أمير العمري: يوميات مهرجان كان 2010
أمير العمري
هذه هي اليوميات التي دونتها عن أحداث دورة مهرجان كان- 2010، لمدونتي (حياة في السينما)، أود مشاركتها مع الأصدقاء…
12 مايو
* مشكلة مهرجان كان المزمنة أنه يريد أن يلبي طلبات جميع الصحفيين والنقاد الذين يرغبون في تغطية أحداثه، إلا أن قاعاته المخصصة للعروض الصحفية لا تشهد أي تطوير أو توسيع منذ سنوات عديدة، لذا يضطر الجميع للاصطفاف قبل الهنا بسنة، أي قبل ساعة مثلا من موعد عرض الفيلم لكي يضمنوا الدخول وإلا فقد يواجه المرء بالكلمة الحاسمة (كومبليه مسييه) أي كامل العدد يامولانا!
والحل في رأيي، واحد من اثنين، إما يخفض المهرجان عدد الصحفيين الذين يقبلهم لتغطية أحداثه ويرفض أي طلبات جديدة أو يشطب من القدامى الذين أصبح معظمهم مجرد ديكور أي لا يقومون بأي مهمة صحفية حقيقية بل يتفرجون على الأفلام بصحبة أصدقائهم من الزمن الخالي، وهؤلاء بالمناسبة معظمهم من الفرنسيين الذين اعتادوا على كان واعتاد المهرجان عليهم، ومنهم كما أشرت، من تقاعد تماما عن الكتابة.
أما الحل الثاني فهو الأصعب، أي بناء قاعة جديدة كبيرة تتسع لكل هذه الأعداد الضخمة أو نقل معظم العروض الصحفية إلى قاعة لوميير الضخمة التي تتسع لأكثر من 2500 شخص، وهو حل صعب أيضا لأنه يتطلب تقليص عدد العروض الرسمية أو نقلها. المهم أن يبدأ المهرجان في مواجهة المشكلة بشرط أن يعترف أولا بأنها قائمة وحقيقية. أستدرك مع هذا لأقول، إن هناك الكثيرين الذين يرون أن الازدحام والتدافع أصبحا جزءا أساسيا من مناخ مهرجان كان، يضفي حيوية عليه ونوعا من الإثارة أيضا، وهؤلاء لا مانع لديهم من المزاحمة والنضال من أجل مشاهدة فيلم، أي فيلم، ولكنك قد ترى نفس الصحفي الذي أنفق وقتا وجهدا لأجل مشاهدته، يغادر قاعة العرض بعد دقائق من عرضه لأنه لم يستسغه!
13 مايو
* فاجأ مدير المهرجان تييري فيرمو عند تقديمه فيلم افتتاح قسم “نظرة خاصة” الجمهور بتقديم فيلم قصير (3 دقائق) سبق عرض فيلم مانويل دي أوليفيرا، ويصور مقابلة مع المخرج الإيراني جعفر بناهي المعتقل، منذ مارس الماضي، في إيران بسبب تأييده لانتفاضة دعاة الإصلاح الديمقراطي في البلاد. وفي الفيلم يتحدث بناهي عن المضايقات والاستجوابات التي تعرض لها خلال الفترة التي سبقت القبض عليه. ويروي في الفيلم كيف أن المحقق أخذ يوجه له أسئلة سخيفة ثم فاجأه بقوله: لكني أحببت فيلمك “الدائرة”. وكان السينمائيون الأمريكيون قد طالبوا بإطلاق سراح بناهي، كما أصدر الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية بيانا قبيل افتتاح مهرجان كان، يستنكر اعتقاله وبقاءه رهن الاحتجاز حتى الآن ويطالب بسرعة إطلاق سراحه.
تعليقي الشخصي على هذا أن الأمريكيين والأوروبيين، يبادرون عادة بإدانة ما يقع من تجاوزات في إيران، ولكنهم يغضون الطرف كل يوم عما يقع من اعتداءات بشعة على الديمقراطية في مصر وسورية والجزائر وغيرها من الدول التي تحكمها مافيا البيزنس بالتعاون مع العسكريتاريا وتحت حمايتها. فهل يتذكر أحد في الغرب الآن مذبحة سجن أبو سليم في ليبيا التي قتل فيها 1100 معارض سياسي لنظام القذافي الذي أصبح اليوم صديقا لسبيلبرج ورئيسه، أو مذبحة الـ300 ناشط وكادر من كوادر الحزب الشيوعي الجزائري الذي قتلتهم قوات بومدين في 1966 رميا بالرصاص في مذبحة جماعية على شاطيء البحر خارج الجزائر العاصمة؟ أنا بكل تأكيد ضد النظام الفاشي في إيران، لكن المواقف لا تتجزأ. وإذا كان الموضوع موضوع سينما فلماذا لم نسمع كلمة من سبيلبيرج أو غيره احتجاجا على قمع الحريات السينمائية عندما أغلق مهرجان جدة في اليوم الأول قبيل افتتاحه مباشرة!
* السوق الدولية للأفلام تعرض 900 فيلم وليس 400 كما ذكرت من قبل، منها أفلام تعرض للمرة الأولى. وهي فرصة ذهبية لاستكمال ما يمكن استكماله من أفلام مثل الفيلم الجديد للمخرج الروسي أندريه كونتشالوفسكي الذي يقال إنه أغلي فيلم في تاريخ السينما الروسية (تكلف 90 مليون دولار) وهو بعنوان “كسارة البندق والملك الفأر” وهو مصور بتقنية الأبعاد الثلاثة، ومخرجه موجود حاليا في كان للترويج لفيلمه.
14 مايو
كل الدنيا تبدو حاضرة هنا في كان. عدد هائل من السينمائيين لدرجة أنني كدت أن اصطدم اليوم رأسا برأس مع مارتن سكورسيزي وهو يهرول عبر مقر المهرجان من قاعة لوميير إلى قاعة ديبوسيه، وحوله بالطبع عدد كبير من المصورين. وسكورسيزي ليس من الممكن أن تخطؤه العين بسبب نظاراته السميكة المميزة التي أجدها شخصيا، قبيحة للغاية، ويمكنه بلا شك، إذا أراد، أن يعثر على بديل أفضل كثيرا بدون هذا الإطار السميك الأسود الذي يجعله يبدو مثل صانع الساعات. لكن للناس فيما يعشقون مذاهب فعلا.
المهم أنني اعتذرت بسرعة للأستاذ سكورسيزي صاحب البصمة المميزة في السينما، وكدت أن أناشده العودة إلى تقديم أفلامه التي أحببناها.
* كل الناس هنا لا يشك.. بدليل أنه عند تقديم الفيلم الروماني البديع “أورورا” Aurora اليوم (3 ساعات كاملة) ظل المدير الفني للمهرجان تييري فريمو، ينادي على الأسماء ويصعد إلى المنصة واحد واثنان وثلاثة لكي يصل عدد الممثلين والمنتج والمخرج والكاتب.. إلخ إلى عشرين شخصا بالتمام والكمال، معظمهم لممثلين وممثلات ظهروا في مشهد واحد في الفيلم. تخيلوا كل هذا الكرم الحاتمي.. أو ربما يكون الطرف المنتج (هناك طرف فرنسي في الإنتاج) هو الذي تحمل تكاليف دعوة هؤلاء جميعا، من أجل ترويج الفيلم.
المؤتمر الصحفي للمخرج الأمريكي أوليفر ستون كان حاشدا أيضا، فقد حضره مايكل دوجلاس بطل الفيلم، وباقي أبطال الفيلم وبينهم البريطانية الشابة كاري موليجان.
15 مايو
شبح بولانسكي يحلق في سماء كان
* أصبحت قضية المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي، أحد المشاغل الرئيسية لدى الكثير من المتابعين والمعلقين هنا في مهرجان كان، فقد بدأ الجدل حول القضية التي يحتجز بشأنها المخرج الكبير تحت الإقامة الجبرية في سويسرا منذ عدة أشهر، عندما وقع عدد من السينمائيين الحاضرين في المهرجان، عريضة احتجاج على احتجازه تمهيدا لترحيله إلى الولايات المتحدة لكي يقضي عقوبة السجن، وعلى رأس هؤلاء الموقعين جان لوك جودار، المخرج الفرنسي الذي أعاد كتابة تاريخ السينما الفرنسية، كما يقف على رأس الحملة المساندة لبولانسكي الفيلسوف والكاتب (اليهودي) هنري برنارد ليفي الذي خصص موقعا على شبكة الانترنت لدعم بولانسكي.
غير أن الممثل الأمريكي مايكل دوجلاس الموجود في كان حاليا مع فيلمه “وول ستريت”(وهو يهودي مثله في ذلك مثل كل من بولانسكي وليفي) صرح للإذاعة الفرنسية يوم الجمعة، بأنه يرفض التوقيع على تلك العريضة لأنه لا يمكنه أن يؤيد رجلا خرق القانون في بلاده بهروبه من المحاكمة أثناء وجوده طليقا بكفالة.
وعادت القضية إلى الأضواء مجددا بقوة بعد أن أعلنت الممثلة البريطانية شبه المغمورة شارلوت لويس (42 عاما) أن بولانسكي اعتدى عليها جنسيا في شقته في باريس عندما كان عمرها 16 عاما، “بأسوأ طريقة ممكنة”.
وجاءت هذه التصريحات ضربة لجهود فريق الدفاع عن بولانسكي مما دفع محاميه إلى اتهامها بالكذب بل والتهديد بمقاضاتها على تصريحاتها، بل وتساءل أحد المحامين في تشكك، كيف قامت بدور في فيلم بولانسكي “القراصنة”ـ بعد ثلاث سنوات من تاريخ اعتداء بولانسكي “المزعوم” عليها!
أما جيل جاكوب رئيس مهرجان كان (يهودي أيضا) فقد اكتفى بإمساك العصا من المنتصف عندما قال “إننا لا نعلم شيئا عن تفاصيل القضية، وإن هناك فرقا بين بولانسكي السينمائي العظيم، وبولانسكي المواطن، ولا يمكن أن يكون هناك مواطن فوق القانون”.
والجدل لايزال قائما!
أستغرب أن تختفي فجأة السينما المصرية من مهرجان كان تماما، بعد أن كانت حاضرة بشكل أو بآخر، خلال السنوات الماضية، ولو من خلال المشاركة بأفلام جديدة في السوق الدولية للأفلام. وكان عماد الدين أديب صاحب شركة جودنيوز قد بدأ هذا التقليد عام 2006 عندما أتى بصحبة فيلمي “عمار يعقوبيان” و”حليم”. وكان ينفق على الذين أحضرهم معه من مرافقين وممثلين وصحفيين، عن سعة شديدة كما علمنا وقتها. أما وقد اختفت جودنيوز تقريبا من سوق الانتاج السينمائي بشكل مفاجيء، بعد السقوط المالي المروع في الأسواق العالمية وبداية الانكماش، فقد اختفى أيضا غير عماد أديب من سوق كان، مثل المنتج كامل أبو علي الذي حضر في العام الماضي مع فيلم خالد يوسف “دكان شحاتة” وأتاح لنا الفرصة عن قرب للتأمل في الجميلة المغوية “هيفاء وهبي” على الطبيعة وبعيدا عن الكاميرات والأضواء المبهرة التي تطاردها عادة أينما حلت في عالم العرب.
* لاتزال “التحفة” الكبيرة غائبة عن عروض المهرجان، رغم أننا شاهدنا عددا من أفلام العمالقة مثل وودي ألين ومايك لي وريدلي سكوت وأوليفر ستون ومانويل دي أوليفيرا. لكن الفيلم الأكثر بقاء في الذاكرة من بين كل هذه الأفلام حتى هذه اللحظة، من وجهة نظري الشخصية، وبتواضع شديد، هو الفيلم الروماني الذي يحمل عنوانا غريبا هو “أورورا” Aurora للمخرج الكبير كريستيان بيو (صاحب موت السيد لازارسكي) وهو أيضا فيلم شديد الغرابة، لا يشبه فيلما آخر، ويستحق بالتأكيد وقفة خاصة في مناسبة تالية.
16 مايو
ديكتاتورية المواطن جاكوب!
* حتى الآن أعجبني الفيلم الروماني الكبير “أورورا” الذي أرى أنه كان جديرا بالعرض في المسابقة، ولا تجوز مقارنته أصلا بفيلم محدود المستوى والهدف من أفلام الفقاعات الصابونية مثل الياباني “غضب” لتاكيشي كيتانو، أو حتى الفيلم الفرنسي التاريخي السطحي “أميرة مونبسينيه” ولو أنه من إخراج برتران تافرنييه، وهو أحد كبار مخرجي السينما الفرنسية، ولا أعرف ما الذي أغواه بالوقوع في شراك تلك القصة أو بالأحرى، “التوليفة” التي لا تصنع حبكة ولا إثارة ولا متعة من أي نوع، رغم مشاهد الإبهار الضخمة، والمبارزات بالسيوف، وأجواء الدسائس والمكائد التي تجري داخل القصور، والفتنة المتمثلة في الممثلة الصاعدة بقوة صدرها، وليس قوة موهبتها، ميلاني ثييري، فلا أظن أنها موهوبة أصلا.
* من أفلام المسابقة أعجبني فيلم “الخادمة” The Handmaiden من كوريا الجنوبية، لأنه يروي قصة بأسلوب تقليدي ولكن بسيطرة مدهشة على كل أدوات الإخراج.
وأعجبني كثيرا الفيلم التسجيلي “العملية من الداخل” Inside Job الذي يتناول الأزمة الاقتصادية، و”دراكيلا” الإيطالي الوثائقي الذي يسخر من بيرلسكوني وسياساته.. وقد عرض الفيلمان خارج المسابقة.
لست من المعجبين بفيلم وودي ألين، ولا بفيلم أوليفر ستون، وقد أعجبني كثيرا فيلم مايك لي وإن كنت لا أراه مختلفا كثيرا عن أفلام مخرجه البارزة، طبعا مع استبعاد “فيرا دراك” الذي وجدته عملا ساذجا مملا، وفيلم “سعيدة ومحظوظة” Happy Go Lucky الذي وجدته عملا بسيطا لا يبقى كثيرا في الذاكرة.
* نحن في انتظار ما سيسفر عنه عرض فيلم جودار “الاشتراكية”، وفيلم “جميل” Biutiful لأليخانرو جونزاليس إيناريتو (هو مصر على كتابة اسمه الثلاثي المرهق على كل أفلامه والأفضل أن يعثر له على اسم آخر خفيف مكون من كلمتين فقط).. وهو يتحذلق في التلاعب بكلمة “جميل أو جميلة بالانجليزية فيكتبها باستخدام حرف خطأ محاكيا تارنتينو العام الماضي في عنوان فيلمه “أوغاد مجهولون” Inglorious Basterds ويبدو أننا أصبحنا نعيش في عصر تحطيم الكلمات، والتعبير المكسر عن الأشياء!
* رئيس مهرجان كان سيحضر الإثنين عرض فيلم تسجيلي عنه بعنوان “المواطن جاكوب” طبعا يمجد دوره كمدير لمهرجان كان لنحو ثلاثين عاما، والآن كرئيس له لدرجة ارتباط المهرجان بشخصه. الديكتاتورية ليست في العالم العربي فقط بل هنا أيضا، لكي لا يشعر العرب بأنهم متفردين.
* وبمناسبة العالم العربي (الذي يفضل القوميون تسميته الوطن العربي) ورد في التعريف بالمغرب العربي في تحقيق منشور عن السينما التونسية في مجلة “فاريتي” (التحقيق والملحق كله مدفوع كإعلانات للدعاية للمنتج التونسي العملاق “ماليا” طارق بن عمار).. أن المغرب العربي “تعبير يطلق على البلدان الناطقة بالعربية في شمال افريقيا”!
ولكن التعريف لم يقل لنا بالمناسبة: ماذا بشأن الناطقين بالفرنسية أوبالأمازيغية من “سكان” تلك البلدان!
17 مايو
جودار وعباس والقذافي!
* دخلت إلى قاعة العرض لمشاهدة فيلم المخرج السينمائي الكبير جان لوك جودار “الاشتراكية” (الذي يمكن جدا أن يكون وصيته الأخيرة، فوجدت رجلا وامرأة، فرنسيين إلى جواري. بدأت المرأة تتكلم، ولا تريد أن تكف عن الكلام، ثم أخرجت شيئا، نوعا من الحلوى من حقيبة يدها، أعطتها للرجل، الذي أخذ يفض عنها غلافها مما جعله يصدر صوتا مزعجا، استمر وقتا طويلا، في حين أن أمثالي من الذين اعتادوا على مشاهدة الأفلام وسط سكون تام وهدوء كامل في قاعات العرض البريطانية في لندن، ربما يكون إحساسهم زائدا بعض الشيء عندما يحضرون مهرجانات تقام في بلدان الجنوب الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، فهؤلاء “اللاتينيون” لا يقيمون وزنا كبيرا للآخر الذي يجلس إلى جوارهم.
كدت أتوجه إلى السيدة المبتهجة وزوجها أو صديقها، وأحاول لفت نظرهما إلى ما يسبباه لي من إزعاج وأنا أريد أن أعيش في محراب السينما الذهنية الخالصة مع عمنا الكبير جودار. إلا أنني سرعان ما تراجعت تماما عن الفكرة، فمن حق السيدة أن تبتهج، وأن تحتفل، فهذا أولا مهرجانهم، هم الذين أقاموه وهو موجه أساسا لهم، وهو أهم مهرجان سينمائي في العالم، يستقطب البشر من عشرات الأجناس والأنواع والفصائل البشرية، فهل لدينا مثله أو نجحنا حتى في محاكاته من توفير شروط عرض مثالية (من حيث القاعات وأجهزة العرض والشاشات وباقي التجهيزات الأساسية)؟
وثانيا، وربما هذا هو الأمر الأساسي، أن جودار “إنتاج فرنسي من الطراز الأول، عالي الجودة، ومعروف عالميا”. صحيح أن لنا في جودار جزءا بحكم اهتمامنا الكبير به منذ أن كنا صبية يافعين، وبحكم تدريسنا له في معاهدنا ونوادي السينما لدينا. لكن جودار مع ذلك، يبقى “اختراعا فرنسيا” بشكل أساسي، وهو يعد فخرا لفرنسا، ومن حق الفرنسيين أن يبتهجوا بالأستاذ والمعلم، الذي يكاد يختم مسيرته السينمائية الحافلة وهو على مشارف الثمانين من عمره، متعه الله بالصحة والعافية ومد في عمره مثلما مد في عمر البرتغالي مانويل دي أوليفيرا.
أما الفيلم الجوداري نفسه، فهو يقتضي وقفة طويلة خاصة لأنه فيلم من نوع خاص، من النوع الذي لا يروق إلا لمن يدرك أن السينما “أداة تعبير ثقافي وفكري وفلسفي” إلى جانب كونها بالطبع، أداة للتسلية والفرجة والمتعة.
* كان اليوم يوم الأفلام الثقيلة بدون شك. شاهدت كالعادة أربعة أفلام بدأتها بفيلم المكسيكي الذي أصبح شهيرا اليخاندرو إيناريتو جونزاليس، ثم فيلم البريطاني ستيفن فريريز “تمارا درو”، ثم فيلم جوادر “الاشتراكية”، وختمت اليوم بفيلم عباس كياروستامي “نسخة موثوقة”. لم يعجبني على الإطلاق فيلم فريرز، بل ووجدته أيضا ثقيلا ومملا وسخيفا ولم يضحكني رغم أنه أضحك بعض من يغرمون بهذا النوع من الميلودرامات الفكاهية المصممة على وتيرة مسرحية، وتصلح أساسا للعرض في الصندوق box (وهو التعبير المناسب الذي يستخدمه الأمريكيون في إشارة إلى جهاز التليفزيون). ولا غرابة في ذلل فالفيلم من إنتاج تليفزيون بي بي سي، بمساعدة من المجلس البريطاني الثقافي وأيضا من جزء من أموال مسابقة أوراق اليانصيب أو ما يعرف باللوترية.
أما فيلم جونزاليس (صاحب بابل) فهو يستحق مزيدا من التأمل قبل الكتابة عنه، وقد أعجبني فيه الكثير. وهزني فيلم جودار بقوته وجرأته في التعبير وكأنه يجرب وهو بعد لايزال في العشرين من عمره، لكنه تجريب “المعلم الكبير” الذي يعرف تأثير كل لقطة، ويريد أن يصدم المتفرج ويبقي على ذهنه مستيقظا لنحو ساعتين.
وأخيرا لم يعجبني أبدا فيلم كياروستامي الذي يجد فيه بعض العرب تعويضا عن غياب سينماهم، لدرجة أنهم جعلوا منه بطلا “من أبطال العرب” ربما لأن اسمه عباس!
* أخيرا.. لا أريد أن أصدم أحدا من الذين يترددون على هذه الصفحة، بأن أقول لهم أن الصفحة الأولى من مجلة “فاريتي” التي تصدر يوميا أثناء المهرجان، نشرت صورة للعقيد الليبي معمر القذافي (الآن هو سيحتج على كلمة عقيد بعد سقوط جيوش العرب، وعلى كلمة ليبي بعد أن أعلن نفسه ملك ملوك افريقيا!) والمناسبة أن هناك فيلما هوليووديا ضخم الإنتاج، يروي حسبما نشرت الصحيفة، “القصة الحقيقية للشعب الليبي” بعنوان “برقة Cyrnacia : الحدود المفقودة”.
وتشير الصحيفة إلى أن الفيلم الملحمي سيروي رحلة صحفي (أمريكي غالبا) عام 1928 من اسبانيا عبر المغرب إلى ليبيا لكي يشهد على ما ترتكبه قوات موسوليني من قتل وتدمير في القرى الليبية المحاصرة. وتقول المجلة، في نبرة دعائية واضحة، إن هذه هي المرة الأولى منذ “لورنس العرب” و”بن هور” التي يقدم فيها أحد ستديوهات هوليوود على تجربة إنتاج فيلم بهذا الحجم في الصحراء “لصنع تحفة حقيقية”. وتتساءل المجلة هل ستعود الحكومة الليبية إلى تمويل الفيلم بعد أن كانت طرفا في الانتاج ثم تراجعت؟ والواضح أنها محاولة لإسالة لعاب القذافي واستدراجه للوقوع كعادته، في الفخ والحصول منه على عشرات الملايين من أموال الشعب الليبي، وإلا بدا متراخيا في تمجيد التاريخ الليبي، وتمويل فيلم أمريكي تجني من وراءه شركة الإنتاج أرباحا طائلة قبل أن شرع في التصوير، ثم تمنح العقيد شريطا يوزعه على ضيوفه في فنادق ليبيا بالعافية، مع نسخ من الكتاب الأخضر وشروحه، تصل إلى حجم عدد من صناديق الأحذية!
18 مايو
رسائل وتعليقات
* الصديق خالد عمر أرسل يسألني لماذا لا أقدم نقدا تفصيليا يوميا للأفلام التي أشاهدها؟ وردي البسيط على سؤاله أنني أشاهد يوميا من 4 إلى 5 أفلام وهو أمر يستغرق الكثير من الوقت والجهد، خاصة وأننا نضطر للاصطفاف أمام قاعات العرض قبل نصف ساعة على الأقل من أجل ضمان مقعد.، وأحاول أن أكتب يوميات أسجل فيها انطباعاتي عن معظم هذه الأفلام، لكني لا أريد أن أحرقها في نقد متعجل بسبب ضيق الوقت المتاح للتأمل والتفكير والكتابة التفصيلية خاصة وأنني، لحسن الحظ، غير “مضطر” للكتابة اليومية التفصيلية هذا العام لجهة محددة، ولذلك قررت مشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام التي أقوم بتدوين ملاحظاتي بدقة عنها سواء أثناء المشاهدة أو بعدها، على أن أعود للكتابة عن معظمها بعد انتهاء المهرجان.
والكتابة بمزاج “رايق” أفضل كثيرا من الكتابة المتعجلة، ودليلي في هذا نقدي لفيلم ايليا سليمان “الزمن الباقي” العام الماضي، فقد كتبت ونشرت عنه في اليوم التالي لعرضه في المهرجان، ثم عدت بعد عودتي وتأملت فيه أكثر لكي أكتب مقالا تحليليا مختلفا تماما عن مقال المتابعة النقدية في المهرجان، ويستطيع القاريء مراجعة المقالين في هذا الموقع لمعرفة ما أقصده بشكل عملي ملموس. والأمر الآخر أو لعله الأخير ياعم خالد، هو أننا لسنا في سباق حول من يكتب أكثر أو أطول، وكأننا سنربح جوائز في نهاية الأمر. الكتابة أساسا، على الأقل بالنسبة لي، متعة شخصية وليست فرضا وواجبا مقدسا، فإن انتفت المتعة، انتفت القدرة على الإمتاع أيضا.. أليس كذلك. عليك إذن أن تكتفي بما أقدمه هنا مبدئيا إلى حين أعود لأفصل فيما بعد.
* الأخ عمر منجونة أرسل يقول لي ألا يمكن اعتبار فيلم “الخارجون عن القانون” جزائريا كما نعتبر أفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله مصرية؟ أقول له إن شاهين-مثلا- كان ينتج أفلامه بنفسه من خلال شركته المصرية، بتمويل فرنسي، وبتقنيين وممثلين مصريين. أما رشيد فهو يعتمد بالكامل على الإنتاج الفرنسي والتقنيين الفرنسيين، وتعد فرنسا هي “بلد المنشأ لأفلامه” ومركز توزيعها للعالم، بينما في حالة شاهين ويسري نصر الله فأفلامهما مركزها وشركات انتاجها في مصر، ولذا فالوضع يختلف، أما ثقافيا فطبعا فيمكن اعتبار أفلام رشيد بوشارب التي تدور في الجزائر أو عنها، أفلاما جزائرية بالمفهوم الثقافي نعم.. وليس في ذلك أي تناقض.
عمر يتساءل أيضا عن أسباب كل هذا الابتهاج بمهرجان كان رغم وجود أفلام رديئة، أو شيئا من هذا القبيل حسبما فهمت من رسالته. الأفلام ليست رديئة بشكل قاطع، بل تختلف حولها وجهات النظر، فما لا يعجبني مثل أفلام كياروستامي، يعجب غيري، ولديهم وجهة نظرهم الشخصية وحجتهم، والسينما بطبيعتها فن ديمقراطي لا يفرض شيئا محددا عليك. وإذا كنت أنا لا أحب أفلام تاكيشي كيتانو مثلا فهناك آلاف البشر هنا من “أهل الصنعة” يعشقونها. والمهرجان لا يأتي بأفلام الفن الرفيع فقط بل بكل أنواع الأفلام، ويبقى “كان” أهم مهرجانات السينما في العالم لأسباب كثيرة نعرفها كلنا، تتعلق بالبرنامج والتنظيم والسوق والمطبوعات والحضور المباشر للسينمائيين الكبار، ولقدرته على أن يأتي بأحدث الأعمال التي يفترض أنها مهمة لهؤلاء السينمائيين الكبار مثل وودي ألين وأوليفر ستون ومايك لي وكن لوتش وغيرهم، واذا جاءت أفلام هؤلاء ناقصة، أو لم تعجبني تماما فليس معنى هذا أن المهرجان فاشل بل العيب في اختيارات هؤلاء السينمائيين.
أما بخصوص قدرة مانويل دي أوليفيرا على توفير تمويل لأفلامه. أولا أفلامه عادة تنتج بميزانيات محدودة. وثانيا تعتمد هذه الأفلام على الإنتاج المشترك بين عدة شركات في دول مختلفة، وهناك الكثير من جهات الإنتاج في أوروبا وأمريكا اللاتينية التي ترحب كثيرا بإنتاج أفلام أوليفيرا، الذي يعد علما من أعلام السينما الفنية في العالم. ومن يقول له لا، يكون هو الخاسر. وأخيرا لماذا يرفضون والرجل صحته جيدة، وباستطاعته الوقوف والمشي والحركة والحديث بشكل طبيعي تماما، ويفكر ويحلم ويتخيل مثل أي إنسان شاب بل ربما أفضل كثيرا، ويكتب سيناريوهات افلامه عادة بنفسه. وقد صرح في المؤتمر الصحفي بأنه انتهى من كتابة سيناريو فيلمه القادم. إنه يتحدى الموت بالسينما وبالحياة في السينما!
* تلقيت اليوم رسالة من هاوي السينما العظيم صالح الجاردوي من البحرين يقول لي فيها:
فقط أريد أن تعلم أنك تقدم لنا تحديثات في وقت مبكر يوميا عن الأفلام التي تعرض في مهرجان كان من خلال موقعك، وأنا واثق انها تأخذ الكثير من الوقت والجهد منك، ونحن سعداء لرؤية التحديث بشكل يومي. حقا إنها مهمة عظيمة، ونحن نشكرك على ذلك لأنك تضعنا في قلب المهرجان.
صالح الجارودي
وكان صالح قد كتب قبل أيام يقول: “أود أن أقول لك إنني أتابع بشكل يومي، وأحيانا على مدار الساعة، كل ما تكتبه من مهرجان كان، وخصوصا ما ينشر في العمود الأيمن من الصفحة. بالأمس شاهدت فيلم “روبن هود” ولم يعجبني لأنني لم أشعر أنه أضاف لي أي جديد. لقد رصدوا له ميزانية وامكانيات ضخمة حقا، لكن من الناحية الإنسانية، على الأقل بالنسبة لي، لا يوجد شيء. وحتى العلاقة بين راسل وكيت لم تبد لي متسقة. شكرا على الإضافات اليومية التي تضعنا في قلب المهرجان”.
لك كل الشكر يا صالح وليتك كنت معنا هنا في هذه المعمعة لكي تدرك مشقة المهمة، ولكني أستمتع بما يهمني ويثير اهتمامي من أفلام، وأكتب عنها بدون حساب لأهمية المخرج أو تاريخه وما يقوله عنه نقاد الغرب.
* قرأت أن سبب استبعاد فيلم جودار “الاشتراكية” من المسابقة ووضعه في قسم “نظرة خاصة” هو أولا رفض جودار حضور المهرجان ومناقشة فيلمه في مؤتمر صحفي، ولابد أن لديه أسبابه في ذلك التي لا نعلم عنها شيئا. ثانيا أنه وضع 4 دقائق من فيلمه على موقع يوتيوب ودافع في حديث منشور أجري معه، عن حق الجمهور في الحصول على المعرفة ورفض اعتباره نوعا من القرصنة، أي أنه باختصار يدافع عن القرصنة ويرفض فكرة حماية الملكية الفكرية ويضع مقابلها حماية حقوق المعرفة الفكرية. وجهة نظر جديرة بالتأمل. ولكن لماذا يفترض المهرجان أن جودار يريد المشاركة في التسابق مع أحد.. أليس هو بمستواه، خارج المنافسة مع المبتدئين والعابثين بالسينما مثل كيتانو وأمثاله؟ بالمناسبة جودار قال إن عدم تمكنه من الحضور إلى المهرجان جاء “لسبب يوناني”!
* لم تكن مسابقة الأفلام القصيرة (9 أفلام) على مستوى جيد بل شديد التواضع. وفيلم “فالنتين الأزرق” قال لي الناقد التونسي الصديق الطاهر الشيخاوي، أنه كارثي.
19 مايو
سياحة سينمائية
الذين يتساءلون عن “حجم” مهرجان كان سينمائيا، يجب أن يعلموا أن المهرجان لا يعرض أكثر من 100 فيلم في كل برامجه وأقسامه، هذا صحيح، لكنه يعرض في السوق الدولية للأفلام 900 فيلم، تعرض على مدار 12 يوما، والعروض تبدأ في الثامنة والنصف صباحا، وتنتهي في الثانية صباحا. وتدور آلات العرض في عشرات من قاعات العرض السينمائي، داخل قصر المهرجان وخارجه، في دور السينما الموجودة بالمدينة التي تعرض أفلام السوق، وغير ذلك من القاعات التي ابتدعت خلال السنوات الأخيرة مثل سينما الشاطيء، وغيرها.
وتشهد كان يوميا حوالي 250 عرضا سينمائيا (وليس فيلما حتى لا يفهم خطأ)، أي أن الأفلام تدور في آلات العرض السينمائي في كل القاعات 250 مرة أو أكثر. وتتحول المدينة كلها إلى حالة احتفال جماعي بالفن السينمائي، ولا أظن أن هناك في أي جهة على الأرض، شيئا مشابها لما يوجد في كان، لهذا فإنه مهرجان فريد من نوعه. وقد أصبح بالتالي، يستقطب الكثير من الباحثين عما يمكن أن نطلق عليه “السياحة السينمائية”. وهؤلاء السياح الذين يزورون المهرجان تحت دعوى اهتمامهم بالسينما، يبحثون عن أي وسيلة كانت، للحصول على أي نوع من أنواع التذاكر، لمشاهدة بعض الأفلام، وإن لم يكن، فهم يكتفون على الأقل، بالتواجد في الحلبة، بالقرب من النجوم والسينمائيين وخبراء السينما في العالم من النقاد ومديري المهرجانات.
وهناك بالطبع الباحثات عن الشهرة عن طريق الحصول على فرصة لدخول عالم التمثيل من أوسع أبوابه، أي عن طريق مقابلة المنتجين في الفنادق الراقية المتراصة على طول شاطيء الكروازيت. وتبذل كل واحدة من هاته الفتيات عادة، كل ما يمكنها، وتدخر لشراء ملابس على أحدث صيحة، تبرز الكثير جدا من مفاتنها، وتخفي أقل القليل، لعلها بذلك تلفت أنظار المنتجين، فربما ظهرت في دور “كومبارس” تسير في ملهى ليلي مثلا في الفيلم القادم من سلسلة أفلام جيمس بوند.
لكن الطريف أننا وجدنا خلال السنوات الأخيرة توافد عدد من الممثلين الشباب أيضا، ومن العالم العربي، الباحثين عن فرص للظهور في أفلام يكون مطلوبا فيها شاب يتكلم بالعربية أو يبدو عربي المظهر والسحنة خاصة مع توالد الأفلام التي تتناول “الإرهاب” و”الإسلام السياسي” والحرب في العراق وأفغانستان، وغير ذلك، مما أوجد “سوقا” لهؤلاء، أهمها بالتأكيد، سوق مهرجان كان.. وكل في كان، يغني على ليلاه!
* الفيلم الكوري الثاني في المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة هنا، التي تتنافس أفلامها الـ19 على السعفة الذهبية، كاد عن حق، أن يطيح بمصداقية لجنة الاختيار في كان، فهو فيلم ضعيف وبطيء وممل إلى درجة النعاس، وقد بذلت شخصيا جهدا كبيرا للصمود ساعتين و17 دقيقة أمام الشاشة، علما بأن المهرجان ارتكب خطأ فادحا ببرمجته في الثامنة والنصف صباحا. والفيلم بعنوان “شعر” Poetry، عن امرأة “عادية تماما” تجاوزت الستين من عمرها، تريد أن تعبر عن نفسها من خلال الشعر، فتذهب لتعلم الشعر (!) ويكون الدرس الأول والأخير أنها يجب أن تنظر إلى الأشياء من منظار مختلف عن نظرتها العادية وأن تبحث عن الجمال حتى في القبح. والفكرة أدبية تماما، ولم ينجح المخرج لي تشانج دونج في نقلها إلى لغة السينما بأي درجة من درجات إثارة الوجدان والخيال، بل بطريقة آلية باردة خالية من الحرارة والسحر الذي تخلقه لغة الشعر، واكتفى بأن جعلها تردد كلمات قصائدها التي تنقل إلينا بالطبع، عبر الترجمة فلا يصبح لها أي معنى في الواقع!
20 مايو
كان يخسر وفينيسيا يكسب
هناك استطلاعان من تقييم النقاد الحاضرين في مهرجان كان من قبل مجلتين هما “الفيلم الفرنسي” (نقاد فرنسا)، و”سكرين انترناشيونال” (نقاد من العالم). التقييم يعتمد على الطريقة البسيطة التي تتلخص في منح نجوم لكل فيلم. ويجري استطلاع الآراء يوميا عن كل أفلام المسابقة الرسمية. وحتى الآن ولم يعد باقيا سوى ثلاثة من أفلام المسابقة لم تعرض بعد، يتصدر نتائج الاستطلاعين فيلم “عام آخر” البريطاني لمايك لي، يليه مباشرة الفيلم الفرنسي “عن البشر والآلهة” لكزافييه بوفواه وهو الفيلم الذي أعجبني شخصيا أكثر من فيلم مايك لي لأنه يعتمد على التعبير السينمائي الأصيل الذي يبلغ مرتبة الشعر الصوفي، وفيه بلاغة موحية في الصورة، وإن كنت أيضا من المعجبين بفيلم مايك لي، غير أنه يعتمد أساسا على تحريك الممثلين وعلى الحوار والأداء التمثيلي.
المشكلة ليست في وجود فيلمين فقط هما اللذان يستقطبان اهتمام النقاد بل في وضوح الفرق بينهما وبين باقي الأفلام المعروضة في المسابقة، وهو فرق كبير وشاسع.
* الحوار التالي دار أمامي اليوم بعد مشاهدة الفيلم البريطاني “الطريق الأيرلندي” لكن لوتش، بين ثلاثة من النقاد الانجليز:
– فيلم كله ثرثرة
– بل كله صياح
– بل كله شتائم
– الأصح أن تقول إن فيه الكثير جدا من الـ fucking
هذا الحوار المقتصد جدا يلخص للأسف “حالة استقبال الفيلم” الذي أدخلوه المسابقة في اللحظة الأخيرة، فظلموه، كما ظلمونا.
* على مسؤليتي الشخصية أستطيع أن أؤكد أن مسابقة كان هذا العام هي الأسوأ منذ نحو عشرين عاما، وكأنما السينما العالمية أصبحت عاجزة عن إدهاشنا بالجديد المثير والممتع.. أو وكأن “ذراع” المهرجان الطويلة، عجزت عن الحصول على كل ما هو مهم. هذا العجز يلعب دون شك، لصالح مهرجان فينيسيا الذي بات مؤكدا حاليا أنه سيحصل على كل ما عجز “كان” عن الحصول عليه، لأسباب مختلفة منها عدم انتهاء العمل في بعض الأفلام. والأفلام التي تأكد ذهابها إلى فينيسيا هي “الأمريكي” بطولة جورج كلوني واخراج أنطون كوربن، و”نسخة بارني” بطولة داستين هوفمان واخراج ريتشارد لويس، و”سالومي المتوحشة Wild Salome ثاني فيلم يخرجه آل باتشينو، بعد “ريتشارد الثالث” عام 1996. وسيكون في فينسيا أيضا أحدث أفلام كلينت ايستوود كمخرج وهو بعنوان”الآخرة”.
وستذهب أيضا إلى فينيسيا أفلام “فينوس السوداء” لعبد اللطيف قشيش (التونسي الذي يعمل في إطار السينما الفرنسية)، و”فالازاسكا” إخراج ميشيل بلاسيدو، و”في مكان ما” لصوفيا كوبولا، و”الطريق إلى لا شيء” لمونت هيلمان، و”ميرال” لجوليان شنابل، و”رافان” للمخرج الهندي ماني راتنام.
21 مايو
مظاهرات وأفلام وتهديدات
مظاهرتان مختلفتان كل الاختلاف عن يعضهما البعض شهدهما مهرجان كان السينمائي، أو بالأحرى، شاطيء الكروازيت الشهير حيث يقام المهرجان الذي يستقطب أكثر من خمسة وثلاثين ألف ضيف وصحفي وسينمائي.
المظاهرة الأولى كانت في اليوم التالي ليوم الافتتاح، وهي مظاهرة لضباط الشرطة في بلدية مدينة كان، وكانت تهدف إلى الاحتجاج على الأحوال المتدنية التي يمارس فيها رجل الشرطة في المدينة عملهم، في حماية ضيوف المؤتمرات والمهرجانات الدولية الأخرى التي تقم في المدينة. وهم يشكون من تدني مستوى ما هو متوفر لهم من خدمات ومن ظروفهم الأمنية وأحوالهم المادية. وقد تمت المظاهرة أيضا في حماية الشرطة، أي أن الشرطة قامت بحماية متظاهريها في يوم أصروا فيه على إبراز معاناتهم أمام ضيوف المهرجان.
ووالله الذي نفسي بيده، لو وقعت مثل هذه المظاهرة في أي من بلدان “جنوب أو شرق المتوسط” لفتحت النيران بدون أدنى تردد، ولوقع عشرات القتلى وربما أعلنت أيضا حالة الطواريء ونزلت قوات الجيش لكي تحتل المدينة وترهب وتروع سكانها، وهو ما يؤكد فرضية الدكتور الفيلسوف مراد وهبة في أن الفرق بيننا وبينهم يبلغ 1600 سنة.. ويضيف البعض عليها “ضوئية”!
أما المظاهرة الثانية فقد وقعت اليوم، الجمعة، وهي مظاهرة نظمها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف الذي يتزعمه جون ماريه لوبان، وجاءت احتجاجا على عرض فيلم “خارج عن القانون” الجزائري- الفرنسي المشترك، في مسابقة المهرجان بل وفي المهرجان كله. وسبب الاحتجاج الذي شارك فيه نحو 1200 شخص، حسب تقديرات الشرطة، يعود إلى أن الفيلم يصور وقائع مذبحة مدينة سطيف التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين على أيدي قوات الاحتلال الفرنسي والمستوطنين الفرنسيين في 8 مايو 1945. وكان الجزائريون قد خرجوا للتعبير عن رغبتهم في استقلال بلادهم، ومطالبة فرنسا بالوفاء لها بوعدهم خلال الحرب العالمية الثانية، ضمانا لوقوف الجزائريين إلى جانب فرنسا ضد النازيين.
ويتهم اليمين الفرنسي فيلم رشيد بوشارب بـ”تزييف التاريخ”، ويقولون إن الجزائريين هم الذين بدأوا الاضطرابات باعتدائهم على عدد من المستوطنين في يوم واحد، وإن قوات الأمن تدخلت لفرض النظام، وإنها لم تقتل أكثر من 1200 شخص، في حين تقول الأرقام الجزائرية أن العدد يصل إلى 45 ألف قتيل.
مظاهرة الجبهة الوطنية اليمينية مرت بسلام، إلا أننا فوجئنا ونحن نصطف للدخول إلى قاعات العرض السينمائي لمشاهدة عروض الأفلام بعد الظهر، برجال الأمن يقومون بتفتيش يدوي لكل حقائب اليد، ويستبعدون منها كل زجاجات السوائل والمياه المعدنية، ثم يتم تفتيش الحقائب مرة أخرى قبل الدخول إلى القاعة بالإضافة إلى التفتيش اليدوي للأجساد. وقيل إن هذه الإجراءات جاءت تحسبا لقيام أنصار اليمين المتطرف بتفجير أحد مقار المهرجان أو إحدى قاعاته.
هذا ما نتج عن عرض فيلم “خارج عن القانون”.. أما الفيلم نفسه فهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عنه، وهو ليس في صالح الفيلم، لا من الناحية الفنية، ولا من الناحية الفكرية، وسنتناوله في مقال خاص ينشر فيما بعد. وعموما يمكنني القول إن الفيلم كان مفاجأة “صادمة” بالنسبة لمعظم الحاضرين من النقاد والسينمائيين العرب الذين يتابعون أعمال المهرجان. وهو بمثابة انتكاسة في مسيرة مخرجه الذي تألق هنا قبل 4 سنوات بالضبط بتحفته الرائعة “البلديون” (أو أيام المجد). وهو يستخدم نفس مجموعة الممثلين الذين ظهروا في هذا الفيلم، ولكن شتان ما بين سياق وسياق آخر، وبين فكر وفكر، وبين رؤية ورؤية.. والمرء يشعر بالحسرة وهو يكتب هذه الكلمات الآن!
* لم يتبق سوى عرض الفيلم الأخير في المسابقة وهو الروسي “حرقته الشمس- 2” الذي يعد الجزء الثاني من الفيلم الذي أخرجه نيكيتا ميخالكوف قبل ستة عشر عاما. وقد عرض اليوم الفيلم المجري في المسابقة بعنوان “الإبن الحنون: مشروع فرانكشتاين”.. وليس فيه ما يوحي بالرغبة في الكتابة عنه، بل يضيف كارثة أخرى من الكوارث إلى أفلام المسابقة.
التكهنات بدأت بشكل جدي الآن حول الفيلم الجدير بالسعفة الذهبية؟ أنا شخصيا أميل إلى ترجيح كفة الفيلم الفرنسي- التحفة “عن البشر والآلهة” بسبب مستواه الفني الكبير. ولكن ربما يكون حظ فيلم “عام آخر” لمايك لي هو الأكبر. وقد تحدث مفاجأة كالعادة ويحصل فيلم “شعر” Poetry الكوري مثلا على الجائزة، أو ينالها أي فيلم لا يخطر على بال أحد، فما أكثر القرارات الغريبة التي تصدر عن لجان التحكيم، خصوصا عندما يغيب عنها “عقل” يمكنه ترشيدها وتوجيهها الوجهة السليمة. وسنرى ما ستسفر عنه مداولات لجنة تيم بيرتون على أي حال.
22 مايو
* توقفت المجلات اليومية التي تصدر خلال المهرجان قبل يومين أو ثلاثة وكأنها قد استنفذت ميزانيتها المرصودة للتغطية اليومية وهو موضوع أثار تساؤلات عديدة هنا، خاصة بالنسبة ليومية “هوليوود ريبوتر” التي تتابع المهرجان. كأن هذه المجلات أصابتها سكتة قلبية.
* شاهدت الليلة فيلم الختام الذي سيعرض الأحد مساء. وهو فيلم “الشجرة” للمخرجة الفرنسية الأصل الاسترالية الجنسية، جولي بيرتوتشيللي. فيلم يصلح كسهرة تليفزيونية، موضوعه حول امرأة فقدت زوجها حديثا وتربي ثلاثة أبناء، أصغرهم “سيمون” التي تغرم بالشجرة الكبيرة التي تقع في زمام المنزل، وهي تعتلي تلك الشجرة الضخمة الأسطورية، وتتصور أن والدها الراحل يحدثها ويهمس لها عن طريقها. والأسرة تحرص كل الحرص على عدم تخفيف فروع تلك الشجرة رغم أنها تهدد المنزل بعد أن بدأت تزحف عليه. وعندما تقوم عاصفة، تتسبب الشجرة بفروعها في تحطيم محتويات المنزل مما يدفع الأسرة إلى مغادرته. المرأة تحاول اقامة علاقة مع رجل يميل إليها ويساعدها في تسيير أمورها اليومية، غير أن هذه العلاقة تواجه برفض من سيمون المرتبطة بوالدها الراحل كثيرا، فتنتهي العلاقة لكن النهاية تظل مفتوحة، فمن الممكن أن تعود المرأة واسمها”دون” (أي فجر) لاستئنافها مجددا. فيلم فيه من السذاجة أكثر مما فيه من العمق، وهو يكمل دائرة الاختيارات السيئة للأخ تييري فيرمو، ويجعلنا نتحسر على العصر الذهبي للمهرجان تحت إدارة جيل جاكوب.. ذلك العصر الذي شاهدنا فيه كيروساوا يقدم آخر أفلامه “مادادايو”، وولادة تشين كايجي بالفيلم الكبير “الوداع ياخليلتي”، والأرجنتيني المخضرم فرناندو سولاناس وهو يقدم تحفته “الجنوب” El Sur.. كانت أيام كنا فيها نتطلع إلى العلا!
* فنادق كان رفعت أسعارها خمسة أضعاف السعر العادي لاستنزاف ضيوف المهرجان متصورين انهم جميعا من المليونيرات ومنتجي الأفلام، وهو تصور من أحط ما يمكن في دولة يفترض أن نسبة “التعليم” فيها مرتفعة، لكنه الجشع الفرنسي التقليدي والرغبة الشرسة في الاستغلال، ولكن المدهش أن البلدية والسلطات تغض الطرف باستمرار عن هذا الاستغلال البشع، تحت شعار “حرية السوق”، أي حريتي كتاجر في نهش لحمك.
فنادق النجمتين التي يبلغ إيجار الليلة الواحدة في موسم الذروة أي في عز أشهر المصيف، 60 يورو، رفعت أسعارها إلى 250 يورو في الليلة، شريطة أن تقضي 12 يوما أيضا، فإذا أردت أن تبقى أسبوعا فقط، فليس لك مكان إلا لو كنت على استعداد لدفع قيمة الـ12 يوما كاملة. وهناك فندق من فنادق النجوم الثلاثة يتقاضى أصلا 80 يورو في الليلة رفع سعره إلى 400 يورو في الليلة مرة واحدة، هكذا بكل وقاحة، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض. المشكلة أن نقاد السينما والصحافة السينمائية ليس لهم جهة يمكنها أن تتدخل لحماية مصالحهم، بل ان ادارة المهرجان يبدو أيضا أنها تتواطأ مع أصحاب الفنادق والمطاعم من اللصوص، مقابل حصول المهرجان على نسبة معينة من الغرف مجانا للضيوف المحظوظين الذين يدعوهم المهرجان وينزلهم في الفنادق القريبة.
ولعل الأمر الإيجابي أن نسبة الإشغال في الفنادق تراجعت كثيرا جدا هذا العام بسبب هذا الارتفاع المخيف في الأسعار، لعله يرغم اللصوص على الحد قليلا من حجم سرقاتهم.
تذكرت اليوم أن صديقنا صلاح هاشم كان يقول إن المرء يجب أن يذهب إلى كان حتى لو نام في خيمة على البحر!