أوراق القاهرة السينمائي-4: سبيلبرج يعود إلى ذاته
أمير العمري- القاهرة
أفتتحت الدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي بالفيلم الجديد للمخرج الأسطوري، ستيفن سبيلبرج، طفل هوليوود المدلل منذ ظهوره. وكان هذا شيئا جيدا للمهرجان ولجمهور المهرجان، لا شك في هذا. فهو فيلم جديد تماما لم تبدأ عروضه التجارية في الولايات المتحدة سوى في اليوم التالي مباشرة بعد عرضه في افتتاح المهرجان المصري الكبير.
من الطبيعي أن يلقى كل فيلم جديد يأتينا به المخرج الأمريكي الكبير ستيفن سبيلبرج، إقبالا كبيرا من جانب الجمهور، وترحيبا بل وإعجابا حماسياً، فسبيلبرج هو “طاووس هوليوود”، صاحب الأفلام المثيرة التي أسعدت الملايين في العالم منذ فيلمه الأشهر “الفكاك” (أو أسماك القرش) Jaws (1975)، بل ومن قبله “المبارزة” (1971) Duel. فسبيلبرج قادر على أن يسعد الصغار، كما يمكنه أن يجعل جمهور السينما من الكبار يرجعون إلى طفولتهم فيفركون أيديهم، ويتشبثون بأذرع مقاعدهم داحل دور السينما وهم يشاهدون المشاهد الكثرة في أفلامه الممتعة السلسة التي تستند إلى تقاليد هوليوود المعروفة، أو تقاليد مصنع الأحلام.
سبلبيرح في فيلمه الجديد “آل فابلمان” The fabelmans يقدم هذه المرة، قصة فتى، مولع بالسينما، يعتبرها أهم من الحياة الواقعية نفسها، يترك نفسه في ظلام قاعات العرض، ليصبح أحد الكائنات الغريبة الكرتونية التي يراها في أفلام هوليوود في عصرها الذهبي. سبيلبرج ببساطة يروي قصة طفولته وكراهقته وشبابه المبكر، فالفيلم يمتد من 1952 ولإثني عشر عاما، أي وسبيلبرج يتقدم بسيناريو كتبه لمدير إحدى شركات هوليوود حيث ينال الثناء وربما سينال أيضا فرصة لإخراج أول أفلامه الاحترافية.
يستعيد سبيلبرج هنا الكثير من مشاهد الصبا والشباب المبكر، في المدرسة، ومع الأسرة، في الشارع وفي السينما ومع الكاميرا التي أهداه إياها والده وهو صبي مراهق، ومع الحب الذي لم يكتمل، والنزوات الصبيانية التي اثارت الغيرة جعلته ضحية للعنف، وكيف بدأ يشعر للأول مرة، بالعداء من جانب زملائه في المدرسة، لكونه يهوديا بينما كان الآخرون يعتقدون أنه يجب أن يعتذر عن دور اليهود في صلب المسيح، حسب الفكر السائد وقتها!
المشكلة الأساسية في الفيلم هي أن ملك الحبكة المثيرة، يفتقد هذه المرة إلى “الحبكة” بل وإلى وجود الدراما الكبيرة، بل إلى التعامل بجدية مع ما يفترض أنه جاد، بل يميل أكثر إلى النظر إلى الأشياء من الخارج، يحيلنا إلى المسار السلس السهل في الحياة دون أن يتوقف كما هو مفترض، أمام مآزق تلك الحياة ومصاعبها، يحرص على رؤية الجانب المشرق فقط، ويعبر عبورا سريعا على الكثير من الأمور الذي كانت تستوجب التعمق فيها ومنها مسلة العلاقة بين والديه، فيبدو فيلمه وكأنه منفصل تماما عن العالم.
من البداية يدخلنا الفيلم مباشرة إلى عالم الصبي “سامي” (الذي يمثل سبيلبرج نفسه) رغم أنه لا يروي بالضرورة سيرة حياته بل يضيف الكثير من خياله. نحن نرى “سامي” وكيف تأثر كثيرا بأول فيلم شاهده وهو فيلم The Greatest Show on Earth (أعظم استعراض على الأرض) ولابد أنه كان في التاسعة من عمره، فالفيلم من انتاج 1952، وسبيلبرج من مواليد 1943. وقد تأثر بوجه خاص بمشهد اصطدام القطار تحطمه في مشهد كان يعد وقتها، من أعاجيب السينما، وقال سبيلبرج فيما بعد أن الفيلم كان سببا في اتجاهه لأن يصبح مخرجا سينمائياً، كما لعب مشهد تحطم القطار دورا أساسيا في اتقان سبيلبرج إخراج مشاهد “الأكشن” وتصويرها من زوايا متنوعة واستخدام المونتاج السريع بحيث يمنح المشهد أكبر قدر من الإثارة.
“سامي” محظوظ بوالده المهندس الموهوب “بيرت” (بول دانو) الذي يشجعه بل ويهديه كاميرا صغيرة من مقاس 8 مم هي التي يصور بها أفلامه الأولى: من نوع الويسترن ثم الأفلام الحربية الساذجة التي تحاكي أفلام هوليوود، ولكنه سيغضب غضبا شديدا على والده بسبب إصراره على الانتقال بأسرته من مدينة إلى أخرى، سعيا وراء الترقية والصعود الوظيفي. والسبب أن “سامي” الذي كان يقيم في مدينة مختلطة الأجناس سيجد نفسه بعد أن ينتقل من مدينة إلى أخرى، يستقر في مدينة لا يريى فيها سوى الأولاد من أبناء الطبقة الوسطى البيضاء، الذين يضطهدونه ويسخرون من يهوديته ويمارسون العنف ضده والتهميش.
ولكن هناك شخصية أخرى هي في الحقيقة “ظل الأب”، هي شخصية “بيني” (يقوم بالدور سيث روجن) الذي يدعوه أفراد العائلة بـ”العم”، وهو الذي سيهدي سامي فيما بعد كاميرا أكبر وأفضل من مقاس 16 مم، ورغم وجوده في الخلفية إلا أنه سيلعب دورا حاسما في مصير العائلة، فسوف نعرف في وقت متـأخر من الفيلم، أنه على علاقة بـ”ميتزي” والدة “سامي”، وأن أباه بيرت على علم بتلك العلاقة ولكنه لا يفعل شيئا، فهو يحب زوجته كثيرا، كذلك لا يمكنه أن يجرح مشاعر صديقه بيني، ولكن سيأتي وقت تتغلب جذوة الحب الملتهبة عند “ميتزي” (التي تقوم بدورها ميشيل ويليامز)، على فكرة الاستسلام للأمر الواقع والحفاظ على العائلة، فتترك زوجها وأبناءها جميعا وتلتحق بـ”بيني”، وتكون نهاية الزواج. كيف كان انعكس هذه الانفصال على “سامي”؟ لا شي يذكر لأن كل تفكيره متركز على السينما. عالم الخيال.
هناك أيضا الخال الصعلوك “بوريس” الذي تحذر الأم من فتح الباب له عندما يظهر فجأة خارج المنزل، لكنهم يدخلونه ونكتشف أنه صاحب تجربة كبيرة في هوليوود وفي عالم السيرك والسينما عموما، كما أنه يمتلك أيضا من الحكمة ما ينقله إلى “سامي”، ومنه ضرورة تحقيق التوازن دائما، بين الولاء للعائلة والولاء للفن. وهذه الفكرة تحديدا هي فكرة الفيلم، والأساس الذي يقوم عليه السيناريو، وما يريد سبيلبرج أن ينقله إلينا. ولكن المشكلة أنه يجعل فيلمه منفصلا عن العالم الخارجي، ومع توفر جميع العناصر المواكبة للفترة (الأثاث القاتم، والتليفزيون الصغير، والسيارات بطرز الفترة، والملابس، وتصفيفات الشعر، والأغاني)، إلا أنه بسبب هيمنة الحوار والمشاهد الطويلة التي تدور داخل ديكورات داخلية، والاعتماد الكبير على الحوار الذي لا يتوقف، والمفارقات الكلامية، يصبح الفيلم أقرب إلى تمثيلية تليفزيونية من الخمسينيات.
يمضي الفيلم على شكل “اسكتشات” متفرقة منفصلة، محورها هو “سامي” بالطبع وما يقع له من مفارقات، من هذه المفارقات ما يُضحك، ومنها ما لا يُضحك رغم أن المقصود أن يُضحك. ومنها أيضا ما وجدتَه شخصياً، كرتونياً تماماً، ومصنوعا صنعا ومليئا بالمبالغات الكاريكاتورية، كما ظهر في ملامح شخصية الأم التي تجيد عزف البيانو وكانت تتطلع أن تصبح شيئا في عالم الموسيقى لكنها تقاعست واستسلمت، وهي دائما في قمة التوتر، لدرجة أنها تصفع سامي بقسوة ثم تعتذر برقة، ثم تصرخ وتنوح وتهدد وتبكي لحالها وترثي لنفسها. صحيح أن أداء ميشيل وليامز في الكثير من البراعة لكن الشخصية نفسها تظل كرتونية غير مقنعة.
شخصية الأب باهتة وهامشية رغم تأثيره الذي لا شك فيه على ابنه. وشخصية الأخ، أي شقيق سامي شخصية باهتة أيضا، لا تضيف شيئا إلى الفيلم. وعلاقة سامي بالفتاة “مونيكا” التي يفترض أنها مسيحية متشددة، تريده وهو اليهودي أن يشعر بالمسيح في قلبه ويستدعيه، هذه العلاقة بأكملها تبدو كلعبة مضحكة، كاريكاتورية تثير الضحك، لكن لا أحد يمكنه أن يأخذها على محمل الجد ولا يمكن اعتبارها كانت نقطة تحول في حياة صاحبنا أو شيئا يمكن أن يترك تأثيره عليه كما أراد أن يصور، فاستدعاء سبيلبرج لهذه القصة أو الفقرة من حياته، يبدو فقط مدفوعا بالطرافة لا أكثر.
وعلاقة سامي المتوترة بزميله في المدرسة الثانوية، الشاب الوسيم الطويل “لوجان” (سام ريشنر) الذي يضطهده باستمرار، وكيف يلقنه سامي درسا بطريقته الخاصة، عن طريق الدفاع السلبي والاستسلام الهاديء ثم يجعله بطلا في الشريط الذي يصوره على الشاطيء لزملائه بعد حفل، هي علاقة “سينمائية” أكثر منها حقيقية، والمقصود منها تأكيد قدرة السينما على التلاعب بالحقيقة والواقع، وهي اللعبة المفضلة عند سبيلبرج بالطبع.
هناك دون شك، نقاط جاذبية في الفيلم، تكشف لنا عن القدرة على التحايل الفني لتحقيق تأثير قوي بإمكانيات وحيل بسيطة للغاية، لا شك أنها كبرت فيما بعد مع صاحبها وأصبحت أكثر براعة وتأثيرا (أنظر إلى ما قدمه مثلا في إي تي أو الحديقة الجوراسية)، لكن حتى علاقة سامي بالسينما في شبابه المبكر، لا تنمو كما كان متوقعا، فسبيلبرج لا يولي اهتماما كبيرا بالتوقف أمام الأفلام- العلامات التي تأثر بها بعد مرحلة الطفولة و “أعظم استعراض على الأرض”.
وربما يكون المشهد الأخير في الفيلم (وهو أيضا منفصل عن باقي المشاهد وأحد الاسكتشات التي تكرر ما نعرفه وسبق أن رواه سبيلبرج كثيرا، هو مشهد لقائه بالصدفة مع المخرج الأسطوري جون فورد في مكتبه، وهو بعد شاب صغير في مقتبل عمره، حيث يشير فورد الى لوحة على الجدار، ويطلب منه أن يحدد له خط الأفق، ملقنا إياه درسا عن أهمية أن يكون هذا الخط في المنتصف وليس في أعلى الصورة أو أسفلها لكي لا يصبح الفيلم مملا.
قدم سبيلبرح هذا المشهد بأسلوب خفيف جعله يجسد منه التناقض بين الشاب الصغير والمخرج العملاق ذي اللكنة الأيرلندية الخشنة، الذي يثير الرهبة بالعصابة التي تغطي عينه اليسرى. والطريف أن المخرج الكبير ديفيد لينش هو الذي قام بدور جون فورد!
فيلم “آل فابلمان” ليس أفضل أفلام مخرجه، فلديه أفلام أفضل كثيرا. ولست من الذين يعتبرون غياب النوستالجيا عن الفيلم ميزة، بل كثيرا ما يضفي الطابع النوستالجي طابعا حميميا شعريا على الفيلم. وهو ما ينقص هذا الفيلم بشكل واضح. وعلينا فقط أن نسترجع “سينما باراديزو” لتورناتوري، ثم “يد الله” لسورينتينو.