أنطولوجيا السينما والنقد عند أندريه بازان

يمثل أندريه بازان”André Bazin لحظة فكرية ونظرية بارزة في مسار العلاقة بين الفلسفة والسينما، ولا سيما في بُعدها النقدي. ونجد من يعتبر أنه إذا كان موريس ميرلو بونتي ترك إرثًا نظريًا فقط، فإن ما أسَّس لـه أندريه بازان تداخل فيه النظري والتطبيقي، ليس من زاوية اعتباره مارس النقد على الأفلام مستلهمًا بعض النظريات الفلسفية فحسب، وإنما لأنه مارس تأثيرًا أكيدًا على نشأة وتطور ما سمي بـ “الموجة الجديدة” الفرنسية. وبفضل حضوره الفكري الكبير من خلال كتاباته، وتأسيسه لمجلة “كراسات السينما Cahiers du cinéma“، وباقتراحه لمنهج نقدي جديد في معالجة الظاهرة السينمائية أثر على بعض الفلاسفة الكبار، الذين سنعرض لهم فيما بعد، وعلى رأسهم جيل دولوز وستانلي كافيل، إلى ألان باديو.

أندريه بازان

ولربما لهذا السبب كتب جان ناربوني- وكان من منشطي ” كراسات السينما” في السبعينات والثمانينات- أن “كل ما يُكتب من جديد ومُهم حول السينما في فرنسا منذ وفاة أندري بازان قد استلهم فكره بدون منازع”[1]. وذلك لأن مجموع نصوصه، كما يلاحظ دومينيك شاتو تشكل “عملا نقديا للسينما يبرز إرادة ثابثة في تجاوز التعليق البسيط على الأفلام، ويُعبر عن حكم للذوق في تطوراته النظرية التي كونت في نهاية الأمر، متنًا منسجمًا للأفكار”[2].

لقد تأثر أندريه بازان، بشكل كبير، بمرجعين فلسفيين أساسيين: البرغسونية والفينومنيولوجيا. وعلى الرغم من اختلاف هذين الاتجاهين من حيث المنطلقات الفلسفية ونمط السؤال والمنهج والمقاصد، فإنهما يتفقان على أمرين اثنين: التبرم من “الوضعية العلموية” التي سادت بشكل كبير في بداية القرن العشرين، ومن بعض التيارات العقلانية التي تحدد الوعي في اعتباره وساطة للعقل يوحد مختلف الإدراكات المتنوعة والمتشابكة التي يستقبلها الجسد؛ والقضية الثانية تتعلق بالإدراك: إدراك الواقع والصورة وعلاقتهما بالظاهرة السينمائية. انشغل برغسون بالسينماتوغراف واستحضره أكثر من مرة في بناء تصوره للحركة؛ أما الفينومينولوجيون، وعلى رأسهم موريس ميرلو بونتي، فقد جعلوا من مسألة الإدراك قضيتهم الفلسفية المركزية، ومن الصورة عموما والسينمائية والتشكيلية خصوصا، اهتمامًا دائمًا.

ما ينطبق على الإدراك في التقاطه لأشياء العالم ودور العقل في تنظيم معطياتها ينسحب على تقنية المونتاج في السينما، وهي عملية ذهنية وفكرية تنظم المادة المتنوعة والمتفرقة التي تلتقطها الكاميرا. وتلاحظ جويل ماغني أن “الحذر الغريزي لبازان من المونتاج يعود بشكل كبير إلى تصوراته الفلسفية البرغسونية والفينومنولوجية”[3]. ذلك أن فعل التصوير الفيلمي، عنده، لا يتمثل في تفكيك الواقع إلى جملة من العناصر المتميزة، ومن العلامات المجردة، لأن اللقطة السينمائية تُظهر بقدر ما تترك للمتلقي حرية افتراض ما لا يظهر من خلال الآثار التي تترك في قعرها.

ولذلك فإن سؤال: “ما هي السينما؟” الذي طرحه أندريه بازان وعناصر الجواب التي قدمها تقربه من الفلسفة بشكل صريح، لأنه يمنح أهمية كبرى للبعد الأنطولوجي للسينما أكثر مما يستحضر البناء المنطقي الذي يمكن أن يستند إليه، أو حتى المسار الكرونولوجي للعمل السينمائي.

وقد أنتج بازان مجموعة نصوص نقدية أرادها مساهمة في وضع “أسس أونطولوجية للفن السينمائي”. ولكن بمنح لفظة “أونطولوجيا” معنى قريبا من الواقع بحكم أنه يعتبر بأن “السينما هي فن الواقع”؛ فالكائن المقصود عنده هو الواقع. كينونة الواقع باعتباره واقعا أي منظورًا إليه في استقلال عن أي تحديد خارجي، بمعنى أن الواقع هو ما منه تستمد السينما وجودها، ويمنحها كثافة. ومن ثم تغدو السينما هي ذلك الفن الذي “يتمثل الواقع”. ولأن السينما فن يتطور بحكم أن بازان واكب بدايات السينما الناطقة وانشغل بفنون بصرية أخرى مثل الفوتوغرافيا، فإنه وضع مصطلحا آخر يختزن دلالة الأونطولوجيا ومتطلبات التطور وهو مصطلح “الأنطو- توليدي”
onto-génétique أو “الأنطو- تكوين” “Onto-genèse“. ويقصد بذلك، كما يقول دومينيك شاتو، “تكوّن ونشأة الصورة نفسها وتطورها التقني الذي يُحقق خارج تبدلات وحوادث المسار نزوعها الانطولوجي- الواقعي”[4]. ذلك أن سؤال الماهية – يتعلق الأمر هنا بماهية السينما- هو سؤال جوهراني. وأندري بازان لا يخفي بل ويعلن بوضوح التأثيرات الوجودية على نصوصه، والتداخل البارز لأفكار فلسفية، بل وحتى دينية في كتاباته. فهو يقتبس، على سبيل المثال، فكرة الديمومة من برغسون، ومفهوم الإدراك الشامل من ميرلو بونتي، لإبراز الأهمية الخاصة التي يوليها للقطة- المتوالية plan-séquence، ولعمق المجال ليس باعتبارهما صيغًا تقنية معروفة ومتداولة، وإنما لأنهما تشكلان أساليب وتعابير تتناغم وتنسجم مع “كينونة السينما”.

قارن بازان كثيرا بين الفوتوغرافيا والسينما

وفي سياق مقارنته أو مقابلته بين الفن الفوتوغرافي والسينما يرى أندريه بازان أن ماهية الفوتوغرافيا تتجلى في “موضوعيتها الجوهرية”. وتتمثل ماهية السينما في كونها “اكتمال الموضوعية الفوتوغرافية في الزمن” أو هي “مومياء التغيير”[5]. غير أن هذه الماهية ليست معطاة مسبقا، كما يلاحظ شاتو ولا تفرض ذاتها من ذاتها، لأنها ليست سوى “مثال مرتبط بسيكولوجية الإنسانية يدفع الحلم الإنساني البدئي إلى إعادة تكوين العالم على صورته. ومن أجل تحقيق هذا المثال يحتاج إلى التقدم التقني، والبحث البشري لنحت أدوات تحل محل الإنسان بالتدريج”[6].

السينما عند بازان فوتوغرافيا. الواقع سابق والفوتوغرافيا تكشف عنه. ذلك أن المخزونات الجمالية للفوتوغرافيا تكمن في الكشف عن الواقع، أي أن السينما، كما سبقت الإشارة، هي “كشف الموضوعية الفوتوغرافية في الزمن”، ولا يمكن التشويش على ماهيتها إلا بطريقتين: بتشويه الواقع بواسطة التلاعب بالزمن اعتمادا على تقنيات المونتاج باعتبار التمثل représentation عاملا يضاف إلى الواقع، بل يستبعد الصورة السينمائية التي تتحدد مسبقا بهذه الإضافات؛ ولذلك فإن الواقعية الحقيقية، أي الواقعية الأونطولوجية، لا يمكن أن ترتهن لجمالية بوصفها إرادة للتمثل. لا يمكن لهذه الواقعية أن تستوطن مظهر التمثل لأنه “نمط وجودها هو الظهور، ما يجب أن يظهر وما وراء مظهرها، هو الواقع. ويختزل التمثل في درجة الصفر، إذ لم يبق من هذا الواقع سوى حضوره أو بالأحرى حضوره البسيط والخالص”[7]. فما هو أونطولوجي عند بازان يتحدد بوصفه حضوراً للواقع، أو بالأحرى حضوراً واقعيًا.

وعلى الرغم من استلهام بازان لمفردات القاموس الفلسفي واستناده إلى برغسون بخصوص مفهوم الديمومة والى ميرلو بونتي فيما يتعلق بالإدراك وفهمه للقوى الكامنة في الصورة، فإن ما قدمه بازان، في الحقيقة، وكما يلاحظ أغلب دارسيه هو عمل “فلسفي” للظاهرة السينمائية أكثر مما قدم نظرية أو ادعى تقديمها، لقد اقترح عناصر للتأمل كانت في حاجة إلى تعميق. وهو ما سيحصل فيما بعد مع فلاسفة معتمدين وعلى رأسهم ستانلي كافيل وجيل دولوز. ومعلوم أن النزعة الأونطولوجية لها تاريخ في الفلسفة سواء عند أرسطو الذي نظر إليها باعتبارها لا تستهدف سوى تحديد الملامح المشتركة لكل أشكال الواقع، بواسطة “تعميمات خطابية”، أو بالتسليم بوجود ماهيات تتجاوز المظاهر كما اعتبرها “لايبنتز” بحيث دعا إلى إنتاج تعريف واقعي للكائن.

غير أننا نعثر على هذا الانشغال الفلسفي لدى أندريه بازان في تأمله للصورة الفوتوغرافية، ذلك أنه يمكن “للصورة أن تكون مهتزة، مشوهة، منزوعة الألوان، بدون قيمة وثائقية، ولكنها تصدر من حيث نشأتها عن أونطولوجيا النموذج. إنها نموذج”[8] ، أي أنها تشكل امتدادا للواقع المسجل من خلال الآلة الفوتوغرافية وتأكيداً لالتقاط الموضوع في وجوده الحدثي الظاهري. أما في حالة السينما فإن ما تستحضره الصورة لعين المتفرج وحواسه ووعيه ليس استمرارية لماهية معينة وإنما تستحضر وجود ظاهرة واقعية كما يتم تسجيلها بواسطة الكاميرا. فماهية الصورة تتمثل في ظاهريتها.

ميرلو بونتي

يتعين على الفيلم أن يكشف الواقع لا أن يتمثله. وهنا يتجلى تأثير الوجودية على أندريه بازان؛ وهي أقرب إلى الوجودية المسيحية لغابريال مارسيل منها إلى وجودية “جان بول سارتر”. فالنزعة “الأنطولوجية الفينومينولوجية لبازان متأثرة بشكل كبير بالقاموس الديني، ابتداء من الحضور الواقعي ولما ينعته بـ “كشف الواقع”[9]. ذلك أن كشف الواقع لا يمكن اختزاله في إعادة إنتاج مادية بسيطة لأنه “إذا كانت الآلة السينمائية تسمح بموضوعية فينومينولوجية شبه مطلقة، فإن غاية السينما ليست موضوعانية objectiviste في ذاتها”[10].

وهكذا فإن الواقعية الأونطولوجية عند بازان هي هدف أكثر مما هي واقعة، سواء تعلق الأمر بالسينمائيين الذين يؤمنون بالصورة بتحريف الواقع أو أولئك الذين يؤمنون بالواقع ويعملون على كشفه بما يتجاوز صورته. ولهذا يرى بازان أن السينمائيين يستعملون الصورة “ليس بما تضيفه للواقع وإنما بما تكشف عنه”[11].

السينما فن الكشف. وبدل البحث عن الواقع في حقيقته، فإن العُدة السينمائية، بالخصوص بعد اكتشاف الصوت، انتقلت من الصورة -التمثل إلى الصورة- الحضور التى تسعف على التقاط الواقع في ديمومته وفي شموليته. فالمخرج السينمائي، في النهاية، يبحث في نظر بازان عن الكشف عن الواقع بدل تحريفه أو تشويهه.

ليس من المفيد بالنسبة للسينمائي أثناء عمله أن يعرف بأن السينما تعتمد على إعادة إنتاج ميكانيكية للواقع، فهو يعيش ذلك كل لحظة وفي كل لقطة؛ لكن فعل التصوير في ذاته يفترض تدخل الذات في الموضوع، ويتحول المخرج بالإضافة إلى الفاعلين الآخرين في عملية التصوير السينمائي، إلى ذاتية تنظم التقاط الصور. تنتقي شذرات الواقع التي تختار أو تقتطع منه تلك التي تريد، ولكن بازان مع ذلك يعاند أي إرادة تنظيمية للصور السينمائية بواسطة المونتاج الذي ينجزه السينمائي، لأنه يمنح أهمية قصوى للمتلقي لدرجة يذهب فيها البعض إلى القول إن بازان بنى نظرية للمتفرج وليس للسينمائي[12].

 ففي وعي المتفرج تتكون واقعية الصور ولا تتكون في الشريط المعروض. لذلك يتبرم بازان بشكل مثير من عمل المونتاج لأنه يُشتت الواقع المصور ويمثل أحد عوامل إفساد اللغة السينمائية. ومقابل المونتاج يرى بازان في اللقطة المطولة، أو اللقطة -المتوالية التجسيد الفعلي للواقعية. كما أن “عمق المجال” Profondeur du champ يضع المتفرج في علاقة مع الصورة أقرب إلى تك التي يربطها بالواقع. وهو ما يفترض موقفا ذهنيا يقظا، بل ومساهمة فعلية للمتفرج في إخراج ما يود إخراجه من الفيلم؛ إذ يوفر “عمق المجال” للمتفرج إمكانية الاستثمار في الصورة التي يكتشف، والتعامل معها على أساس أنها واقع جديد وليس بناء منظما من اقتراح السينمائي.

أنطونيوني

يحضر موريس ميرلو بونتي بقوة في هذا الفهم للصورة ولعملية إدراكها، أو الإدراك الفني للواقع وللعالم. هناك فعل انبثاق وتجلٍّ Epiphanie بوصفه كشفا للوعي وللصورة، أو للصورة بواسطة الوعي. وقد وجد أندري بازان في بعض مخرجي السينما الواقعية الجديدة الإيطاليين مادة لبلورة فهمه الفينومنيولوجي للظاهرة السينمائية ومن بينهم روسيليني Rossilleni وخصوصا أنطونيوني Antonioni، حيث اعتبر أن هذا الاتجاه السينمائي على الرغم من أن المهتمين ألصقوا له صفة “الواقعية” يجسد الترجمة الفعلية للسينما التي تلتقط اللحظة منظورا إليها كتجربة. وهو ما دفع بجيل دولوز إلى الملاحظة بأن الواقعية الجديدة تستهدف واقعا في حاجة إلى تفكيك، لأنه دائما غامض، بدل العمل على تمثل واقع مفكك بشكل مسبق.

ومهما كان من أمر صلابة أو هشاشة الاجتهاد الفكري الذي بذله أندري بازان لمقاربة الظاهرة السينمائية اعتمادا على مرجعية برغسونية وفينومنيولوجية، ومن خلال تأمل نقدي تميز بأصالة نادرة في تاريخ النقد السينمائي، فإن كتاباته اقترحت انفتاحات فكرية لا حصر لها سمحت لنقاد وفلاسفة بالبناء عليها لتقديم فهم متجدد للمنتوج الفيلمي. سواء عملوا على تطوير مقدماته وأفكاره أو اتخذوا منحى مغايراً. فإن أندري بازان كان وما يزال بالنسبة لمن يتعامل بجدية مع فكرة السينما، لحظة فكرية كثيفة، وفرت لفيلسوف كبير مثل جيل دولوز فرصة اقتراح “فلسفة للسينما” أعاد بناءها استنادا إلى تصورات برغسون للحركة وللديمومة.

[1] Jean Narboni ; Préface à André Bazin, Le cinéma français de la libération à la nouvelle vague, Ed. Cahiers du cinéma, Paris, 1998, P 12.

2 Dominique Château, Cinéma et philosophie, Paris, Ed Armand Colin, 2005. P 80.

3 Joêl Magny, La filiation de Bazin, in Cinémaction, Ed. Cerf Corlet, Paris, 1988. P 19.

4 Dominique Château, op. cit. P 82.

5 André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma ? op.cit. P16.

6 Dominique Château, op. cit .P 82.

7 Dominique Château, op. cit.P 83.

8 André Bazin, op. cit, P16.

9 Ibid, P 85 .

10 Ibid, P 85 .

11 André Bazin, op. cit, P 135.

12 Joel Magny, op.cit. P22.


Visited 105 times, 1 visit(s) today