أوراق القاهرة السينمائي: “الامتحان”.. الموهبة الكردية
من أفضل الأفلام التي عرضت بالدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي فيلم “الامتحان” The Exam للمخرج شوكت أمين كوركي (48 سنة) من كردستان العراق، وهذا هو رابع أفلامه الروائية الطويلة التي بدأها بفيلم “عبور التراب” (2002). فهذا الفيلم الذي تدور أحداثه بالكامل في السليمانية، يتبع نهج السينما الإيرانية في الاعتماد على سيناريو مكتوب بشكل جيدا جدا، يمتليء بالتفاصيل الصغيرة التي تضيف باستمرار إلى بناء الفيلم وتساهم في تطوير الحبكة التي تحاكي الحبكة في أفلام الجريمة.
يكمن جمال هذا الفيلم في أنه يجمع الكثير من العناصر المعاصرة التي تثير الاهتمام اليوم، من المشاكل السياسية التي نتجت عن الحرب في العراق، وما أعقب الحرب من انقسامات، وما أفرزه سقوط نظام صدام حسين المركزي، من تداعيات نفسية كانت نائمة، كما يتناول ربما للمرة الأولى في السينما، بكل هذا النحو من الجرأة والوضوح، المشاكل السياسية والاجتماعية القائمة في المجتمع الكردي، بين الرجل والمرأة، وبين الرجل والرجل، وشكل العلاقات العشائرية والقبلية التي تتحكم في مصائر الأشخاص.
يصور الفيلم أيضا، الجريمة والفساد العام الذي امتد من أعلى إلى أسفل، مشيرا الى التحديات التي تواجه الإقليم الكردي مثل موضوع اللاجئين الذي يعبرون الحدود، وموضوع الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي يشير إليه الفيلم من خلال أخبار التليفزيون التي تصور المرحلة الأخيرة من القتال ضد داعش في الموصل، أي أن الأحداث تدور في عام 2017.
إلا أن براعة السيناريو تكمن في أنه يضفر كل هذه الأشياء في نسيج درامي قوي متماسك، بحيث لا يفلت منه الخيط أبدا، كما يسيطر على الإيقاع والأداء التمثيلي ويجعل المتفرج على الفيلم، يترقب تطور الأحداث بحيث يضيف كل مشهد إلى ما سبقه.
شأن أفلام الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، ينطلق سيناريو الفيلم الذي كتبه بالتعاون مع المخرج، محمد رضا غوهاري، من حدث صغير، ويصعد به تدريجيا فتتسع الصورة أمام الكثير من المواضيع التي تثير اهتمام المخرج وجمهوره. فهناك امرأة تدعى “جيلان” متزوجة من رجل فظ غليظ الحس، يعمل نتاجر سمك في سوق البلدة، يحظر عليها الخروج دون إذن منه، ويسيء معاملتها، ولأنها لا تريد ان تنتهي شقيقتها الصغرى “روجين” إلى نفس مصيرها، فهي تريدها بشتى الطرق أن تدخل الامتحان الذي يؤهلها للالتحاق بالجامعة وبلك تفلت من الزواج المرتب الذي يرغب والدها أن يرغمها على القبول به كحل وحيد أمامها وهي ابنة السابعة عشرة.
هذا الطموح لاجتياز الامتحان بنجاح من دون ترك أي شيء للصدفة، يدفع “جيلان” إلى الوصول لعصابة تعمل تحت الأرض، تحصل على رشاوى ضخمة وتستخدم وسائل الاتصال الحديثة (الهاتف المحمول، والانترنت والبلوتوث) في نقل إجابات الامتحان إلى مجموعة كبيرة من الراغبين الذين دفعوا مبالغ طائلة. وتدريجيا يصبح الأمر أكثر تعقيدا. والامتحان ينقسم في الحقيقة، إلى ستة امتحانات أي ست جلسات مختلفة، في كل مرة يتعين على الطلاب الإجابة على مجموعة من الأسئلة بطريقة اختيار إجابة واحدة صحيحة.
هناك الأب البطريركي القمعي المتخلف الذي يريد أن يرغم ابنته على الزواج، ولا يؤمن بالدراسة والتعليم، زوج جيلان الفظ الذي يريد باستمرار أن يصف نرها عن مسألة تعليم شقيقتها كما يريد أن يعتقلها في المنزل، لا تغادره، ولا يتورع عن ضربها. وهناك من ناحية أخرى، المرأة التي تنشد تحرير شقيقتها من هذا الجو من الاستعباد، والفتاة التي تريد أن تفلت من خلال التعليم، من التدني والخضوع.. أي أن التعليم يرمز هنا للتحرر من أسر التقاليد المتخلفة الموروثة.
ما الذي سيحدث وهل ستتمكن روجين من الحصول على ما ترغب، وتتمكن جيلان من تحقيق هدفها؟ الحقيقة أن كل تعقيدات الواقع تقف ضد هذا الطموح، فالفساد ينكشف وينكشف أن وراءه أشخاص كبار، ولكنه فساد نابع من الإحباط والفشل واليأس الاجتماعي.
لا تبدو روجين في البداية راغبة في دخول حلبة الصراع من أجل مستقبلها، بل هي حاولت أيضا الانتحار بعد أن أصبح الشاب الذي ارتبطت بعلاقة حب معه، في عداد المفقودين، وغالبا فقد حياته في الصراع المسلح مع تنظيم داعش. أما شقيقتها الكبرى “جيلان” فهي التي تقاتل من أجل أن تضمن لها مكانا التعليم الجامعي. لذلك فهي تلجأ إلى وسائل لا تعد أخلاقية من المنظور الاجتماعي. هنا يطرح السؤال الأخلاقي نفسه: هل يمكن قبول أن الغاية تبرر الوسيلة؟ لكن الأمر الإيجابي أن الفيلم يترك السؤال قائما دون أن يجب عنه أي دون أن يحكم على السلوك.
في الفيلم الكثير من المشاهد المتقنة التنفيذ، والمشاهد الأخرى المبتكرة التي تدهشنا بأصالتها. فهناك مدرس في المدرسة التي تنظم “الامتحان” يصر على ضرورة قطع الانترنت والهواتف المحمولة لكي يتم ضبط من يحتالون على الوضع يحاولون الغش، وهو ما يحدث بالفعل، لكن “روجين” تفلت بمعجزة. وتلجأ العصابة الى طريقة جديدة فيوزعون على الطلاب أجهزة توكي ووكي تربط حول أجسادهم تحت ملابسهم، مع وضع سماعة في الأذن، ويتم دفع شاحنة ضخمة بالقرب من المكان الذي يقام فيه الامتحان لكي يصبح البث واضحا. ولكن هذه الحيلة نفسها سوف تنكشف، وسوف تقع روجين في الفخ، وسيتعاطف معها المدرس المتشدد بعد أن يطلع على الضغوط الواقعة عليها لتزويجها، لكن مديرة المدرسة ترفض تماما منحها فرصة ثانية.
فيلم “الامتحان” عمل جيد، في موضوعه وأسلوب مخرجه شوكت أمين كوركي الذي اكتسب دون شك، خبرة كبيرة من خلال عمله، كما أنه يعرف جيدا البيئة التي يصور فيها، ويتمكن من تحريك الممثلين والتحكم في انفعالاتهم وإظهار التناقضات بين الشخصيات المختلفة.
إن فشل جيلان- في نهاية المطاف- في دفع شقيقتها خارج إطار العائلة البطريركية والإفلات من مصيرها الرديء المنتظر، يوحي بأن لا شيء يمكن أن يتغير في كردستان، أو على الأقل، ليس بعد!