتداء عليها والحد من حريتها، وهي غاضبة أيضا من ما تعرضت له في طفولتها من قمع من جانب أسرتها. والفيلم بأكمله ينتقل بين العام والخاص، وسماهر التي نراها وهي حاملا في الشهر التاسع، تسترجع من خلال الصور وخلق بدائل تمثيلية، تلك العلاقة الملتبسة المشوبة في الوقت نفسه بحب عميق وحنين جارف. فلابد أن الأم نفسها كانت نتاجا لمجتمع ذكوري بقيمه المتزمتة التي تستند على الإسلام، وهو ما يدفع سماهر ربما، إلى النزول في أحد المشاهد المثيرة الى الشارع في القاهرة لتوقف مجموعة من الفتيات في عمر الزهور، جميعهن محجبات وتسألهن عن سبب الإصرار على ارتداء هذا الحجاب، فيتمسكن كلهن بضرورته أولا كفريضة دينية، ثم أيضا كضمان لعدم تعرضهن للتحرش من جانب الرجال. والفتيات يستعن بولد أو اثنين من صغار السن كثيرا، يرددن ما معناه أنه لو تخلت زوجته في المستقبل عن الحجاب لطلقها على الفور دون أسف. وتلتمس الفتيات للرجال العذر إن هم اعتدوا على فتاة ترتدي ملابس قصيرة كالتي ترتديها سماهر نفسها، كما يسخر منها الرجال ويهددها أحدهم بضربها إن لم تتوقف عن ملاحقة الشاب الذي ضايقها وتحرش بها في الطريق!
هذه الفلسطينية الغاضبة هي نموذج للمرأة العربية التي ترفض الخضوع حتى لو كانت قد ارتضت، كما نرى في نماذج كثيرة في هذا الفيلم، ارتداء الحجاب والجلباب الطويل، بل إن حضور المرأة عموما في حركة الثورة المصرية يتأكد طول الوقت من خلال ما نشاهده من وثائق مصورة قد لا تكون جديدة تماما، لكن سماهر نجحت في صياغتها في سياق يخدم فكرتها.
هذا عمل مركب.. ربما كان يمكن أن يصبح أفضل واكثر تماسكا لو كانت سماهر قللت من استعراض مشاهد تسجيلية من الثورة المصرية وركزت أكثر على موضوع فيلمها الأساسي وهو ظاهرة التحرش، واستعانت أيضا بمقابلات مع بعض المسؤولين ورجال الدين وعلماء النفس، لتقدم صورة أكثر شمولية لمجتمع خاضع بالكامل للفكر المتخلف والنظرة المتخلفة للمراة وتهميش وجودها في المجتمع.
اللبناني الحزين
يبدو فيلم “أعنف حب” (العنوان بالانجليزية معناه “حرب ميغيل”)، أكثر تركيزا ودقة وإتقانا بل ومن ناحية الطموح الفني، لما تتمتع به مخرجته إيليان الراهب من خبرة.
قصة الفيلم تدور حول رجل، لبناني مسيحي، عانى في طفولته وشبابه المبكر في لبنان كل أصناف القمع والقهر والسخرية من جانب أمه والمجتمع ككل، وعندما أراد أن يثبت لأسرته الكاثوليكية المحافظة أنه يمكن أن يكون “رجلا” بمفاهيم الذكورية السائدة، التحق بميليشيا الكتائب اللبنانية وخاض تجربة قصيرة في الحرب الأهلية اللبنانية حينما كان قد بلغ بالكاد سن العشرين. وقد تركت هذه التجربة ندوبها المتعددة على “ميشيل” الذي غادر لبنان في منتصف الثمانينيات إلى أسبانيا حيث ترك لنفسه العنان للتحرر من أسر الماضي، وترك نفسه كما أراد، أي يتماثل مع أقرانه من مثليي الجنس، وخاض الكثير من المغامرات الجنسية مع مئات الشباب على حد قوله، ولكنه مازال يشعر بالذنب لأسباب لا يكشف عنها بوضوح (هل مارس القتل خلال الحرب الأهلية؟).. كما يشعر بعدم التحقق رغم انه متحقق بمفهوم الآخرين، فهو يجيد أربع لغات على الأقل، ويمارس عملا ناجحا في مجال السياحة والترجمة بل وقد اصبح من نجوم المجتمع بعد صدور كتاب عن تجربته في لبنان وإيطاليا كمثلي رافض للقيم التي نشأ عليها ومتمرد على الأسرة والكنيسة والسلطة والرفاق.
الفيلم عبارة عن رحلة داخل عقل هذا الشخص الذي قام بتغيير اسمه أيضا إمعانا في رغبته التخلص من هويته اللبنانية والانتماء للمجتمع الجديد الذي احتضه وأتاح له الحرية كلها، فقد غير اسمه ميشيل إلى “ميغيل”، وعبر عن توجهه الجنسي بشكل مفتوح، ورغم ذلك ها هو يقف أمام المخرجة إيليان الراهب التي تظهر في الفيلم كثيرا كطرف محاور ومشاكس ومستفز لميغيل- ميشيل، تصوره وهو يضحك ويبكي، يروي ويتذكر، يرفض ويحتج عليها ويثور، في حياته اليومية، وفي عمله، وفي جولاته، وتعود به الى أماكن كثيرة شكلت محطات هامة في حياته حيث يسترجع معها ومعنا عبر هذا الفيلم “الاعترافي” الكثير من المواقف والذكريات: إلى برشلونة التي يقول إن تاريخ ميلاده الحقيقي يبدأ عندما جاء إليها للمرة الأولى عام 1993 (هو من مواليد 1963)، بعد ان قضى بضع سنوات في مدريد، ثم الى غرناطة والأندلس، ومنها إلى دمشق وبيروت.
إنه يريد أخيرا، بعد مرور كل تلك السنوات، أن يتصالح مع نفسه ومع ماضيه الذي ظل دائما يهرب منه بل ومن مواجهة ذاته. وهو يترك العنان للبوح في بعض الأحيان، لكنه يحجم عن الاعتراف في أحيانٍ أخرى، عندما يشعر بالتهديد، بأن وقع وما سيعترف به يمكن أن يدينه ويشوه صورته أمام من سيشاهدونه. ولكن هل هو يهتم حقا؟
في لحظات كثيرة نعرف أنه قد تخلص من كل الأطر المقيدة، مثل العقيدة المسيحية التي يسخر منها، ومن فكرة الارتباط بأحد (هو يقيم علاقات متعددة مع الرجال من دون أي ارتباط أو حب) ويبقى بحثه الشاق عن الحب هو أكثر ما يؤرقه. معاناته من غياب الحب في حياته من طفولته ومن شعوره بأن أمه كانت دائما تفضل شقيقه الأصغر “إيلي” الذي يعيش في باريس عنه. وهو يقيممع امرأة اسبانية منذ 18 عاما ولكنمن دون أي علاقة جسدية بينهما، فهي تيقم علاقات مع من ترغب وهو كذلك فكل منهما يتمتع بحريته الجنسية.
لقاءات وانتقالات أماكن كثيرى تأخذه إليها إيليان لكي تساعده على استدعاء الذاكرة، وفي خضم ذلك تحاول هي أيضا أن تفهم الموضوع الذي شغلها كثيرا في أفلام سابقة، أي موضوع الحرب الأهلية والصراع الدموي بين الفصائل اللبنانية الذي لايزال يلقي بظلاله بقوة حتى اليوم.
لا تلجأ إيليان إلى أسلوب التسجيلي التقليدي، بل تستخدم في فيلمها الكثير من الأساليب المختلطة والصور ومقاطع الأفلام القديمة ومناظر من بيروت كما صورها سياح في الماضي، من حقبة الستينيات، وتعيد تمثيل بعض المواقف في حياة بطلها “ميغيل” باستخدام ممثلين منهم من يلعب دور والده أو شقيقه أو امه، وتمزج بين التصوير الحي ومناظر التحريك (الأنيماشن)، وكذلك الكثير من صور الجرافيكس والكوميكس، في سلاسة وانسيابية، تجعلنا نضحك مع ميشيل أو ميغيل، الذي نشاهده يضحك كثيرا وينطلق كرجل محب للحياة، إلا اننا نستطيع أن نلمح في مشاهد أخرى، بوضوح، كيف أنه مازال يشعر في قرارة نفسه بالحزن الدفين على غياب الحب في حياته وعلى وفاة أمه دون أن يستطع أن يراها ويفضفض لها عما في أعماق قلبه ويسمع منها كلمة حب.
إنه يتخيل انه عرفه مرة واحدة مع رجل يدغى “توني” يتذكر أنه فر معه من بلدة لبنانية بعد دخول القوات السورية، ووضع رأسه فوق فخذه واستغرق في النوم على سطح قارب، ولكنه سيصدم في النهاية عندما تعثر له إيليان على “توني” وتواجهه به في نفس المكان من لبنان، فلا يتعرف عليه توني ولا يتذكر ما يرويه عن هروبهما معا في القارب ويقول إنه لابد ان يكون قد قضى ما لا يزيد عن ساعة واحدة في تلك البلدة!
فيلم بديع ومؤثر وشديد الجرأة سواء من ناحية الأسلوب أو الموضوع، والمخرجة لا تترك أي تفصيلة في حياة بطل فيلمها من دون ان تبحث وتنقب فيها وتسعى للكشف عما وراءها، وعن مغزاها في سياق مواجهة الذات، والرغبة في فهم ما جرى قبل 37 عاما وما أعقب ذلك وصنع هذا الرجل الذي نراه بكل تناقضاته.
في أحد المشاهد يروي لها أنه حلم ذات يوم، في الماضي من زمن الحرب الأهلية، أن لبنان قد انفصل بجسده كدولة عن العالم العربي والتحم بايطاليا وأصبح جزءا منها، وأن المسلمين (السنة يقصد) قد غرقوا، كما تم التخلص من الشيعة، وأراد أن يتخلص من الدروز ولكنه تذكر أن منهم مسيحيين أيضا، وهي مشكلة. ونحن نرى ذلك من خلال الرسوم وفن التحريك.
وعندما تسأله المخرجة سؤالا أخيرا: كيف تريد ان ينتهي هذا الفيلم، فيقول على قارب في البحر يسير بعيدا عن لبنان.