“أندرومان” هذا الهاجس الفني السينمائي المضمخ بنبل الصوفية
ننشر هنا المقال البديع الذي كتبه مبارك الحسني ونشرته جرية الحياة بتاريخ 15 مارس حول أفلام المخرج المغربي عز الدين العلوي التي تسبح في رحيق الصوفية…
عبر أفلام قصيرة وفيلم أول طويل، استطاع المخرج المغربي عز العرب العلوي تسطير وجود سينمائي له فرادته. كما يتجلى ذلك مثلاً في شريـــطه القصير “إيزوران”أي العروق أو الجذور بالأمازيغية، وفي شريطة التحفة “أندرومان من لحم ودم”، وهما عملان يتناولان مجالات حكائية تزاوج ما بين الوقعي والعجائبي في توليفة تحيل على الواقعية السحرية. وفي سبيل ذلك تنفق وتوظف كل ما لا يمنح واقعاً مباشراً ملموساً وفجاً. هنا تحضر الأسطورة في المظهر والديكور والوقائع لكن مع تبيئتها في سرود نابعة من الواقع وبمعالجة مواضع آنية من قبيل قضية المرأة مثلاً.
وهذه الفرادة السينمائية المعمقة تمنح غالباً مُغلفة في إهاب روحاني منغم ومنقط بتجليات باطنية تتحد والمكان والإنسان عبر الملامح المنتقاة المعبرة بقوة، والملابس المتخيرة في ما ليس عادياً ومبتذلاً، وفي الفضاءات التي تحيل على الأصل والبدء والتنشئة الأولى، حيث كل شيء ممكن عبر الوحدة الكلية التي تنتشر في الفعل والسرد والوقائع المتخيلة كما لو كانت من عوالم عليا تزور كوكب المعيش السفلي بواسطة الفن السابع. إنها الصوفية مٌعطاة سينمائياً.
وفيلم “إيزوران”يحكي الصوفية التي يراها مذهباً يعتمد على الوجود البشري كثيمة أساسية، ووجوده في الإنسان باعتباره قيمة حقيقة يجب الانتصار إليها، فالصوفية لا تعترف بالزمان والمكان بقدر ما تعتمد على الامتداد داخل الإنسان.
وهو يضيف بأن تجلياتها هي الاهتمام بما هو إنساني أولاً وباختيار الأمكنة الوجودية التي تمنحنا بداية الخلق. أي بداية الوجود بما أنه تعرف الى الطبيعة، كما الإنسان في طبيعته الأصلية. ويحدد بأن ذلك لا يعني البراءة بقدر ما يشير إلى أجواء بداية التشكل للفكر والحياة، في السعي إلى زمن الاتحاد الكلي والوحدة الشاملة. وهذا ما يتجلى في فيلم “أندرومان من لحم ودم”حيث تحاول الشخصيات جاهدة التقرب من الطبيعة من أجل ملء الفراغ الروحي الذي تشعر به وينخر ذواتها.
خلخلة
وبخصوص أن هذا الامتلاء يلزمه طريق وسبيل ومسار معين كما تفرضه الصوفية كاختيار فردي وجماعي، يؤكد المخرج أن المسألة هنا في السينما لا تتعلق بالتعبد ووسائله، بل بالتشبع بالرؤية الصوفية، أي بالنتيجة، بالبعدية وانتهاء المسار وما يسفر عنه من قدر مخلص. ويطلق على هذا الأمر اسم “مُؤسِسَات الفيلم الصوفي”، وهو ما لا يمكن تلمسه إلا عبر الشعور حين المشاهدة، وبعدها بالاغتسال الداخلي، بالتطهير، بالكاتارسيس الذي يعد أهم ركائز الصوفية. لكن هذا لا يتحقق إلا بعد خلخلة عميقة للذات، ومن أجل حصولها يتغيّى المخرج الاقتصار على الحد الأدنى من الحوار والاكتفاء بالضروري الواجب في الحد الواجب من الكلام، والاعتماد بالأساس على تبيان الصمت كعامل مؤثر وموقف وليس إيقاف أو استراحة، فالبطلة الرئيسية في شريط “أندرومان”لا تتكلم.
لكن في مقابل ذلك الصمت وإزاءه الاقتضاب، تحل بكثرة مشاهد العنف الكثيرة، وتتوافر لقطات الدم من ضرب واغتصاب وما شابه، كما لو أنها تعوض قلة الكلام. لكن هذه موظفة، يقول المخرج، على اعتبار أنها حالات تدخل في خانة خلخلة الجاهز الذي يعدّ تشكل الأرض نموذجاً لها، أي ما يسمى البيغ بانغ، الانفجار السديمي، وذلك في سبيل خلق الهدوء والسكينة والصوفية.
وفي هذا الإطار يبدو من الضروري إظهار وجود العنف المضاد كي تُوجد الســكينة الروحية. فالوقائع العنيفة الصادمة في الشريط تظــهر ذلك وتعضده، والســـينما هي التخيل والتصوير في سبيـــل إظهار فكرة، و”أنــدرومان”ذريعة قوية في سبيل النتيجة المرجوة. “أندرومان”كقطيعة مع ما هو موجود، فـ “أنا لا أريد أن أكون استمرارية لما سبق في السينما المغربية، بل أن أكون إضافة”.
أثر المكان
وحول ما إذا كان أصل هذا الهاجس الفني السينمائي المضمخ بنبل الصوفية وصفائها هو نتيجة التنشئة في مدينة الراشيدية الصحراوية المعروفة بالسلالات الشريفة العالمة التي أثرت عميقاً في التاريخ السياسي والثقافي المغربي دينياً ودنيوياً، وبوجود معمار الأبنية التي تحيل على التأمل في الامتداد وأسراره، يحدد عز العرب العلوي بأن ثوابت الأصل مُحددة لا شك في ذلك، ولا يُمكن نكرانها بخاصة الثقافة الدينية الصوفية. فالوجود العلوي في المغرب هو في الأصل وجود من أجل الدين. لكن الصوفية المعنية في عمله السينمائي ليست مقتصرة على الجانب الديني، بل هي مذهب فكري جمالي في فهم ورؤية الحياة، وبما أن لكل مخرج رؤية خاصة به، فـ “رؤيتي أنا لها مؤسَسِات صوفية، في الكل كما في التفاصيل”.
إن تشكيل وتوضيب أي مشهد في عملي السينمائي يسعى إلى خلق أشياء داخلية بسيكولوجية دخل المشاهد المتلقي، أي التأثير فيه بعمق. وفي هذا الإطار يحكي المخرج قصة شخص حدثه عن فيلمه القصير “إيزوران”بأنه فيلم علاجي، بحيث يحسّ المتفرج عليه بنوع من الإغتسال الروحي يمارس عليه. أما “أندرومان”فقد فرض على المتفرجين شريعة صمت قوية بعد نهاية المشاهدة، التي أعقبها إنفجار من التصفيق. وهو ما يدل على أن للفيلم مفعوله الصوفي التطهيري على المتلقين.