أفلام الشباب في أيام السينما العراقية
صالح الصحن
ضمن مخطط دائرة السينما والمسرح ، يعقد بين حين واخرفي بغداد، عدد من الفعاليات الفنية باختصاصات مختلفة، في أيامها السينمائية اتاحت لنا طقسا ملونا مغايرا لمجمل أعمال شبابية من الافلام التي تنافست عبر لجنة حكم متمرسة اثمرت عن فوز ثلاثة افلام، الأول فيلم اجازة للمخرج حيدر موسى دفار والثاني فيلم اخر حلم للمخرج ملاك عبد علي، والثالث فيلم تواليت للمخرج إياس جهاد، مع عروض عدد من الافلام المصنعة باشتغال طموح يسعى لنيل ثقة الجمهور وذائقة التلقي، ايام سينمائية تواجد فيها المهتمون والمعنيون والمختصون وعشاق السينما وغيرهم من اغلب محافظات البلاد، بأجواء ثقافية صحية في الحوار والتداول والنقاش والتفسير والنقد وغيرها من تمثلات الثقافة السينمائية، ولأجل التوقف عند الانطباعات التي تولدت لدينا عن هذه الافلام، نقول : فيلم اجازة، للمخرج حيدر موسى دفار :
فيلم يتناول تأثير الحرب على الإنسان، وبقدر حدود حياته الإنسانية والعاطفية والاجتماعية،
اذ يبدأ الفيلم في تحضير المرأة لحالها لقدوم زوجها من إجازته،ويمكن تأشير ملامح قراءتنا للفيلم..
. فلسفة الفيلم تفصح عن رفض فكرة الحرب،
.. كشفت عن تأثير الحرب على الحياة الإنسانية.
استخدم المخرج علامات سيميائية بحمل الدلالة العاطفية والحسية، كرفع الشعر، والمكياج، وقدر الماء المغلي، والسرير، والوسادة، بمدلولات الاشتياق.
تقصد المخرج بانتقاء حوارات نافذة جدا عن الحس التعبيري لاداء الممثلة الاء نجم كتدفق المجرى السردي لقصة الفيلم. في مقابل تجريد الممثل صادق الوالي من الحوار في إطار نسق شخصية جندي، لا رأي له، وما عليه إلا أن يساق للحرب بشتى السبل، ولكن حاول التجسيد بقدر من التعبير بحركاته واحساسه وانفعالاته..
كان على المخرج اختيار علامة أخرى للتعبير عن الفترة الزمنية أو نظام الحكم، او اي تمثل للحرب دون اختيار الصورة العسكرية بحمل البندقية التي ظهرت بأقل من التعبير عن شحنة الغرض المراد.
يبدو أن هناك قصدية واضحة في انتقاء الثنائية في الفيلم، وهي الحرب والسلم، الزوج والزوجة، الجندي وزميله الجندي الاخر في الموضع العسكري، امراتان في الزقاق تخرجان من منزلهما من حين لآخر ترجعا اليه دون أدنى تبدل في ملابسهما،” مرتان” يمشي الجندي صادق الوالي في الزقاق، وفي أحد المرات يتزامن مروره مع شخص بدراجته واخرى مع طفل بدراجته، وكذلك عبارة الزوجة “صرنا اثنينا جنود، انت تذهب لوحدتك وانا ابقى في وحدتي، او المقارنة بين اثنين” تمنيت تحضني بگد ما حضنت الكلاشنكوف “، بوصفها خصما يحرمها عاطفيا.
كان اختيار اسم الفيلم، علامة تعبيرية للأهمية الكبرى في حياة الجندي وهي” الاجازة”التي تمنحه فرصة استرخاء وهدوء وأمان بعيدا عن الحرب والموت..
احسن اختيار قطع مونتاجي بين لقطة الجندي وزوجته في لحظة قبلة عاطفية هانئة، وقبل ان تكتمل يقطع إلى لقطة الجاكوك وهو يضرب على المسار لقطعة شهيد، بمعنى ان موت الحرب قتل الحب،
مشهد بفعل تعبيري عال للزوجة عندما تضحك بقهقهات متواصلة للتعبير عن سخرية خيار الحرب،
اتخذت الموسيقى التصويرية تدفقا هادئا، وخال من الضربات والمتغيرات التي تحصل في مجرى الايقاع الفيلمي،
كان على قصة الفيلم ان تتضمن ما يشير إلى اوجاع ومآسي الحرب، وعدم الاقتصار بحدود الصلة العاطفية للحياة،
بإمكان الفيلم ان يكون تاطيرا للحلم بالواقع، وليس العكس ، وان يسقط الفكرة على التجسيد، دون استنباطها منه.
واخيرا حاول المخرج ان يمسك بمساحة حدود السيناريو، وان يطلق حواراته بانتقاء حاذق، مع مهارة
الاشتغال على صنع الدلالة في الصورة والصوت، وتفعيل مستوى الاحساس الإنساني، وحرمان الذات، وبلغة الموت المبكر،
فيلم اخر حلم للمخرج ملاك عبد علي..
عادة ما تكون مساحة الأحلام هي أفضل الفضاءات التي تنتعش وتزدهر في عالم الافلام، ذلك ما يجعل التلقي، حاملا طائرا محلقا بحثا عن الحرية، وما ينبغي أن يكون. فيلم قصير لمخرج شاب، حمل أحلامه منذ مقاعد الدراسة وأفكاره المشوشة عن المستقبل، الذي بدا ان يراه شيئا فشيئا، اي بعدد أفلامه القصيرة التي نفذها بعد تخرجه، . ففي فيلم اخر حلم .تبدو اول لقطة بلوحات ملونة ببريق طغى عليه اللون الأحمر بوصف الدلالة العاطفية العالية للون السائد في اللوحات مع قصدية عدم وضوح الإطار الخلفي للدراجات المرسومة في اللوحة، وما احلى من شكل المرسم، عالم الفن واللون والتشكيل والتأمل، الذي احسن المخرج لقطاته التعبيرية. وقصة الفيلم لم تتبنى قضية كبرى خاضعة لاشتراطات القص التقليدي، وإنما حاول إيصال رسالة الفيلم عن طريق شخصيتين هما الرسام والموديل يحصل بينهما لقاء في معرض بلندن، اذ تعيش هناك في حياة مادية دون مشاعر وحنان، مما دفعها الذهاب إلى الرسام في بغداد بحثا عن الحياة والحب رغم الافكار المشوشة التي تولدت لديها عن بغداد وأهلها ، و هناك أكثر من فيلم في السينما يتناول أو يشير في مشاهد محدودة موضوع اللوحات والفتاة الموديل، ففي هذا الفيلم:
هناك جرأة في الفيلم لمنحه البطولة لفتاة طامحة نحو الحرية، وكسر القيود ومفردة العيب.كلقطة الشرب والسيقان والرقصة الحالمة ودعوة السرير، وغيرها
الألوان الناصعة المشرقة في اللوحات لا تخلو من بهجة الأمل وغواية الحلم الذي غلف حياة الابطال.
..ليست العفوية هي التي دعت صاحب العمارة ان ينبه البطل مازن “إياد الطائي” بأن التانكي “مزروف” وإنما في إشارة اوعلامة لا تخلو من دلالة عن ثقب أو ثلمة أو نقص أو انكسار أو اخفاق أو أي خلل في شيء ما، للتنبيه.وهو اشتغال مدرك لأهمية العلامة في الفيلم.
كان بوسع المخرج ان يضيف للبطل مازن بعضا من الحوارات أو الحركات لتعزيز نمط شخصيته المنعزلة، تضاف إلى حضوره اللافت بالأداء المتقن،
يبدو أن اختيار البطلة وردة “فاطمة ابو هارون” كان موفقا جدا في إجادة التمثيل والتجسيد التعبيري، ولكن كان عليها ان تتدرب أكثر في قراءة الرسالة. .
رغم ان القصة تشير إلى فترة ما بعد 2003، ملامح الحرب والقتل وفقدان الأمن، ولكن بحاجة إلى بعض المشاهد في بغداد التي تعزز من إدانة الممارسات المتوحشة، وهذا ما يتعلق بالنص الذي جاء على لسان البطلة وردة “فاطمة ابو هارون” وهنا يمكن للإنتاج ان يساعد في ذلك. .
أجاد المخرج حرفة التكثيف والاختزال بقدر واع لحجم الزخم الانتاجي المقرر لميزانية الفيلم..
منذ دخول الفتاة الموديل إلى غرفة الرسام بايحاء هامس، رسم المخرج لعبة الحلم الذي توالت عليه الافكار والمشاهد.
أجاد التصوير حسن توزيع الكوادر بتنوع في الحجوم والزوايا مع مراعاة شكل الحركة ومتطلبات الفعل المرسوم.
اكتفى المخرج بالصوت والمؤثرات الصوتية للإشارة إلى الحرب والانفجارات والفوضى.في ضوء الاختصار والأختزال.
كان القطع الاني في المونتاج محسوب لحجم اللقطة وزمن بقاءها بما يحقق شبكة ارتباط لمجمل المشاهد بايقاع نابض بالحيوية والترقب.
كان هناك اهتمام موفق في تكوين مشاهد أضفت جمالية عالية في جسد الفيلم كمشهد تصوير دجلة من الأعلى في حدث الانفجار، ومشهد لقاء البطين في الشرفة المضيء بعتمة التكوين التعبيري، وكذلك مشاهد المرسم المتوازنة التكوين. ومشهد البطلين على الدراجة في شارع الرشيد ليلا، قبل تعرضهما للمسلحين.
فيلم تواليت للمخرج إياس جهاد.
فيلم تدور احداثه في الفترة السوداء التي دخلت فيها عناصر داعش مدينة الموصل، بنظام دولة الخلافة، وما يترتب على ذلك من أحكام مغايرة لما هو سائد في المدينة. ومن هذه الأحكام صدور فتوى بتحريم استخدام الحمامات الغربية، في مشهد تجمع فيه أفراد داعش وهم يسمعون إلى خطبة لم يحسن قارئها النطق السليم باشتراطات النحو. مع انتشار العناصر على المحلات والمنازل لتكسير نماذج الحمامات المعروضة، وفي هذا النص الفيلمي اعتمد الكاتب والمخرج اسلوب المعالجة بطريقة السخرية والاستهجان لهكذا فتاوى، ويمكن تحديد بعض الملاحظات التي نعتقدها انطباعا ايجابيا عن الفيلم، وهي :
اعتمد النص على فكرة إدانة داعش ودعواته التي لا تناسب افكار وطبيعة المجتمع. ولن يذهب إلى أكثر من خيط سردي اخر.
اقتصرت معالجة المخرج للموضوع بمحاكاة الاسلوب التهكمي، واستغفال الخصم الداعي
ارتكز الفيلم في مساحة مشاهده الرئيسية على فاعلية واداء دور الطبيب الذي جسده الممثل سراب ابراهيم بعناية وإتقان وحضور واع، بمستوى ضمير التلقي.
تمثل مشهد تفريغ زجاجات الخمر بدوارق المختبر في عيادة الطبيب للسخرية العالية التي ابتكرها النص الفيلمي كاسلوب للتهكم وبحذر شديد يتلائم مع نبذ أجواء الخوف والرعب التي تصاعدت في فترة داعش المخفية.
عمد المخرج في إطار كسر المخاوف والتصدي لحالات الرعب بخلق مشهد اجواء الموسيقى الراقصة وأغنية ام كلثوم للصبر حدود وما تعني هذه العبارة من دلالات عميقة، والتي أجاد فيها الطبيب وهو يفرغ الخمر في الدوار واخفاءه، بحركات تتمايل وتتناغم مع ايقاع الموسيقى والاغنية في إطار الانسجام والتمسك بالحالة النفسية والسلوكية السائدة في الموصل، وعدم الانجرار بما يفرضه الخصم اللعين.
حاول المخرج من خلال شخصية امير داعش البطل النجم سعد محسن وعناصره الملتفة حوله بخلق حالة التجسيد لهيئة الخصم المرعبة والصورة المتمثلة في ذهنية التلقي عن حالات التجبر والطغيان وفرض القوة.
كان الاشتغال الفني في التصويربارزا في سيادة الصورة على الحوار، بخيار المخرج في لغة الصورة أكثر دفقا في التعبير وكشف الدلالة،
كان مشهد معالجة الفتاة الايزيدية داخل العيادة في منزل الطبيب، مصمما بإطار التخفي من ملاحقة عناصر داعش، وبسرعة إجراءات الطبيب الذي دفعهم للخروج من الباب الخلفي، ولكن أثناء خروجهم يطرق الباب من قبل عناصر داعش بفترة زمنية أطول من فترة إخفاء آثار العمل من قبل الطبيب،بما يثلم سمة الإقناع في تسوية المشهد..
نهاية الفيلم، كان هناك مشهدين، الأول هو إجبار الطبيب من قبل الامير على تسجيل لقاء للحديث عن فوائد التواليت الشرقي ومضار الغربي ، بما كنا لا نتمناه ان يكون بهذا التصريح، رغم نفاذ خيارات رفض الأمر، في حين كان المشهد الاخير في اخراج الطبيب نموذج تواليت غربي كان مخبئا في احد القنفات ووضعه في الحمام وفوق النموذج الشرقي والجلوس عليه تنفيذا للحاجة للدلالة على تحدي القرار الداعي، وفي اطار السخرية والازدراء .
كان فيلم تواليت،حكاية بصرية قصيرة حافظت على مستوى التجسيد في بث رسالة الفيلم بصريا،