“أنوره”.. فيلم السعفة الذهبية وهل كان يستحقها؟
أمير العمري
كان من مفاجآت الدورة الـ77، حصول الفيلم الأمريكي “أنوره” Anora على “السعفة الذهبية” كأفضل فيلم بين أفلام المسابقة متفوقا على الفيلم الذي نال معظم الترشيحات أي فيلم “إيميليا بيريز” والذي اعتبرته شخصيا ومازلت، فيلم العام 2024 لأسباب كثيرة.
فاتني أن أشاهد “أنوره” في كان، لذلك حرصت على مشاهدته أخيرا عند عرضه في مهرجان لندن السينمائي الذي يأتينا بأهم أفلام بالإضافة بالطبع إلى العروض العالمية الأولى والاكتشافات الجديدة. وكان انطباعي الأول عنه أنه عمل مجنون، جامح، يفيض بالحركة والحيوية، ويتمتع بجرأة غير عادية في تناول موضوعه، وأداء مدهش، مع انسيابية في السرد والعرض مثيرة للإعجاب. إنها “الجدة” تلك الميزة الأساسية التي تميز هذا الفيلم، وهي نفس ميزة فيلم “إيميليا بيريز” ولابد أن لجنة التحكيم كانت حائرة بين الفيلمين.
لا شك أن “أنوره” فيلم جديد في موضوعه أو بالأحرى، في طريقة سرد موضوعه، فهو جريء، ومختلف، ومليء بالحيوية والتدفق والحركة التي لا تهدأ، ولاشك أن مخرجه شون بيكر، قد بلغ مرحلة عالية من النضج والتمكن والقدرة على السيطرة على الأداء، والانتقال من موقع إلى آخر من دون أن يترهل الإيقاع، أو يسقط في الرتابة والتكرار، رغم أن الكثير من عبارات الحوار، خصوصا الشتائم والشكوى والرفض والتذمر والسخط، تتكرر كثيرا على ألسنة جميع الشخصيات تقريبا.
كتب شون بيكر سيناريو فيلمه، من وحي خياله الشخصي، ومن علاقته بالعالم الذي يسيطر عليه وسبق أن لمسه، بشكل أو بآخر، في غالبية أفلامه السابقة. فليس من الممكن تجاهل اهتمامه الواضح هنا بعالم التعري وراقصات التعري وبائعات الجنس وممثلات الأفلام الإباحية.
لقد سبق أن اتضح هذا الاهتمام في فيلميه السابقين على الأقل، “ستارليت” (2012) و”صاروخ أحمر” (2021). والحقيقة أن اعتمامه بهذا العالم هو أساساً، اهتمام بالشخصية التي توظف جسدها في هذه المهنة. فهو قد يكون أول مخرج أمريكي يتناول مثل هذه الشخصية بقدر كبير من التوازن، مبتعدا عن النظرة الأخلاقية والسطحية، بل على العكس، يبدو متعاطفا معها. وهو لا يعرض عادة “تاريخا” للشخصية، يستخدمه في الشرح والتبرير وكيف أصبحت على ما أصبحت عليه، فليس هذا مهما عنده، فالأهم هو كيف تتكيف هذه الشخصية مع واقعها، وتتعامل في احترافية تامة، مع مهنتها، مع الكشف على استحياء، عن شعور دفين بالاغتراب.
كانت “جين” بطلة أول أفلامه “ستارليت” Starlet فتاة في الحادية والعشرين من عمرها، ممثلة أفلام إباحية (بورنو)، لكنها تبدو مثل أي فتاة عادية تماما، هادئة، لا تشعر بالغضب أو الاحتجاج بسبب ما تفعله، وكانت تمتلك أيضا ضميرا يقظا، دفعها إلى إقامة علاقة إنسانية تعويضية مع امرأة عجوز، تساعدها وتحاول أن تسعدها بشتى الطرق كما لو كانت هي الأم البديلة.
وفي “صاروخ أحمر” كان بيكر متعاطفا مع بطله “مايكي”، ممثل أفلام البورنو الذي أصبح عاطلا عن العمل، بعد أن لم يعد يصلح للقيام بالدور بسبب تقدمه في العمر وفقدانه قدراته الخاصة، وأصبح مفلسا يتحايل على الحياة ويسعى وراء حلم أخير لعله ينقذه من أزمته. ورغم أنه يلجا إلى الكذب والخداع، تحت وطأة رغبته المستبدة في العودة إلى عالمه الذي تخلى عنه عن طريق استغلال فتاة في السابعة عشرة من عمرها، إلا أن شون بيكر لا يدينه ولا يحكم عليه بل يكتفي بعرض أزمته ويترك لنا أن نر ما نقرره بشأنه إن استطعنا.
أما “أنوره” أو “آني” كما تفضل باستمرار أن ينادونها، فهي تلك الفتاة التي تبلغ ثلاثة وعشرين عاما، التي لا نعرف ماضيها، شأن معظم شخصيات شون بيكر، ولكننا نعرف فقط أنها تنتمي أصلا إلى أسرة فقيرة، وقد امتهنت العمل كراقصة تعري في أحد أندية التعري في مانهاتن، ولا تمانع أيضا من اصطحاب الزبون الذي ترى فيه نوعا من الكياسة، إلى غرفة داخلية لبيعه الجنس مقابل المال، فهذا جزء أساسي من عملها.
إنها أكثر مهارة من زميلاتها، واحداهن بالذات، وهي “دايموند” ذات الشعر الأحمر، تشعر بالغيرة الشديدة منها، فهي تفوقها جمالا، لكن أنوره تتفوق عليها بمواهبها في الرقص واستخدام جسدها بكل ما يمكن أن ينتج من إثارة. يسوق القدر ذات ليلة في طريقها بشاب يافع في الحادية والعشرين، هو “إيفان زخاروف”، وهو ابن لأحد كبار رجال الطغمة التي حققت الثروة والثراء في روسيا عن طريق صلاتها بالمافيا.
إيفان يخلط الخمر بالمخدرات، ويبدو مهووسا، يريد تحقيق أقصى درجات المتعة دون أدنى مبالاة أو حساب للعواقب. وهو يغدق عليها المال، ثم يصحبها خارج الملهى الى ما يزعم أنه بيته لتجد نفسها داخل قصر هائل يمكن أن نطلق عليه بيت الأحلام، حيث تتوفر جميع وسائل الرفاهية والبذخ الشديد. والقصر هو بالطبع قصر والده الملياردير “نيكولاي زخاروف” الذي يستثمر جزءا من ثروته في أمريكا، ولكنه غائب الآن في روسيا.
إيفان يشتري لها الملابس الثمينة والمجوهرات، ويدعوها إلى حفل رأس السنة الذي يقيمه في المنزل في صحبة أصدقائه الذين لا يتوقفون عن شرب الخمر وتعاطي المخدرات والرقص المجنون حتى الصباح، ثم يعرض عليها أن تتفرغ لمصاحبته لمدة أسبوع مقابل 15 الف دولار، ثم يطير الاثنان الى لاس فيجاس حيث يواصلان ممارسة الجنس دون توقف والاستمتاع بكل مباهج الدنيا، لكنه ايفان، لا خبرة لديه، فهل متعجل كثيرا، وتتولى هي بخبرتها تعليمه كيفية الحصول على المتعة لدرجة أن يقع في حبها ويعرض عليها الزواج وتشعر “آني” بأن حلمها بحياة بعيدة عن عملها الشاق قيد التحقق فتوافق، تحت تأثير الشعور بالحب وأن إيفان يقد يكون فتى أحلامها. لكن الحلم سرعان ما يتبخر عندما يصل الخبر إلى والد إيفان بأنه قد تزوج من “عاهرة”، فيأمر تابعه الأمين “توروس” بضرورة إجبار العروسين على إبطال هذا الزواج فورا.
توروس هذا قس أرثوذوكسي أمريكي- روماني هو مدير أعمال زخاروف، وهو يتلقى التعليمات عبر الهاتف ليقطع قيامه بطقوس تعميد أحد أطفال الجالية الروسية في بروكلين (نيويورك) فيترك الحفل ويهرع مستعينا باثنين من الحراس أو الأتباع هما الروماني “جارنيك” والروسي “إيجور”. الأول عنيف ولكن يشهل وقوعه في المشاكل، والثاني طيب القلب لكنه مضطر للقيام بالمهمة.
من هذا المدخل ننتقل إلى القسم الثاني من الفيلم الذي يدور في معظمه في الخارج على طريقة أفلام الطريق، للبحث عن إيفان في أوكار وأماكن كثيرة، بعد أن يكون قد تمكن من الفرار خارج قصر والده. أما جارنيك وإيجور فيقومان باحتجاز أنوره رغم احتجاجها الشديد وما تبديه من عنف، وتتحكم خلال العراك أشياء كثيرة في القصر.
تظل أنوره تأمل إلى ما قبل النهاية، في أن إيفان سيظهر لكي ينقذها ويعلن تمسكه بها وحبه لها. لكن من الواضح أن هذا مجرد وهم.
في سياق كوميدي مجنون، يستمر الفيلم وينتقل بين الأماكن المتعددة طوال الليل حتى مطلع اليوم الثاني، من أجل العثور على إيفان، ثم تقع مواقف كثيرة يمكن تخيل كيف ستنتهي، وهو ما يحدث في القسم الثالث من الفيلم.
يعرف المخرج شون بيكر كيف يصنع فيلما مثيرا، يثير اهتمام المتفرجين من شتى الثقافات والخلفيات، لا يجنح قط نحو الميلودراما ولا يتلاعب بمشاعرنا، بل يظل يتحكم كأفضل ما يكون، في تدفق الأحداث، ومسار السرد، ويدخر مفاجأة تلو الأخرى، مع سيطرة مذهلة على أداء الممثلين، وقدرة على توليد الكوميديا من الفارقات الكثيرة التي تقابل أبطاله الهامشيين.
إنه يجعلنا نشعر بأن كل ما نراه يحدث فعلا في الزمن الحقيقي لأحداث الفيلم أي عبر ليلة ويوم، متبعا أسلوبا أقرب إلى الأسلوب التسجيلي الذي يتابع الشخصيات من مكان إلى آخر، ومن موقف إلى موقف آخر، مع كثير من الالتواءات في الحبكة، التي تكفل استمرار السرد من دون ترهل، يساعده أولا مدير تصوير واع، يتمكن من خلق مساحات بديعة والقبض على الكثير من تفاصيل الصورة، بحيث تصبح الشخصيات جزءا من المكان، ويصبح المكان شاهدا من ناحية، وذا سطوة مخيفة من ناحية أخرى.
إنها قصة حب رومانسية تقع في ظروف غير عادية، تحت تأثير الخمر والمخدرات ووهم التحرر من القبضة المشددة للعائلة من جانب إيفان، أو الوهم بإمكانية التحرر والعثور على السعادة والإقلاع عن العمل المهين من جانب أنوره.
لدينا إيفان برعونته وكونه واقع تحت تأثير حلم مراهق وهمي لابد أن ينتهي إلى الخضوع والانصياع لولائه الأصلي، أي عائلته الثرية، وإلا فقط كل شيء. وهناك أنوره التي يتعين عليها أن ترضخ وتستسلم وتقبل التخلي عن الوهم، خصوصا بعد أن تلمس خسة ووضاعة إيفان، الذي يتخلى عنها بعد أن يستفيق ويدعوها مجرد فتاة ليل.
ومن خلال هذا التناقض بين أنوره وإيفان، يضغط الفيلم على فكرة التناقض الطبقي والانتماءات العائلية، وأن المشاعر لا تنشأ بمعزل عن البيئة والخلفية الاجتماعية، وأما قصة سندريلا التي يقول شون بيكر إن فيلمه يعبر عنها، فلا تنطبق تماما على حالة “أنوره”، فإيفان لم يكن “فارس الأحلام” حقا، بل مجرد طفل مشاكس يريد أن يثبت لنفسه أنه يستطيع أن يستقل عن والده.
أنوره شخصية قوية، أكثر قوة من إيفان بحكم تكوينها وظروفها ووجودها في الدور الذي تؤديه في الحياة. إنها بمعنى ما، تعاني من أجل الوجود. أما هو فلا يمتلك أي موهبة، ضائع، يعتمد تماما على والده المستبد. أنوره تنساق وراء حلم أكبر من الواقع، بينما ينساق إيفان هو وراء نزوة كبيرة. وسنكتشف في النهاية أن تحت القشرة العنيفة الصلبة التي تختفي تحتها أنوره، كائن هش، يتوق إلى الحب، ويتطلع إلى الخلاص.
هناك تلاعب كثير في استخدام اللغة، وما يمكن أن تولده من معان متباينة، فالفيلم ينتقل كثيرا بين الروسية والإنجليزية، فإيفان لا يجيد الإنجليزية، رغم بل يجيد ترديد الشتائم وألفاظ السباب التي تعلمها غالبا من أفلام هوليوود، أو العبارات الروتينية المقتبسة من خطابات دونالد ترامب (ليبارك الله أمريكا” وهي العبارة التي يهتف بها وهو يمارس الجنس لأول مرة مع أنوره التي تعرف كيف تشبعه.
أما أنوره بسبب بعض أصولها الروسية البعيدة التي تعود جدتها، فهي تعرف بعض الكلمات الروسية، ولكن اللغة مجرد غطاء خارجي تهكمي فقط بالأساس هو لغة الجسد. وأهم ما يميز الفيلم هو أولا تلك الكيمياء التي تجمع بين الشخصيتين، بين ” الممثلة “ميكي ماديسون” التي تقوم بدور آني، والممثل من أصل روسي “مارك إدلشتين” الذي يقوم بدور ايفان.
الإثنان يتحركان ويتحدثان ويتشاجران ويختلفان ويتفقان ويمارسان الجنس ويسبحان في حمام السباحة بأحد الفنادق الفاخرة في لاس فيجاس، فيما يشبه رقصة طويلة ممتدة، أو تقلصات جسدية مستمرة، تشي بحالة النشوة والاهتياج الناتجة عن الإفراط في المخدرات. وعندما تأتي الصحوة، يتبخر الحلم.
وتبقى ميكي ماديسون هي التي تحمل الفيلم كله على عاتقها، والباقون يساندونها ويدعمونها ويؤكدون حضورها المدهش، فهي تتمتع بحيوية وقدرة كبيرة على الإقناع مع الجرأة المدهشة في أداء جميع مشاهد العري والجنس، والتلاعب بالزبائن داخل ملهى الرقص العاري، أو التعامل بمنتهى الخشونة والعنف مع كل من جارنيك وإيجور.
شخصية إيحور تتضح أكثر في الثلث الأخير من الفيلم، وتتخذ معالم إنسانية، فهو يشعر بأزمة آني، وحاجتها إلى الحب والخلاص، وبكونها ضحية للحياة نفسها، ويتعاطف معها تدريجيا، ولكنه لا يجرؤ على أن يسمح لنفسه باستغلال ضعفها. إنه نموذج نبيل معاكس تماما لشخصية الحارس الشخصي العنيف، أو الخارج عن القانون. واللقطة الأخيرة في الفيلم تقول الكثير والكثير.
“أنوره” يبدأ بالضحك والمرح، ثم يتحول تدريجيا إلى مأساة تجرح وتصيب وتترك ندوبها. فشخصية آني مثل كل شخصيات أفلام شون بيكر السابقة، هي شخصية ضائعة، تبحث عن خلاصها الشخصي مثلما كان “مايكي” في “صاروخ أحمر”، و”جين” في “ستارليت”. ولعلها أيضا شخصيات تعكس فراغ الواقع الأمريكي، وسقوط الحلم الأمريكي.
أخيرا يمكن القول إن “السعفة الذهبية” ذهبت إلى فيلم يستحقها. إنه قد لا يكون عملا كبيرا خارقا، لكنه يطرق طريقا جديدا مليئا بالجموح، تماما كما كان “سائق التاكسي” Taxi driver لسكورسيزي، و”قاسي القلب”Wild at Heart لديفيد لينش، و”بارتون فينك” Barton Fink للأخوين كوين. وهي ثلاثة أفلام أمريكية مستقلة تحتفي بالسينما جديرة بالعودة إليها باستمرار لمن يهتم حقا بسينما الفن والمتعة.
والثلاثة أفلام نالت “السعفة الذهبية” ولم يكن أحد يتوقع أن تنالها!