“أنشودة بستر اسكراجز”: الغرب الأمريكي كمأساة مثيرة للرهبة والضحك!

يأخذنا الأخوان كوين في رحلة ممتعة ومشبعة في بناءها السردي والبصري لأحد عوالمهم “ملحمة بستر اسكراجزThe Ballad of Buster Scruggs  في واحد من أجمل أفلام هذا العام. وكمعظم أفلام الأخوين فإن الملحمة مليئة بالدرما والجريمة وبالطبع الكوميديا السوداء. وقد حاز الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان فينسيا الدولي وتم عرضه على شبكة نيتفليكس يوم 16 نوفمبر الماضي.

في هذا الفيلم يستعرض الأخوين كوين برشاقة وإتقان قدراتهم التأليفية والإخراجية في فيلم مكون من ست قصص منفصلة الأحداث والشخصيات. تدور أحداثها جميعاً في الغرب الأمريكي القديم حيث أبطال القصص الست مرتحلون. وهذا هو الشيء المشترك الوحيد بين القصص المختلفة. فكل قصة هي فيلم قصير مستقل بذاته.

يقول إيثان كوين في المؤتمر الصحفي للفيلم أن القصص تمت كتابتها منذ خمسة وعشرين عاماً وأنهم فكروا في جمعها وتحويلها إلى فيلم منذ عشرة أعوام. كل القصص من تأليف الأخوين ماعدا قصة “وادي الذهب” فإنها معالجة لقصة بنفس الاسم للروائي الأمريكي جاك لندن.

أنشودة بستر اسكراجز

أول القصص هي القصة التي سمي بها الفيلمملحمة بستر اسكراجز راعي البقر المغني المرح والخارج على القانون أيضاً! والذي يقوم بدوره الممثل الأمريكي تيم بليك نيلسون.يبدأ الفيلم بلقطة واسعة لصحراء الغرب الأمريكي فلا نرى إلا راعي بقر وحيد نحيل يزداد ضئالة بين الجبال الشاهقة والتلال المسيطرة على المشهد. يغني بصوت شجي حاملاً جيتاره فوق حصانه ويسير من لا شيء إلى لا شيء.

يختار الأخوين كوين أن يبدآ الفيلم بكسر الحائط الرابع، فيحدثنا راعي البقر النحيل وجهاً لوجه عن نفسه وعن حياته فننسجم معه ومع غناءه وخفة دمه وبعد بضعة مواقف قصيرة وممتعة، تأتي النهاية الغنائية الصادمة بشكل خاطف وتجعل قصة ذلك المجرم المرح تتحول إلى ما يشبه أفلام كارتون توم اند جيري!

بالقرب من ألجودونز

في القصة الثانية نشاهد راعي البقر الجاد ويقوم بأداء دوره الممثل الأمريكي جيمس فرانكو الذي يحاول سرقة بنك صغير معزول ليس به إلا موظف عجوز ولكنه يدافع بشراسة مثيرة للضحك عن بنكه الخالي من سواه. يتم القبض على راعي البقر وتتم محاكامته ويجهز للإعدام شنقاً وخلال مشهد أو اثنين تتعقد الأمور سريعاً وبحبكة ملتوية ينتهي الفيلم الثاني كما الأول بنهاية مأساوية ومضحكة في نفس الوقت.

تذكرة وجبة طعام

حينما، يكون الخزي قدري وأعين الرجال تزدريني؛ أندب وأنا في عزلتي المطبقة حالتي الشريدة، وأزعج السماء الصماء بنُوَاحي الذي لا يجدي، فأنظر إلى نفسي وألعن مصيري.”


شكسبير – سونيت 29

في دور يختلف كثيراً عن دوره في سلسلة أفلام هاري بوتر التي اشتهر بها يقوم الممثل هاري ميلنج بأداء شخصية شاب قعيد بلا أطراف. وفي عربته يتجول به بين البلاد أحد الأشخاص الذي يلعب دوره ليام نيسون. والذي يستغل قدرة الشاب على الإلقاء وحالته البائسة في عمل فقرة مسرحية خطابية يعرضها لأهالي القرى في المساء على خشبة مسرحه الصغير الذي ليس إلا عربته في مقابل بعض المال. وبشكل شديد المأساوية والسخرية يقل عدد الجمهور ليلة بعد أخرى فيتخلى رجل العربة (صاحب رأس المال) عن رفيق دربه الشاب المسكين المثقف المفوه ليستبدله في عروضه بدجاجة تستطيع العد! في رمزية واضحة.

وادي الذهب

تبدأ القصة الرابعة بموسيقى كارتر بورول المعبرة المصاحبة لشروق الشمس على المشهد الخلاب للجبال ووادي خصيب أخضر. في وسط الوادي يجري جدول شديد الصفاء ترعى حوله الأيائل والطيور والفراشات كفردوس أرضي لم تطأه قدم إنسان. ثم يأتي الإنسان مع حماره المثقل بأحماله وهو يغني بصوت خشن عجوز يحلم بإيجاد الذهب فتفر وتختبئ كل الكائنات الحية التي كانت ترعى في الوادي. وبطريقة بدائية وبطيئة لكن متقنة يحدد المكان المناسب للحفر وفي النهاية يعثر على مبتغاه الذهب وسط التراب والطين ودون حرق الأحداث فإن الطبيعة تعطي الإنسان كل ما يحتاجه من مأوى وطعام إلا أن الإنسان بالعرق والدم والصراخ يخرب الطبيعة ويقلق سكونها المقدس برهة من الزمن ثم يرحل وتعود الطبيعة إلى صورتها الأولى!

الفتاة التي خافت

هل هناك حدود لسوء الحظ أو لسذاجة الإنسان؟ الكثير من المواقف تثبت لنا أن الطيبة لا تمنع سوء الحظ. وأن السذاجة المفرطة والأدب المطلق المصاحب للاستسلام التام لأراء الأشخاص حتى ولو كانوا يريدون الخير لنا فإن هذا لا يمنع سوء العاقبة.

ربما يحاول دوماً الآباء والمعلمون ورجال الدين وكل من هم في موضع سلطة تربية الصغار على السمع والطاعة بشكل صارم ليس إلا ليقينهم التام أن الأبناء لن تلتزم حرفياً بتلك التعاليم. ولكن ماذا يحدث عند الالتزام التام بالسمع والطاعة. هذا ما نعرفه في القصة الخامسة التي تقوم بدور البطولة فيها زوي كازان كفتاة مثال للبراءة والفضيلة في مقتبل العمر.

الرفات

خمس أشخاص مسافرون داخل عربة ضيقة يجرها حصان. انجليزي أنيق ومساعده الأيرلندي المتقدم في العمر وفي الكرسي المقابل وبشكل لا يوحي بالراحة يجلس ثلاث أشخاص في أواخر العمر فرنسي وامراءة وصائد حيوانات قارضة جنباً إلى جنب.

يبدو الأمر لوهلة كمادة خام لحكاية نكتة. إلا أنه على عكس المتوقع فإن القصة السادسة والأخيرة هي أكثر قصص الفيلم غموضاً ورمزية بشكل يجعلك لا إرادياً تفكر في مغزى كل القصص السابقة من خلالها. 

بأداء صوتي بارع وكمسرحي مخضرم يؤدي جونجو أونيل دور الرجل الإنجليزي الأنيق (الذي يساعد الأشخاص الذي حكم عليهم بالموت) صائد الجوائز الذي يقتل المجرمين الهاربين كما فسر رفاق العربة.

وفي واحد من أجمل المشاهد في الفيلم حيث تتضافر العناصر السينمائية من إضاءة وتصحيح للألوان مع الأداء المميز يحكي لنا الرجل الانجليزي مع هبوط الظلام بعيون لامعة عن ولعه بالنظر في عيون ضحياه أثناء لفظهم أنفاسهم الأخيرة وهم يحاولون إدراك الأمر أثناء عبورهم للعالم الأخر وسط دهشة وفزع الركاب الثلاثة المقابلين حيث يغشاهم السكون التام بعد أن ملأوا العربة الضيقة بالصخب والشجار فيما بينهم في بداية الرحلة. تصل العربة إلى الفندق فجأة. ينزل الانجليزي ومساعده حاملين جثة أحد المجرمين. وبتثاقل شديد وتردد ينزل الثلاث ركاب الأخرين يقفون في قلق على أعتاب الفندق بدون حقائب سفر أو أغراض! وكأنهم أمام مثواهم الأخير. وكأن الرجل الانجليزي كان ملك الموت أو الموت نفسه يحدثهم ويسليهم في رحلتهم الأخيرة. يدخل صائد الحيوانات والمرأة العجوز إلى داخل الفندق. ويلقي الفرنسي نظرة على سائق العربة الغامض وهو يغادر في سكون الليل وكأنه يرى العالم لأخر مرة ثم يدخل الفندق ويغلق الباب.

في نهاية الفيلم يتضح العالم الذي رسمه الأخوين كوين من خلال الست قصص كسلسلة من ألاعيب القدر وسوء الحظ الذي يفجر السخرية. حيث تتشكل أحداث ومواقف تواجه أبطاله والتي قد تدفعك للتأثر والحزن وأحياناً للضحك حتى البكاء. وفي النهاية فإن المصير واحد محتوم. وكأن الموت لا يكتفي بالانتظار في أخر الطريق. بل يصحبهم في كل لحظة من لحظات حياتهم.


Visited 176 times, 1 visit(s) today